back to top
المزيد

    واحة البيان

    متى يسقط النظام؟

    علي الياسري / عضو تيار الحكمة الوطني

    تراكم الأحداث الكبرى التي مرت على النظام السياسي الذي أُنشئ بعد تغيير العام ٢٠٠٣، جعلت الكثير يعتقد بسهولة أن هذا النظام بكثرة الاهتزازات تتزايد فيه الهشاشة، وعليه تصاعدت الاحتمالية لديهم بأن النظام آيلٌ للسقوط كلما تعرض لحدثٍ أو طارئ، ولا شك أن الأحداث محل الحديث، لم تكن من البساطة التي تجعل من هذه الفرضية أمرًا مستبعدًا، حيث مواجهات طائفية مسلحة، تفجيرات وأيام دامية، داعش، احتجاجات تشرين، انسداد سياسي أدى لأحداث ليلة المنطقة الخضراء الشهيرة في ٢٩-٨-٢٠٢٢، وغيرها، حتى وصلنا للحظة اعتقاد البعض أن تحقيقات السلطة القضائية المتعلقة بمكتب رئيس مجلس الوزراء، هي الرمق الأخير للنظام والعملية.

    هل النظام هش؟

    لم تكن الصورة واضحة تمامًا عندما سقط الديكتاتور، الصراع بين إرادة دول قوات التحالف “الاحتلال” والقوى الوطنية، والتشكيك بقدرات هذه القوى أمام قدرات الدول الكبرى، زاد من ضبابية المشهد بعين المراقب، لكن التحول الذي أحدثته كتابة دستور ٢٠٠٥، غيّر المعادلة، الحاكم العسكري أو المدني لم يكونا أقوى من [الجمعية الوطنية] و [مجلس الحكم]، ولم يبنى النظام بدبابات القوات، بل بأصوات المستفتيين!

    أن يفرض نظامٌ عمره عمر الفطام إرادته خلافًا لرغبة “الهمرات” المنتشرة في شوارع البلاد، مضافًا إليها بعض الفواعل الداخلية التي لم تنسجم ابتداء معه، لم يكن تحديًا سهلًا، ومع ذلك، وحتى بعدَ المجالس النيابية والمحلية وتشكيل الحكومات، بقيت الشكوك تحوم حول حقيقة النظام من نواحي استقلاليته وقوة إرادته، حتى أنه عندما خرج آخر جنديٍّ من القوات في العام ٢٠١١، ازدادت الشكوك بقابلية هذا النظام على الاستمرارية، اعتقادًا بأن حمايته مستندةً على ذلك الوجود العسكري، خصوصًا مع وضعٍ أمنيٍّ أقل ما يوصف به بأنه مربك، ناهيكَ عن أحداث حصلت خلال ذلك الوجود وحتى بعده، مثل التي ذُكرت آنفًا.

    عندما تخلصت البلاد من المواجهات الطائفية، ورغم الخسارات الأليمة على كبرها، تشكلت ملامح جديدة لشكل النظام، وحين طوّر النظام بحكمة من بعض أساليبه مع الملفات، خفُتَ صوت تفجر الأحزمة والعبوات الناسفة التي كانت تستهدفه، مما ولد شيء من القناعة بحقيقة قوة هذا النظام، إلا أن سقوط عدد من المحافظات بيد تنظيم داعش الإرهابي، والخوف من وصوله أسوار بغداد مركز النظام، أعاد الشكوك مجددًا، لخوفٍ أو لأمل على اختلاف البواعث، كما أحدثته محاولة انفصال الإقليم وفرض الإرادات على محافظة كركوك، وعندما تمكنت احتجاجات تشرين في العام ٢٠١٩، من تعطيل العديد من المفاصل تعزز الشعور بالهشاشة واقتراب النهاية، وحين عجزت القوى السياسية عن التفاهم بعد الانتخابات النيابية للعام ٢٠٢١ لفترةٍ من الزمن، كانت النهاية وشيكة عندما رفع جمهور إحدى هذه القوى سلاحه في قلب مركز النظام.

    ولكن…

    كان يمكن أن يكون النظام هشًّا، لكن قدرته على رفع العلم العراقي مجددًا في الموصل، لم ترجع له قوته التي سبقت احتلال التنظيم الإرهابي لها، بل ازدادت عن ذي قبل؛ خرج النظام بقواتٍ مسلحةٍ أقوى، وبتسليحٍ أفضل، وبانفتاح دولي جديد، وبفواعل اجتماعية أكثر تأثيرًا، وبحشد شعبي، وقدرات استخبارية ومخابراتية أكثر مهارة بكثير، والأهم، بإدراك أعمق للواقع. وخرج بإحباط محاولة انفصال الإقليم، برسم علاقةٍ أكثر وضوحًا معه، واستعراض واضح لبعض المكاسب آنفة الذكر التي خرج بها بالانتصار على داعش.

