مرام مازن حاتم
تتجه أنظار العالم في يونيو 2025 نحو العاصمة البريطانية لندن ، حيث أنه من المقرر أن تُعقد محادثات تجارية مهمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية . في خطوة يُنظر إليها باعتبارها فرصة لإعادة ترتيب ملامح العلاقة بين القوتين الأعظم في العالم ، في ظل التوترات المتزايدة التي ألقت بظلالها على الإقتصاد العالمي خلال السنوات الأخيرة.
وفي السياق العام لهذه المحادثات تأتي في وقت يمر فيه النظام الدولي بمرحلة إنتقالية معقّدة ، حيث يتقاطع فيها التنافس الإقتصادي مع التحولات التكنولوجية والتوترات الجيوسياسية والإختلالات الهيكلية في سلاسل الإمداد العالمية .
ورغم الطابع “التجاري” المُعلن لهذه المحادثات ، إلا أن جوهرها الحقيقي يتعدى الإقتصاد ، ليلامس عمق التوازنات الجيوسياسية الراهنة ، والسؤال هو من يقود العالم في العقد القادم؟
إذ أن من عودة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب الى البيت الأبيض في يناير 2025 ، عبر فوز إنتخابي غير مسبوق أتى به الى سدة الحكم لولاية ثانية غير متتالية ، إتخذت الإدارة الأمريكية الجديدة خطوات سريعة لإعادة رسم السياسات الإقتصادية و التجارية ، وابرزها :
- إعادة تقييم الإتفاقيات التجارية متعددة الأطراف .
- فرض تعريفات جمركية إضافية على الواردات الصينية في قطاعات إستراتيجية .
- إصدار توجيهات رئاسية لتقليص الإعتماد على المنتجات التكنولوجية الآتية من الصين .
- تعزيز التحالفات الإقتصادية الثنائية مع حلفاء مثل الهند واليابان وبريطانيا .
في المقابل ، عملت بكين على إحتواء هذا التحوّل الأمريكي عبر إستراتيجيات “الإحتواء المرن” ، متبنّية خطاباً دبلوماسياً عقلانياً ، ومعلنة إستعدادها للحوار من دون تقديم تنازلات جوهرية في قضايا تراها سيادية ، مثل السياسة الصناعية ودعم الشركات الوطنية ومستقبل الإبتكار التكنولوجي .
أما بالنبسة لإختيار شهر يونيو 2025 لإنعقاد هذه المحادثات يعكس توافقاً غير مُعلَن بين الجانبين على ضرورة إدارة الصراع لا تصعيده ، خصوصاً في ظل :
- تباطؤ النمو العالمي الناتج عن إضطراب سلاسل الإمداد .
- إرتفاع مستويات التضخم في الأسواق الناشئة بسبب تقلّب أسعار الطاقة .
- الضغوط المتزايدة على الإقتصاد الصيني جراء تراجع الطلب العالمي وتباطؤ الصادرات.
- حاجة إدارة ترامب لتحقيق توازن دولي في مواجهة روسيا ، وكسب تحالفات إقتصادية لموازنة الكتلة الأوروبية .
أما إختيار لندن كمكان للقاء ، فيُعد رمزياً وعملياً في آن واحد ؛ فهي حليف موثوق لواشنطن ، وتتمتع بعلاقات إقتصادية مستقرة مع بكين ، مما يجعلها موقعاً محايداً يمكنه تسهيل التفاوض بعيداً عن الضغوط الإعلامية والسياسية المباشرة .
ولن تقتصر المباحثات على بنود تجارية تقليدية ، بل ستشمل ملفات شديدة الحساسية ، و أبرزها:
- السياسات الجمركية:
- مراجعة للتعريفات التي فرضتها إدارة ترامب سابقًا.
- آليات حماية الأسواق الوطنية دون خرق قواعد منظمة التجارة العالمية.
- التكنولوجيا المتقدمة:
- نقاشات حول تنظيم الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية.
- مستقبل أشباه الموصلات وتقنيات الجيل السادس (6G) .
- سلاسل الإمداد:
- إعادة هيكلتها بعيدًا عن الاعتماد المتبادل الخطر، خصوصًا بعد دروس جائحة كورونا.
- الاستثمار الأجنبي والتملك:
- مخاوف أمريكية من توغل رأس المال الصيني في البنى التحتية الحيوية.
- رغبة صينية بضمان بيئة استثمارية غير معادية في الغرب.
- الملكية الفكرية:
- اتهامات مستمرة للصين بالقرصنة الصناعية.
- مساعٍ لإنشاء نظام مراقبة دولي ملزم.
من منظور تحليلي، هذه المحادثات لا تمثل تقاربًا حقيقيًا بقدر ما تعكس محاولة لتفادي الانفجار التجاري بين القوتين. إذ يدرك الطرفان أن الاستمرار في نهج التصعيد سيقود إلى:
- ركود اقتصادي عالمي واسع.
- فقدان الثقة في النظام التجاري الدولي.
- ارتفاع تكلفة الابتكار نتيجة تقييد التعاون البحثي.
- دفع الدول النامية نحو تكتلات اقتصادية جديدة، بعيدًا عن واشنطن وبكين.
