back to top
المزيد

    واحة البيان

    عقيدة جياب في ثوبها المعاصر: كسر السيف والمسافة صفر كفنً قتالي

    م.م.أنغام عادل حبيب / جامعة النهرين

    في خضم الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الممتد لعقود، تبرز تكتيكات عسكرية متطورة تهدف الى تحقيق أهداف استراتيجية مع تقليل الخسائر الجانبية. أحد هذه التكتيكات هو “المسافة صفر” Zero – Distance Tactic، الذي يعكس ابتعادا من الأساليب الكلاسيكية للمقاومة الى نمط أكثر جراءة وتعقيدا، يندمج فيه البعد النفسي مع الفعالية الميدانية، إذ تتجاوز أهمية هذا التكتيك بعده العملياتي لتعكس عمقا في فلسفة الاشتباك المباشر، وأساليب الردع غير متماثل في ظل اختلال ميزان القوة الكلاسيكي.

    يشير تكتيك “المسافة صفر” الى الاشتباك المباشر وجها لوجه بين المقاومة وقوات الاحتلال، دون مسافة فاصلة تتيح للأخيرة استخدام قوتها النارية المتفوقة أو أدوات الرصد الجوي والذكي بفعالية. وغالبا ما ينفذ هذا التكتيك من خلال أشكال قتالية متعددة منها: إطلاق نار مباغت من مسافة قصيرة جدا، أو تفجير عبوات محلية الى جنب مركبات عسكرية مصفحة عبر تفخيخ الازقة والممرات الضيقة. لا يعد هذا التكتيك مجرد ابتكار ميداني عفوي، بل هو امتداد لميراث طويل من حروب العصابات، يمكن تتبعه بوضوح في تجربة الجنرال الفيتنامي “فو نكوين جياب”، الذي قاد حرب التحرير الفيتنامية ضد الفرنسيين والأمريكيين بتكتيكات اشتباك قريب ومحاصرة للقوة التكنولوجية من مسافات قاتلة ومفاجئة. وكما سعى جياب الى “نقل الحرب الى نقطة لا تُجدي فيها الطائرات ولا المدفعية وحتى الهاونات قصيرة المدى نفعا في تقليل قوة التأثير المباشر”، فإن المقاوم الفلسطيني يكرر ذات الفلسفة ميدانيا، من خلال خلق اشتباك مباشر وجها لوجه مع قوات الاحتلال في بيئات حضرية معقدة، تفقد العدو قدرته على الاستفادة من تفوقه الناري والتقني.

    بهذا المعنى، فإن تكتيك “المسافة صفر” لا يفهم بمعزل عن مسار تطوري طويل في حروب الفواعل غير النظامية، بل يمثل لحظة اندماج بين الإرث الثوري لحروب التحرير ومتطلبات البيئة العملياتية الفلسطينية الحديثة. ففي 19 أبريل/ نيسان 2025، نفذت كتائب القسام كمين “كسر السيف” ضد وحدة إسرائيلية خاصة في منطقة شرق بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، وتمت تسمية كمين “كسر السيف” بهذا الاسم لأسباب رمزية وتكتيكية تعكس أهداف العملية ورسائلها، فهو يشير الى التعبير على البقاء وتحطيم قوة العدو، فهو كاسر السيف الذي يضرب السيوف الحديدية الإسرائيلية.

    ان ما يميز العملية ليس فقط الخسائر التي الحقتها بالخصم – من قتلى وأسرى – بل هندسة الكمين ذاته، والذي بني على قاعدة استخباراتية محكمة وخداع عملياتي طويل الأمد. تضمن الكمين”

    • توجيه معلومات مضللة لإغراء وحدة النخبة بالتقدم الى نقطة رصد مسيطر عليها مسبقا.
    • تهيئة شبكة أنفاق ثلاثية الابعاد تسمح بالاشتباك من الخلف والأجنحة، إضافة الى انسحاب آمن.
    • استخدام الأرض كسلاح استراتيجي، عبر تفجير جزئي للنفق أسفل الوحدة المتقدمة.

    العملية تعكس بهذا الشكل تحول الأنفاق من أداة لوجستية الى بنية عملياتية هجومية تستخدم للتحكم بمجال الاشتباك وتوجيه نتائجه وتجعل العدو يفقد قدرته على الاستغلال الأمثل لقوته النارية والجوانب الفنية التي يمتلكها.

    كمين “كسر السيف” يعد نموذجا لما يمكن تسميته (الردع بالمباغتة)، حيث أدى نجاح المقاومة الى امتصاص القدرة التقنية الإسرائيلية (الاستطلاع، الطائرات المسيرة، التنصت) الى فضح ضعف الاعتماد الإسرائيلي على أدوات التفوق التقني مقابل الانغلاق الأرضي. هذه الديناميكية شبيهة تماما بتلك التي انتجها جياب في فيتنام، حيث تمكن من دفع الجيش الفرنسي وجيش الولايات المتحدة الى فقدان السيطرة الميدانية رغم امتلاكها تفوقا جويا واستخباراتيا هائلا.

    تماما كما استخدم جياب أنفاق “كوتشي” للتمركز والتنقل والتخزين والاشتباك، فعلت حماس الأمر ذاته في كمين “كسر السيف”، إلا ان الفرق الأهم يتمثل في ان حماس قامت بتطوير تلك الأنفاق لإداء وظيفة هجومية مركبة، تعتمد على التكامل بين الأرضي وتكتيكات الكر والفر المدعومة بالمعلومات الاستخبارية. أما من الناحية الاستراتيجية، أجبر الكمين صناع القرار في تل أبيب على إعادة تقييم فعالية عمليات التوغل المحدود، وطرح مجددا إشكالية جدوى القتال الأرضي في بيئة أنفاقية نشطة. هذه المعضلة، وهي ذاتها التي واجهتها واشنطن في فيتنام، تعني ان الكلفة السياسية والعملياتية لأي توغل بري ستظل مرتفعة، مما يعزز تأثير المقاومة في لعبة الردع طويل الأمد.

    في الختام، يُثبت كمين “كسر السيف” ان حروب الأنفاق لم تعد حكرا على ذاكرة القرن العشرين، بل أصبحت أحد أعمدة القتال المعاصر في البيئات الحضرية المكتظة لاسيما من قبل الفواعل من غير الدول التي تضطر للاشتباك مع قوات نظامية.

    حماس، عبر هذه العملية، لا تعيد فقط إحياء تراث جياب، بل تطوره وتمنحه بعدا تقنيا ومعرفيا جديدا، يجعل من الأرض نفسها أداة مناورة استراتيجية. في ظل اختلال موازين القوى التقليدية، تبرز الأنفاق كأداة لخلخلة ميزان الردع الميداني، يوازي التفوق التقني والابتكار المقاوم. وهذا يعيد الاعتبار لمقولات جياب القديمة، حين قال: (كلما زاد سلاح العدو، صٌغر طيف حركته… وكلما عظمت إرادتنا، زادت خياراتنا).

    اقرأ ايضاً