في مساء يوم الثلاثاء المصادف 17 أيلول عجت المستشفيات اللبنانية بالجرحى نتيجة تفجير طال أجهزة الاتصال (البيجر) بشكل متزامن خلف ذلك ارتقاء 12 شهيداً بينهم أطفال و2750 جريحاً وسط غموض كبير عن هذه العملية الاجرامية، فما هو جهاز البيجر؟ وكيف اخترق؟
البيجر جهاز اتصال الكتروني صغير اخترع عام 1949 بواسطة مهندس كندي يدعى ألفريد غروس، يستخدم البيجر للتواصل داخل المؤسسات او المنظومات المختلفة، يعمل جهاز البيجر باستقبال موجات وإشارات من جهاز إرسال، يحولها إلى رموز مكتوبة أو صوتية أو حركات اهتزاز، تخبر حامل الجهاز بأن رسالة وصلته، يعمل الجهاز ببطاريات الليثيوم القابلة للشحن والعمل لأيام عديدة.
اتهمت المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله) تل ابيب وقوفها وراء هذه العملية الاجرامية، الا ان نتنياهو امر وزراء حكومته بعدم الادلاء بأي تصريح حول الامر، إلا أن الدلائل تشير إلى تورطها فيها فالجميع على دراية بعدم وجود دولة او جماعة قادرة على هذه العملية التي تصنف كإبادة جماعية سوى الكيان الصهيوني، فالضبابية الموجودة حول كيفية تفجير أجهزة البيجر بشكل متزامن وغير مسبوق طرحت سرديتين لتبيان كيفية حدوث التفجيرات وهما:
اولاً: أن الانفجارات قد حصلت نتيجة اختراق سيبراني لجهاز الاتصال (البيجر)، وذلك من خلال التلاعب في بطاريات الجهاز وجعلوها تنفجر عن طريق إرسال شفرة ضارة، هذا يعني بأننا نشهد حرباً مختلفة لا تحتاج الى فتح جبهات ميدانية وستكون أسهل لمن يمتلك التطور التكنولوجي في تنفيذ اهدافه واقل تكلفه من الحروب الشائعة، وأن هذا السيناريو يعتبر التكنولوجيا هي القوة وهي الاساس للحسم.
ثانياً: ان الانفجارات قد حصلت نتيجة زرع المتفجرات داخل جهاز الاتصال (البيجر) مسبقاً وتفجيره بعد ارسال شفرات ضارة، هذا لا يعني الخروج من مفهوم الحرب التقليدية لكن بفكرة جديدة نفذت نتيجة خرق استخباراتي استطاع بها المنفذ من تحقيق أحد اهداف استراتيجيته المحددة لهذا الصراع وسيرد الاخر بعملية تكون بأسلوب جديد ايضاً.
في السردية الاولى تعتبر العملية حدث تكتيكي عالي المستوى ستكون نتائجه المستقبلية ذات تهديد كبير على الانسان بشكل عام، اذ يقول الخبير في الامن السيبراني جوزيف شتاينبرغ: من غير المستبعد أن يتم استغلال برنامج (Bad Power) في شن هجمات مستهدفة فإذا لم يتم تصحيح الثغرة الكامنة في العديد من أجهزة الشحن، فقد يتمكن الإرهابيون الإلكترونيون من استغلال برنامج (Bad Power) لإحداث الفوضى على نطاق واسع.
اذاً كيف سيكون مصير المجتمعات لو تمكنت الجماعات الارهابية من استغلال هذه الثغرات لأحداث اعمال اجرامية؟ فلا يمكن تصور ما ستؤول اليه الايام في حال حدث ذلك فالجماعات الارهابية غير ملتزمة بالاتفاقيات او المعاهدات الدولية التي ستمنعهم من فعل اي عمل اجرامي.
وبالعودة الى الموضوع الرئيسي فالسردية الاولى ان حدثت فعلاً فأن تل ابيب استطاعت ان تحقق مكسب لكن هذا المكسب يتنافى مع الاساليب الحربية المتعارف عليها فعملية البيجر لا يمكن ان توصف خارج إطار الابادة الجماعية، وان استمرار الفواعل الدوليين في سكوتهم جعل نتنياهو يتمادى أكثر فأكثر، خاصة بعد التأييد والدعم الذي حصل عليه من قبل ادارة الرئيس الامريكي جو بايدن من جانب، وتغاضى الفواعل الدوليين عن اجرامه سواء دول المنطقة او المنظمات من جانب اخر.