لكن في الوقت نفسه، فإن اختلاف طبيعة الأنظمة السياسية، وتباين الأيديولوجيا الاقتصادية، واستمرار التنافس العسكري غير المباشر، تجعل من الصعب الحديث عن تسوية طويلة الأمد ، وما نراه إذًا هو نوع من “إدارة ذكية للتنافس” أكثر منه نية حقيقية للوصول إلى تحالف اقتصادي استراتيجي.
وبعيداً عن الخطابات الدبلوماسية ، يمكن تلخيص ما تحتاجه هذه المرحلة في ثلاث كلمات : آليات ،مؤسسات ، وشفافية .
ومن الحلول المقترحة :
- 1. تشكيل لجنة مشتركة دائمة تضم ممثلين من الجانبين وخبراء دوليين لمتابعة تطبيق الاتفاقات.
- 2. تبنّي مبادئ الشفافية الرقمية في إدارة البيانات العابرة للحدود.
- 3. استحداث منصة دولية لفض النزاعات التجارية بدلًا من الاعتماد على المواجهات القضائية الفردية.
- 4. إشراك القطاع الخاص والجامعات في التفاهمات التكنولوجية لضمان استمرار التعاون العلمي دون تسييس.
- 5. تشجيع الاستثمار المتبادل المنضبط من خلال تشريعات تحمي السيادة وتضمن الانفتاح.
في ضوء المحادثات المقبلة في لندن ، يبدو أن العالم بصدد مرحلة إعادة تعريف لمفهوم “القوة الاقتصادية”.
و لم تعد السيطرة على الأسواق هي الهدف الوحيد ، بل بات الصراع يدور حول من يضع قواعد اللعبة في مجالات الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، والطاقة النظيفة.
إذ أن الولايات المتحدة تريد تثبيت زعامتها التكنولوجية والمالية، بينما تسعى الصين إلى كسر احتكار الغرب للمستقبل. وبين هذا وذاك، تقف لندن حاضنة لحوار بالغ الحساسية، قد لا ينهي الخلافات، لكنه على الأقل يمنع انفجارها.
وعليه ، فإن مخرجات قمة لندن لن تُقاس بعدد الاتفاقيات الموقعة، بل بمدى قدرة الطرفين على بناء أساس جديد لتوازن دولي مستقر، لا يقوم على الهيمنة، بل على الإدارة العقلانية للاختلافات.
برأيي، ورغم ما حققته الصين من تفوق اقتصادي ملحوظ خلال السنوات الماضية، لا سيما من حيث حجم الإنتاج الصناعي، التوسع في الاستثمار الخارجي، وتقدمها في بعض مجالات التكنولوجيا، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنها أصبحت الطرف المُسيطر عالميًا ، حيث لا تزال القيادة الحقيقية للنظام الدولي بيد الولايات المتحدة الأمريكية، لعدة أسباب جوهرية، أهمها:
- هيمنتها العسكرية العابرة للقارات، حيث تمتلك أقوى شبكة قواعد وتحالفات عسكرية في العالم.
- تفوقها السياسي والدبلوماسي من خلال تأثيرها في المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن وصندوق النقد والبنك الدولي.
- قدرتها على صياغة وتوجيه السياسات العالمية، بفضل سيطرتها على أدوات القوة الناعمة والإعلام والتكنولوجيا الاستراتيجية.
لذلك، حتى وإن كانت الصين تتفوق اقتصاديًا من حيث الأرقام والنمو والإنتاج، فإن الولايات المتحدة ما زالت تمسك بمقاليد السلطة العالمية، بحكم امتلاكها لمفاتيح التأثير السياسي والأمني، وهو ما يمنحها الأفضلية في إدارة التنافس، إن لم يكن حسمه لصالحها على المدى البعيد.
وإلى أن تتغير هذه المعادلة الجذرية، فإن النظام الدولي سيظل محكومًا بمعادلة دقيقة: صعود اقتصادي ضمن نظام تقوده الولايات المتحدة .
برأيي، ورغم ما حققته الصين من تفوق اقتصادي ملحوظ خلال السنوات الماضية، لا سيما من حيث حجم الإنتاج الصناعي، التوسع في الاستثمار الخارجي، وتقدمها في بعض مجالات التكنولوجيا، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنها أصبحت الطرف المُسيطر عالميًا ، حيث لا تزال القيادة الحقيقية للنظام الدولي بيد الولايات المتحدة الأمريكية، لعدة أسباب جوهرية، أهمها:
- هيمنتها العسكرية العابرة للقارات، حيث تمتلك أقوى شبكة قواعد وتحالفات عسكرية في العالم.
- تفوقها السياسي والدبلوماسي من خلال تأثيرها في المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن وصندوق النقد والبنك الدولي.
- قدرتها على صياغة وتوجيه السياسات العالمية، بفضل سيطرتها على أدوات القوة الناعمة والإعلام والتكنولوجيا الاستراتيجية.
لذلك، حتى وإن كانت الصين تتفوق اقتصاديًا من حيث الأرقام والنمو والإنتاج، فإن الولايات المتحدة ما زالت تمسك بمقاليد السلطة العالمية، بحكم امتلاكها لمفاتيح التأثير السياسي والأمني، وهو ما يمنحها الأفضلية في إدارة التنافس، إن لم يكن حسمه لصالحها على المدى البعيد.
وإلى أن تتغير هذه المعادلة الجذرية، فإن النظام الدولي سيظل محكومًا بمعادلة دقيقة: صعود اقتصادي صيني ضمن نظام تقوده الولايات المتحدة .