رياض محمد خلباس / مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية / جامعة بغداد
مقدمة
في جمعة دامية من يونيو 2025، نفذت إسرائيل عملية مزدوجة تنوعت بين ضربات جوية استهدفت قادة في النظام الإيراني، وعمليات استخبارية دقيقة عبر عملاء للموساد، شملت إفشال منظومات الدفاع الجوي، وتوجيه طائرات مسيّرة لتنفيذ اغتيالات داخل العمق الإيراني. الهجمات طالت منشآت عسكرية وعلمية حساسة في واحدة من أخطر العمليات المركبة منذ عقدين. غير أن الرد الإيراني لم يكن هذه المرة ناعماً أو مؤجلاً، بل جاء حاداً ومباشراً، عبر موجة صواريخ استهدفت العمق الإسرائيلي. هذا الحدث كسر سردية “إسرائيل التي لا تُهزم”، وفرض واقعاً جديدا.
أولاً: عملاء الموساد وعمليات التخريب المصاحبة للاغتيالات
كشفت التقارير الأولية أن العملية الإسرائيلية الأخيرة داخل إيران لم تعتمد فقط على الضربات الجوية أو التكنولوجية، بل استندت بشكل أساسي إلى خلايا داخلية تابعة للموساد، نجحت في اختراق بعض البنى المدنية والعسكرية. شملت الهجمات استهداف مراكز أبحاث، منشآت طاقة، وتعطيل أنظمة اتصالات في اللحظة نفسها التي تم فيها تنفيذ اغتيالات دقيقة بحق شخصيات قيادية في الحرس الثوري الإيراني. الهدف كان واضحاً: إنهاك الدولة من الداخل وإحداث صدمة نفسية وسياسية تعرقل قدرة النظام على الرد.
ثانياً: الرد الإيراني وكسر سردية إسرائيل التي لا تُهزم
لكن إيران لم تتصرف كما توقعت تل أبيب. فبعد ساعات من العملية، ردّت طهران بوابل من الصواريخ الباليستية الدقيقة، التي أصابت أهدافاً حساسة داخل إسرائيل، بينها منشآت استخباراتية قرب تل أبيب ومركز قيادة عسكري في النقب. هذا الرد غير المسبوق نقل المواجهة إلى مستوى جديد، وأسقط فكرة أن إسرائيل تملك اليد العليا دائماً، أو أن الموساد قادر على العمل دون ردّ مكافئ. بل تحولت “الضربة الإسرائيلية” إلى نقطة بداية لتحول جذري في قواعد الاشتباك.
ثالثاً: إيران الجذور مقابل إسرائيل المتفرقة
تكشف هذه المواجهة عمق الفارق البنيوي بين الشعبين: فبينما يتكوّن المجتمع الإيراني من نسيج وطني تاريخي له جذور حضارية ممتدة لآلاف السنين، يتشكل المجتمع الإسرائيلي من مهاجرين جاؤوا من أكثر من 80 دولة، يحملون خلفيات وهويات متباينة، وكثير منهم يحتفظ بجنسيات مزدوجة. هذا الفارق في “الارتباط الوجودي” يمنح إيران قدرة أكبر على التعبئة الوطنية في أوقات الأزمات، بينما تواجه إسرائيل تحدياً داخلياً في الحفاظ على وحدة صفها في حال تطور الصراع إلى حرب دائمة
رابعاً: رغم الدعم الأميركي.. فشل في صدّ الصواريخ الإيرانية
رغم امتلاك إسرائيل واحدة من أكثر منظومات الدفاع الجوي تطوراً في العالم، مدعومة تكنولوجياً ولوجستياً من الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الضربة الإيرانية الأخيرة كشفت عن هشاشة هذه المنظومة أمام صواريخ باليستية دقيقة ومتعددة الاتجاهات. لم تفلح القبة الحديدية، ولا منظومة مقلاع داود، ولا الأنظمة الأميركية ثاد وغيرها المساندة، في منع تساقط عدد من الصواريخ على مناطق حيوية. هذا الفشل يعكس تطور البرنامج الصاروخي الإيراني كمياً ونوعياً، وقدرته على تجاوز أنظمة الحماية الغربية المعقدة، وهو ما شكّل مفاجأة للدوائر الأمنية في تل أبيب وواشنطن على حد سواء
خامساً: سقوط المشروع الاستخباري الإسرائيلي
أثبت الرد الإيراني أن مشروع تفكيك النظام عبر أدوات غير تقليدية – استخبارات، تخريب، اغتيالات – قد وصل إلى حده الأقصى، وأن أي محاولات إضافية ستؤدي إلى تصعيد ميداني مباشر. لقد فشل الموساد، رغم اختراقاته المؤلمة، في تحقيق هدفه الاستراتيجي: زعزعة استقرار النظام. كما أثبتت الوقائع أن هذه العمليات لم تنجح في إبطاء البرنامج النووي الإيراني، فضلاً عن استحالة تدميره عبر هذه الوسائل المحدودة. فالمنشآت النووية الإيرانية باتت موزعة، محصنة، ومزودة بمنظومات استجابة طارئة، ما يجعل من الحلم الإسرائيلي بتعطيله بالكامل
خاتمة
ما جرى في يونيو 2025 لا يمكن اعتباره مجرد تصعيد عابر بين خصمين إقليميين، بل يُعدّ حدثاً جيواستراتيجياً بامتياز، سيعيد صياغة ميزان القوى في الشرق الأوسط لعقود قادمة. لقد انهارت سردية “الردع الإسرائيلي المطلق” أمام ضربة إيرانية مركبة، استخدمت فيها طهران قدراتها الصاروخية والاستخبارية لتوجيه رسالة واضحة بأن زمن التفرّد الإسرائيلي بالقرار الأمني قد انتهى هذا التحول لا يُقاس فقط بحجم الصواريخ أو مدى الأهداف، بل بحجم الأثر الذي خلّفه في العقل الاستراتيجي الإقليمي والدولي. فالدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، باتت مضطرة لإعادة تقييم فعالية تحالفاتها العسكرية، وفاعلية أنظمة الدفاع الجوي التي أغرقت بها المنطقة، بينما تجد تل أبيب نفسها أمام واقع جديد يُضعف من قدرتها على فرض الإرادة من طرف واحد.
كما أن الحدث كشف عن أن إيران لا تنظر إلى أمنها بوصفه قضية دفاع فقط، بل كجزء من منظومة ردع شاملة تشمل الجغرافيا السياسية، والعمق الاجتماعي، والقدرة على المناورة الميدانية عبر شبكة حلفائها. ومع تصدع الأسس التي بُني عليها مشروع الموساد في الداخل الإيراني، يمكن القول إن مشروع زعزعة النظام بات في حالة انحدار.
لقد دخل الشرق الأوسط فصلاً جديداً من تاريخه، حيث أصبح التوازن في الردع لا يُحتسب فقط بعدد الطائرات والدبابات، بل بعمق الإرادة السياسية ومتانة الجبهة الداخلية. ومع هذه المعطيات، فإن الحدث الأخير سيكون علامة فارقة على طريق تشكل نظام إقليمي جديد، لا تكون فيه إسرائيل اللاعب الوحيد فوق أرضٍ ملتهبة بالتغيرات.