ابراهيم العبادي
يبدو المجال العام العراقي للناظر اليه من الخارج كلوحة من التعددية السياسية والاعلامية المثيرة للآمال ،اتجاهات حزبية وسياسية كثيرة ،ومنابر اعلامية وفيرة ،وعناوين ضجة تزخر بها اليوميات ،ومراكز للدراسات تنمو تدريجيا ،لكني اصر على القول بان هذا المجال العام محتكر ولا يجري فيه حوار سياسي او ثقافي بموضوعية وهدفية تنشد الحقيقة وتطرد الزيف وتحاكم الشعارات والمقولات التي تتخفى خلفها الاتجاهات المتصارعة ،الواقع العراقي لا يشهد سلاما وهدوءً مستداما بسبب عقلية التصارع على السلطة التي يعيشها المجتمع السياسي ،اذ كان من اهم منجزات المجال العام في البيئة الاوربية هو ترسيخ وتنمية الديمقراطية السياسية والاجتماعية وتوسيع ثقافة الاعتدال وطرد التطرف السياسي والفكري الى الهوامش ،وكان الجهد الفكري والفلسفي والاكاديمي والاعلامي يدفع باتجاه العقلانية العامة ،عقلانية الممارسة السياسية ،موضوعية العمل الحزبي ،بناء الوعي الجماهيري وتوجيهه لمصلحة المواطن الفرد ،ولمصلحة الصالح العام عبر التنمية الاقتصادية المبنية على اخلاقيات التوزيع العادل للثروة والضمان الاجتماعي وتحقيق الرفاه العام ، و التذكير الدائم بان الممارسة السياسية المفضية لتحقيق تلك الاهداف ،هي خيار وحق فردي ومسؤولية اجتماعية .
كان المجال العام بصالوناته ووسائل اعلامه ومنتدياته ومناهج التثقيف وادوات نشر الثقافة يتناول القضايا العامة ويشرحها للجمهور ويدع للأخير الاختيار من بين خيارات وبدائل تمثل اتجاهات سياسية او فكرية.
في بلادنا يتجادل الجمهور العام بوعي ناقص مشوه ، ومعلومات مضللة وافكار هامشية وذاكرة مجتزئة ،تحركهم دوافع متناقضة ومؤقتة يتحمسون لها كثيرا ،لكن نقاشاتهم ومجادلاتهم البسيطة هذه تتحول الى مناكفات ، ينوب عنهم فيها سياسيون واعلاميون يوميا ،وهي لا تبدو اكثر من وعي زائف ووسائل الهاء يومي عن القضايا المركزية ، قضايا الفيدرالية ومشكلاتها والديمقراطية وتعلم التزاماتها وشروطها ،الارهاب ومسبباته ،اقتصاديات الاحزاب والطبقة الطفيلية ، التي تمتص موارد الدولة ولا تحقق تنمية وفرقا جادا في مستويات المعيشة وتنويع الريع والموارد ،وعشرات القضايا المتعلقة بالخدمات ودوران عجلة القانون والادارة وانضباطها ،كل ذلك لا يناقش بصراحة ،انما تترك هذه القضايا للترضيات والتسويات والاتفاقات التي يقرر فيها ( رعاة )على عدد اصابع اليد ،وهؤلاء الرعاة هم اعضاء حلقة التفاوض السياسي التي ترسم وتصمم وتركب وتتخذ القرارات المصيرية ، الديمقراطية لا تشمل هؤلاء اختيارا او رفضا ، لا تبدو الديمقراطية هنا عملية اختيار وتفويض واختيار بدائل وبرامج ،تنتج زعامات سياسية تأتي باختيار حر من الجمهور وتسعى لتحقيق اهدافه ،بل هي عملية شكلانية مهيكلة وظيفتها اضفاء الشرعية على الاجنحة المتصارعة حد استعمال السلاح ، لتوصل ممثليها لاقتسام السلطة وحراسة مخرجاتها المادية والرمزية ،كل شيء يقرره الزعماء نيابة عن اتباع تقاعدوا عن ممارسة الرقابة وتركوا لزعمائهم تقسيم وظائف الدولة الكبرى وتوزيعها واغتنام ارباحها ،الجمهور العام يمارس دور الكومبارس ،يتصارع فئويا دفاعا عن مقولات وتوجهات الزعيم ،صار العراق مليئا بالزعامات ،هذه الزعامات تقرر ،والاتباع يملؤون الشوارع والساحات صورا والقابا ومقولات ،زعامات ترى ان قوانين الاقتصاد والاجتماع السياسي ومعايير الديمقراطية لا يمكن تطبيقها على العراق ،يقولون ان العراق تجربة خاصة ،ونحن من يقرر ما يصلح لأدارته ،فيمكن تكريس ثنائية الدولة والمقاومة مثلا ولا نحتاج لأخذ راي الشعب في ذلك ،ويمكن ادارة الدولة بالتوسع البيروقراطي وتوزيع المال هبات لشراء الولاءات تحضيرا للانتخابات وهكذا ،ولا تخشى على الاقتصاد من الافلاس !!! .
ميزة هذه الزعامات انها لا تستمع لرأي مفكر او خبير او مثقف، لأنها وثوقيه مكتفية بذاتها، وقادرة على اخضاع المجال العام لمقولاتها، حتى ان كان المسار الذي تقود البلاد فيه يقود الى التيه الشامل والفشل الذريع.
من مصاديق احتكار المجال العام كثرة الخطوط الحمر والمقدسات (السياسية) للقوى الايديولوجية، فلا أحد يستطيع النقاش الهادئ الحر مع هذه القوى بشأن مقولاتها الكبرى، لأنها ستصنفه على لائحة الخصوم الخطرين الذين قد يتحولون الى مائدة للالتهام.
المجتمعات المغلقة لا تستطيع قبول الآراء لأنها لم تمر بفترة استنارة كافية، والتنوير الذي يحتاجه العراق يستلزم اضواء كاشفة تنير المناطق المظلمة والمعتمة وهي كثيرة تبتدأ بالعقل ولا تنتهي بالثقافة والسياسة.