back to top
المزيد

    المواجهة الصعبة، أوروبا.. الاتكال الناعم والحافات الخشنة

    د. علي فارس حميد، أستاذ الدراسات الدولية والاستراتيجية المساعد في جامعة النهرين.

    هيمنت الواقعية بكل فرضياتها على الأسس التي فسرت بها التفاعلات الدولية باعتبارها اتجاهاً معرفياً؛ لتحليل حركة التفاعلات ومسارات انتقال القوة في البيئة الدولية، غير أن ما أحدثته تجربة التكامل في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية جعلت بعضهم يعيد النظر بشأن المنطلقات التي تحكم سلوك الدول من الرغبة في زيادة القوة إلى ضبط سلوك الخصم لمنع الحرب أو لتعديل سلوك الفاعلين في البيئة الدولية على نحو يضمن الاستقرار، وهذا من شأنه أن يتطلب وجود مقومات جديدة لفهم هذه الانتقالات في حركة الفاعلين في السياسة الدولية.

    إلى جانب ذلك ساعدت الأحداث والأزمات المستمرة في النظام الدولي في إعادة تصحيح المسارات السلوكية للدول، فهي تنقل سلوك الدول شيئاً فشيئاً باتجاه التغيير وإن لم يكن ذلك واضحاً في شكل النظام إلا أنه موجود في طبيعة التفاعلات التي تجري بينها، وهذا ما يفسر انتقال الشراكات الدولية بين الحين والآخر.

    قد تبدو مواجهة أوروبا للأزمات التي تتجدد بين الحين والآخر في غاية التعقيد، فالاتكال الناعم على التزامات الحرب الباردة قد جعلها تصل إلى نهايات حادة وحافات مغلقة، فهي تواجه أزمة في إعادة تقييم علاقاتها وشراكاتها الاستراتيجية، وفي الوقت نفسه تواجه مشكلة أخرى تتعلق بتماسكها الذي تهدد بعد اجتياح كورونا القارة الأوروبية وسبقها انسحاب بريطانيا من الاتحاد والذي يحتاج إلى دراسة مفصلة تبحث في احتمالات استمرار مأسسة الأوروبيين لسياستهم أو رجوعهم إلى منطق الدولة الوطنية. إن مراجعة الذات ومعاقبتها قد تكون واحدة من أهم تداعيات ما سببته كورونا في عالم يبحث فيه الجميع عن إنقاذ نفسه قبل الآخرين.

    التماسك الأوروبي خطوة باتجاه الداخل وخطوات نحو الخارج

    مع انتهاء الحرب الباردة أصبح الحديث عن توجهات متعددة في مجال التفاعلات الدولية يستحوذ على الكثير من الأدبيات المعاصرة في السياسة الدولية، فأوروبا التي كانت تحت المظلة الأمريكية لم يعد يناسبها الانعزال في حدود القارة الأوروبية مقابل تمدد الصين والولايات المتحدة الأمريكية نفسها فضلاً عن روسيا. فالأوربيون يعتقدون أن الالتزامات التي فرضتها ظروف الحرب الباردة وما بعدها قد قيدت الدول الأوروبية تجاه أي تحول حقيقي في نفوذ القوى الكبرى.

    إن البحث عن ثوب جديد ترتديه أوروبا بدلاً من رداء الحرب الباردة قد تلازم مع طموحات التمدد الشعبوي الذي اجتاح العالم بأسره في السنوات الأخيرة، فالأحداث التي يتسارع وقوعها بإرادات شعبية ساعدت بنحو كبير في تكوين انعطاف جديد لحركة الفاعلين في البيئة الاستراتيجية العالمية وقد تكون أوروبا المنطقة الأكثر أهمية في هذا الجانب ولاسيما بعد البريكست وخروج بريطانياً رسمياً من الاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذي يمنح الأوروبيين فرصة حقيقية في إعادة تأسيس شراكاتها على نحو جديد.

    من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي كقوة متكاملة تؤثر فيها قوتان مهمتان هي ألمانيا وفرنسا اللتان تعدان مصدر القرار الأوروبي والجهة الأكثر تأثيراً في اتخاذه، والقوتان تهدفان إلى أن يكون للاتحاد الأوروبي تأثير أكبر في النظام الدولي يتناسب مع حجم طموح هاتين القوى، فضلاً عن قوى أخرى داخل الاتحاد، إلى جانب أن الرؤية الفرنسية والألمانية تستهدف البحث عن دور جديد يؤديه الاتحاد الأوروبي في ضوء التفاعلات التي تستحوذ عليها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين في عالم ما بعد الحرب الباردة.

