محمد صالح: حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا، محلل وباحث وله سجل حافل من المقالات والتحليلات المعمقة حول العراق، والقضايا الكردية، والشؤون الإقليمية.
لطالما شكّل حكم التنوع المجتمعي تحدياً في إطار نظام الدولة القومية في الشرق الأوسط الحديث. وقد أعاد الانهيار الأخير لنظام الرئيس السوري بشار الأسد إحياء النقاشات حول كيفية حكم دولة متعددة الأعراق والأديان، كانت تُدار سابقاً كوحدة مركزية موحّدة بهوية وطنية رسمية فُرضت على مجتمعات متنوعة. يستعرض هذا التقرير تجربة العراق مع الحكم اللامركزي خلال العقدين الماضيين.
منذ تأسيسه في عشرينيات القرن الماضي بعد انهيار الدولة العثمانية، واجه العراق تحديات معقدة في إدارة تنوعه العرقي والديني، وهو ما لا يزال يؤثر على شكل الحكم فيه حتى اليوم. وقد شكّلت حرب العراق عام 2003 نقطة تحول رئيسية، إذ انتقل العراق من دولة موحدة شديدة المركزية إلى دولة لامركزية. كرّس كل من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 ودستور 2005 هذا التحول، حيث منحا المحافظات صلاحيات لا مركزية، كما أتاحا إنشاء أقاليم تتمتع بصلاحيات واسعة في الشؤون الاقتصادية والمالية والقانونية والأمنية المحلية. وقد نصّ الدستور على أن العراق الجديد هو “نظام جمهوري اتحادي (فدرالي) ديمقراطي تعددي”، وتضمّن 59 إشارة إلى مفهومي “الفدرالية” و”اللامركزية”.
مع ذلك، تُظهر مراجعة الأدلة أن العراق بدأ بالتحول عن الإطار الفدرالي الذي أرساه دستور 2005، متجهاً نحو نظام سياسي أكثر مركزية. ويقود هذا التوجه المتعدد الأبعاد نحو إعادة المركزية، والذي تسارع بعد فشل استفتاء استقلال إقليم كردستان عام 2017 وهزيمة تنظيم داعش، القوى السياسية الشيعية في بغداد. ويشكّل هذا التحول تراجعاً كبيراً عن مبادئ التوافق غير الرسمية التي ارتكزت عليها الفدرالية (والمعروفة محلياً بـ “المحاصصة”)، والتي صُمّمت لتحقيق توازن في السلطة بين المكونات الطائفية والعرقية في العراق، ولمنع عودة الاستبداد.
داخلياً، أدى تركيز السلطة في بغداد إلى تراجع تأثير الأكراد والسُنّة العرب في صناعة القرار الاتحادي، وقلّص من قدرتهم على ممارسة الحكم الذاتي المحلي. وبينما يرى بعض المراقبين في هذه العودة إلى المركزية سبيلاً إلى الاستقرار، إلا أن من المرجّح أن تقوّض هذه الخطوة استقرار العراق وتُغذّي النزاعات طويلة الأمد. كما تؤثر هذه التحولات في السياسة الخارجية للعراق، حيث أدى تركّز السلطة في يد الجماعات الشيعية – ولا سيما الموالية لإيران – إلى تصاعد التوترات مع أطراف إقليمية مثل تركيا ودول الخليج وإسرائيل وسوريا، مما يعقّد دور العراق في الشرق الأوسط الأوسع.
يركّز هذا التقرير على الاتجاهات العامة في ممارسة وتوزيع وتدفق السلطة في العراق خلال العقدين الماضيين، ويفحص آثارها على البنية الفدرالية للدولة كما وردت في الدستور. ويستند البحث إلى بيانات أولية تشمل الأطر القانونية والدستورية العراقية، وقرارات المحكمة الاتحادية العليا، بالإضافة إلى مقابلات مع مجموعة متنوعة من أصحاب الشأن والخبراء داخل العراق وخارجه. كما يتضمن تحليلاً مفصلاً لبيانات ثانوية من تقارير إعلامية ومنشورات صادرة عن منظمات مختلفة، بهدف تقييم ديناميكيات السلطة المتغيرة والعلاقات بين المكونات داخل الدولة.