في السردية الثانية تعتبر العملية مؤشراً خطيراً على المقاومة في لبنان فالاختراق ان حدث فعلاً يؤكد على التغلغل الصهيوني وقوة نفوذه داخل حزب الله حتى وصل بهم الامر الى تزويد عناصر المقاومة بأجهزة كانت قد فخخت في وقتاً سابق، فهل حزب الله فقد بصيرته الاستخباراتية ليسمح بهذا الخرق؟ فمن غير المنطقي ان يحدث هذا الاختراق لحركة مقاومة كحزب الله فالقوة العسكرية التي يتمتع بها الحزب تتجاوز القوة العسكرية للعديد من دول المنطقة، سيما وأن الحزب ذو خبرة بالأساليب الصهيونية فهو ليس وليد اليوم فحروبه ضد هذا الكيان كثيرة واستطاع ردع الكيان وتأديبه حتى اصبحت المقاومة في لبنان هو الخطر المباشر والوجودي في المدرك الإسرائيلي.
فضلاً عن ذلك فهناك تساؤل مهم يكمن في توقيت عملية البيجر، فلو كانت الانفجارات قد حصلت اثناء الاجتياح البري للجنوب اللبناني الذي يهدد به نتنياهو فستكون اضراره أكثر؟ وهنا يمكن تحليل ذلك وفق ما ذكرته موقع Al-Monitor الامريكية بأن حركة المقاومة الإسلامية حزب الله قد اكتشفت هذا الخرق مما دفع الجيش الصهيوني للاستعجال في تفجير الاجهزة لتحقيق مكسب تكتيكي ليستغله نتنياهو في تحقيق مكاسب سياسية في ظل التوترات الداخلية المتعلقة بتغيير وزير الدفاع يوآف غالانت.
تسعى تل ابيب من خلال هذه الأفعال إلى توسيع خارطة الصراع وربما الدفع نحو حرب شاملة، فنتنياهو اليوم يريد توسيع خارطة الصراع والخروج من مفهوم قواعد الاشتباك لأسباب كثيرة منها التغطية على فشل عمليته العسكرية في غزة فرغم تدميره للمدينة وقتله آلاف الابرياء وتهجير قرابة المليون غزي لم يحقق اي هدف من اهداف عمليته فلم يحرر اسراه ولم يتمكن من القضاء على حركة حماس، وليحقق ايضاً دعماً غربياً أكبر، ليتمكن بحسب رؤيته من تنفيذ استراتيجيته في إدارة الصراع لصالح الكيان، لكن هل حزب الله اليوم ليس حزب الله 2006 الذي تمكن من دحر جيش الكيان جراء اجتياحه للجنوب اللبناني بل قوة عسكرية متطورة جداً.
منذ قيام المقاومة الفلسطينية حماس بعملية طوفان الأقصى لم يترك حزب الله المساندة لغزة اذ فتح الحزب جبهة جنوب لبنان كجبهة دعم وإسناد لحركة حماس، واستطاع حزب الله أن يلعب دوراً مؤثراً بفتحه جبهة الجنوب، حيث أجبر الكيان على تعزيز دفاعاته الجوية والقبة الحديدية في الشمال واستدعاء فرقتين للقتال ليجمدهم في الشمال، ليخفف الضغط بذلك عن قطاع غزة، وتمكن الحزب من خلال عملياته العسكرية من نزوح مستوطني الشمال الإسرائيلي ليزيد بذلك من حدة الانتقادات لسياسة نتنياهو.
تسعى حكومة نتنياهو من تحقيق عدد من الأهداف جراء عملية البيجر منها قطع الاتصال بين عناصر حزب الله وبث دعاية اختراقها لحزب من الداخل فضلاً عن غاراتها اليومية على الجنوب والضاحية في محاولة منه بإيقاف حزب الله عملياته العسكرية ضد الكيان، ألا أن نتنياهو لا يدرك بأن الدخول في حرب شاملة مع حزب الله لن يقتصر القتال على الحدود الشمالية وسيتسبب في سقوط العديد من الضحايا في جميع المستوطنات، فضلاً عن عواقب اقتصادية هائلة، وان ادارته للصراع إدارة فاشلة لم تحقق أي هدف رغم اجرامها في الابادة الجماعية المتكررة امان انظار المجتمع الدولي الذي يؤيدها بسكوته عن هذا الاجرام.
اخيراً، نتنياهو لا يدرك تماماً عقيدة مقاومي حزب الله فلا يثنيهم تفجير ولا تخيفهم غارة والحرب ضد الكيان هي حرب مصيرية لا خضوع فيها وخنوع لها، وأن حزب الله قادر على تغير بوصلة الصراع لكفته رغم الدعم الدولي الكبير للكيان.