    تزايد الموقف الجماعي بشأن أوروبا الفاعلة بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية فردياً من الاتفاق النووي الإيراني، إذ كانت سياسية الاتحاد تميل إلى تكوين موقف جماعي مستقل عن الإرادة الأمريكية وتعزيزها ببرامج مستقلة للتعامل مع منطقة غرب آسيا، إذ تدرك دول الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير أن إدارة الحوار في منطقة غرب آسيا من الممكن أن ينتج صلات جيوسياسية مؤثرة مع الجمهورية الإيرانية، وإن كان هذا الاستهداف يتطلب حوارات أوسع لتشمل المنطقة المحيطة برمتها كما استنتج ذلك سفير الاتحاد الأوروبي السابق في العراق (رامون بليكوا) الذي حاول توثيق الصلة الجيوسياسية بين المنطقة والاتحاد الأوروبي عبر تشجيع حوارات مستمرة بين العراق ومحيطه بمشاركة الاتحاد الأوروبي. وقد تبدو الرؤية الأوروبية أكثر انسجاماً مع المنطقة، فهي تتمتع بمقبولية بالمقارنة مع غيرها من القوى الدولية، فضلاً عن أن عقلانية الاتحاد الأوروبي وتجربته الكبيرة في بناء الحوارات المتعددة الأطراف تجعله قادراً على إيجاد طريق لرؤيته للتوغل في منطقة غرب آسيا.

    إن طريقة الفعل الأوروبي تجاه غرب آسيا كان ذا مسار مختلف عما فعلته الصين أو روسيا، فهي تبحث عن تكوين صلات مستمرة تبدأ من الأسفل عبر المؤسسات غير الرسمية والمؤثرة في أوساط قادرة على تكوين قرارات مستقبلية، وهذا ما يفسر دور الملحقيات الثقافية ومراكز الفكر الفاعلة المنتشرة في دول هذه المنطقة التي ركزت على تفعيل مظهر المسار الثاني في الحوار ليكون مقدمة للمسار الرسمي الحكومي في المستقبل أو أن يتصل فيما بعد بمؤسسات الدبلوماسية العامة في دول الاتحاد الأوروبي.

    يحاول الاتحاد الأوروبي توظيف عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة في بناء نماذج للسلام الإقليمي، فعلى الرغم من أن سياسة العولمة قد أثرت بنحو كبير في سلوكيات الدول وطريقة رؤيتها للتفاعلات الدولية مع أطراف أخرى، إلا أن البحث عن بنية للسلام والحوار تشبه إلى حد ما، ما حققته أوروبا عبر طريق منظمة الفحم والصلب لم يكن موجوداً في خياراتها تجاه منطقة الشرق الأوسط وتحديداً غرب آسيا؛ الأمر الذي جعل الاتحاد الأوروبي يستهدف هذا المجال عبر بعثاتها الاستشارية والتعزيزية لتوثق علاقاتها مع مؤسسات مدنية يُمكن أن تكون في المستقبل مرتكزات للحوار الثنائي أو المتعدد.

    أوروبا والتغير الحتمي

    على وفق تصورات النخب السياسية والفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية فإنه من الصعب تغيير المسار الاستراتيجي الذي تبحث عنه أوروبا في الاندفاع نحو مناطق حيوية تزاحم الهيمنة من حيث النفوذ، والذي قد يتحوّل شيئاً فشيئاً بفعل تراكم القوة إلى استراتيجية لمواجهة الهيمنة بدلاً من الاكتفاء بالمزاحمة.

    ترى الباحثة الأمريكية (ناعومي كلاين) أن القوى الكبرى تعمل على تحويل الكوارث والصدمات التي يتعرض لها النظام الدولي إلى مكاسب اقتصادية، ومن ثم سياسة لصالحها أو تحويل مسارها لصالح قوى معينة؛ بهدف تحقيق التوازن، وهذا ما يجعل التفكير بأي صدمة تجتاح العالم على أنها فعل مقصود أو سيكون لها توظيف سياسي لتعزيز الفعل الذي تقوم به دولة في النظام الدولي، ولعل الأمر ينطبق إلى حد كبير مع فايروس كورونا الذي قد يعدل من سلوك بعض القوى في النظام بفعل ما أحدثه من مواقف وسياسات في هذا الشأن.

    يرى في هذا الصدد (ستيفن والت) أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد أن ما أحدثته كورونا من تحولات في مسرح التفاعلات الدولية سيكون له تأثير كبير في انتقال منطق القوة من الغرب إلى الشرق؛ ولعل هذا الأمر قد اتضح مظهره بنحو سريع في المساعدات الروسية والصينية الموجهة نحو أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، وهو يقترب كذلك مع التحليل الذي قدمه جون ألين مدير معهد بروكينز الذي يتوقع أن أزمة كورونا سوف تعيد تشكيل هيكل القوى العالمية بطريقة جديدة قد يصعب توقعها.