    وتشرين، الاحتجاجات التي غلبت عليها المطالب الحقّة، والشباب ذوي الإرادة المشروعة، ورغم ما تخللها من أحداث مؤسفة، إلا انها انتهت باستيعاب النظام لها، وإدراكه لضرورة تطوير الأداء في المساحات المختلفة، وتفهم الشباب لأهمية المشاركة في العمل السياسي وفرصة التغيير من الداخل التي تمنحها ديمقراطية هذا النظام، مما أنتج تعزيزًا لتصدي فئة مختلفة من الشباب للعمل السياسي تبلور بتشكيل حركات ناشئة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها.

    كما لا شك أن تمكن النظام من اجتياز أزمة الانسداد السياسي الخانق، وتشكيله لحكومة تتمكن من تحصيل دعم دولي بشكلٍ لعله لم يكن متوفر مثله لعقد من الزمن على أقل تقدير، وتحالف سياسي برلماني كبير وقوي يمثل مختلف المكونات (إدارة الدولة)، والوصول إلى مرحلة لعلها تعد الأكثر استقرارًا في حياته، كان مظهرًا من مظاهر تعزز قوة النظام محل الحديث. لا فرصة لتعزيز القوة مثل التي يوفرها التغلب على التحديات، خصوصًا الكبيرة منها. قدرة النظام على تغلبه على مثل كل هذه التحديات الضخمة التي واجهها برغم فتوته، واستثماره للمكاسب التي حصل عليها من منح المحن، لا تجعل من المنطقي الحديث عن هشاشته بعد ذلك.

    ماذا عن تحقيقات القضاء بشأن رئيس مجلس الوزراء؟

    شخصيًا، لا يمكنني الاتفاق مع من يعتقد أن الادعاءات التي تدور حول فريق (جوحي)، وتحقيق القضاء بأفراد ينتسبون لمكتب رئيس مجلس الوزراء، الركن الأهم في السلطة التنفيذية، وامتعاض بعض القوى السياسية من المسألة، يعدُّ تهديدًا جديدًا للنظام، بل على عكس ذلك، فإن التحقيقات القضائية تعكس بشكل أو بآخر تعزيزًا لمبدأ الفصل بين السلطات، كما تعبر عن سيادة القانون الذي لا يوجد من هو أكبر منه من الشخصيات المتصدية، وهو ما لم يكن ليتخيله أحد في أيٍّ من الأنظمة السابقة التي مرت على العراق طوال عقودٍ أو قرون، وبغض النظر عن صحة تفاصيل الادعاءات من عدمها، فإن مجرد التحقيق فيها بهذا الشكل الجاد والموضوعي، واستعداد القوى السياسية وحتى رئيس الحكومة للتعامل مع الأمر على ضوء النتائج التي تخرج من قرارات المحاكم، يعبر عن مظهر من مظاهر قوة النظام وتطوره لا العكس.

    تنبيه..

    لم تكن الخسائر التي أنتجتها التحديات هيّنة، فقد عانى خلالها العراقيون آلامًا كان من الصعب احتمالها؛ إراقةُ دماءٍ، وخسارةُ أرواحٍ، وشحة أموالٍ، وتأخر عجلات إعمار، وتراجع في مفاصل حيوية عديدة وغيرها. واستعراض المكاسب التي حدثت لا يعني مطلقًا تناسي كل تلك الآلام والخسائر والمعاناة والتضحيات، فستبقى في القلوب جراح لا تندمل.

    كما لا يعني هذا الحديث، أن الأداء الحاصل من فواعل النظام كان مثاليًا، ولا يعني أنه كان صائبًا دومًا، فلا يمكن إنكار أن عددًا من الحكومات والقوى أحدثت إخفاقات لم يكن من الممكن تجاوزها أو تهوينها، ولا شك أن النظام بحاجةٍ لمعالجة مثلها فهي تمثل تحديًا أيضًا، قد يصل في بعض الأحيان لجسامة تلك التحديات، فملف الاقتصاد، وقطاعات الصحة والتعليم والطاقة، وشبهات الفساد، قد يحدثن على هذا النظام ضررًا إذا لم تتولد جدية أكبر من الحالية للتصدي لمثل تلك الإخفاقات، وفي ذلك تفصيل طويل، والنظام الذي يقدر على الوصول إلى مرحلة من الاستقرار، رغم جميع الاهتزازات التي مرت عليه، لن يعجز عن تقديم أداءٍ أفضل في هذه الملفات، ولعل هذا ما نشهده الآن في بعض المفاصل.

    جواب..

    عمومًا، المفاجآت في عالم السياسة واردة، والثابت هو المتغير. لكن مؤشرات صمود هذا النظام تغلب بشكل مضاعف عن أي مؤشرات لسقوطه، ومصادر قوته أكثر بكثير عن مصادر ضعفه الآن، ويجدر الانتباه إلى أن سقوط الأنظمة الديمقراطية صعبٌ إلى درجة الاستحالة في كثيرٍ من الأحيان، مثل حقيقة أن لا بديل أنجح منها الآن. مع تذكر حقيقة أن هذا النظام هو أفضل من تمكن من استيعاب التنوع العراقي، واستطاع ضمان حقوق مكوناته بشكل أكثر إنصافًا، مثل كونها حقيقة جوهره.

    اقرأ ايضاً