    قد يبدو المشهد داخل أوروبا أكثر تعقيداً من غيره، فمن ناحية تشعر أوروبا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن بمستوى الالتزام الذي كانت تطمح له ولاسيما في ضوء التزام التحالفات الثنائية إلى جانب ذلك فأوروبا نفسها لم تكن بمستوى الاستجابة الذي كانت تتوقعه فيما بينها عندما دخلت إيطاليا المرحلة الأولى من كورونا، وهذا ما يتناقض مع موقف روسيا والصين في طبيعة المبادرات التي قدمت إلى أوروبا في هذه المدة.

    قد لا يكون سهلاً أن تتخلى دول الاتحاد الأوروبي عن التزاماتها السابقة سواء تجاه الولايات المتحدة الأمريكية أو تجاه بعضها لكنها من المؤكد أنها ستكون أقل مرونة في المواقف الجديدة وسوف تعيد حساباتها الاستراتيجية بسرعة بعد انتهاء أزمة كورونا كجزء من تقدير الجوانب الشعبية التي سيكون لها تأثيراً في السياسات الخارجية لهذه الدول، فروسيا والصين التي ضاعفت من دورها الاستراتيجي لمواجهة كورونا سوف تتلقى اعتبارات مناسبة؛ لذلك وفق منطق المصالح المؤسسة للفعل السياسي الخارجي بعد تلاشي أزمة كورونا.

    بالمقابل استطاعت الصين أن تغير من الصورة التي أطلقتها الولايات المتحدة بأن فايروس كورونا صيني، فعلى حد تعبير (دنيس روس) الذي نشر تحليلاً له في معهد واشنطن ركز في أن السياسات التعاونية التي تقدمها الصين إلى دول العالم لمواجهة كورونا كان فيها تأثير كبير على صورة الصين على المستوى الدولي التي ستعيد تشكيل المواقف في ظروف الأزمة الحادة التي تمر بها أوروبا. كذلك أكد على ضرورة أن يستفيق الأوروبيين من أن الولايات المتحدة سوف تستمر في حل مشكلاتهم والأخطار التي تهددهم كما فعلت في الماضي؛ ولذلك قد تعمل الصين على ملئ الفراغ في قيادة العالم على وفق توظيف الصدمات والكوارث الدولية. وهذا كله سيعمل على إعادة تشكيل النفوذ الدولي على نحو جديد قد يكون بطيئاً لكنه متحقق بحسب هذه المؤشرات.

    ستعمل أوروبا بعد انتهاء أزمة كورونا على إعادة تماسك دولها، فالمشاورات التي لم تحسم مواقف الدول الأوروبية بشأن المواجهة الجماعية، ولم تتوصل إلى حلول معقولة بسبب ما تواجهه القارة الأوروبية برمتها من خطر فايروس كورونا، الأمر الذي يجعل الانتقال نحو الفعل الفردي مستمراً لحين تلاشي الأزمة، ولعل قادة دول الاتحاد الأوروبي أدركوا أن المواجهة الجماعية قد تكون صعبة؛ بسبب طبيعة الخطر الذي يواجه مجتمعات هذه الدول.

    الفعل الحقيقي من الناحية الاستراتيجية سيكون بعد تلاشي كورونا نهائياً من العالم، فبرامج التعاون التي قدمتها روسيا والصين سيكون لها أثر مهم في صياغة شراكات من نوع جديد قد لا تبدو من حيث الشكل مؤثرة على الالتزامات التقليدية لكنها ستتخذ خطوات باتجاه تبني سياسات جديدة مشتركة تعيد هيكلة النظام الدولي تدريجياً. وهو ما يجعل الأوروبيين يؤسسون لصلات جيوسياسية جديدة تكون بمعزل عن الصلات السابقة التي لم تحقق لها مصالح ملموسة. وقد تكون منطقة الشرق الأوسط المنطقة المفضلة لهذا التعاون، إذ سيؤسس وجود الجمهورية الإيرانية وعلاقتها المتشنجة مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب سياسات ترامب غير العقلانية مزيد من التوثيق المبرر في العالم.


    المصادر

    • John Allen & other, How the World will look After the Coronavirus Pandemic, foreign policy, 20 March. 2020.
    • Dennis Ross, The U.S. Should Have Led the Coronavirus Response. Instead, China Stepped Up. By

    https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/the-u.s.-should-have-led-the-coronavirus-response.-instead-china-stepped-up

    • علي فارس حميد، أوروبا والإرهاب ومحنة الذات المكتوفة، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، كربلاء، من خلال الرابط:

    http://mcsr.net