رامین ولي ‌زادة: باحث في قضايا غرب آسيا.

تعد تركيا واحدة من الجهات الفاعلة الإقليمية التي تسعى إلى توسيع نفوذها في غرب آسيا وشمال أفريقيا. وبعد أزمة الصراع في سوريا وليبيا، يمكن اعتبار الأزمة اللبنانية بأنها أحد أهم أسباب تزايد نفوذ أنقرة في منطقة الشرق الأوسط.

صدرت في الأشهر الأخيرة تقارير متفرقة من بعض وسائل الإعلام حول دور تركيا “المدمر” في إثارة الاحتجاجات وأعمال الشغب في لبنان. وعلى الصعيد نفسه، أعلن وزير الداخلية اللبناني مؤخراً أن السلطات اللبنانية اعتقلت أربعة أشخاص على متن طائرة تركية كانت قد حولت 4 ملايين دولار إلى لبنان. وفي 27 حزيران الماضي، قال مصدر لبناني لقناة “الميادين” الفضائية: إن تركيا واحدة من الجهات الراعية للتخريب وإثارة الفوضى في بيروت، وقد تم القبض على أكثر من 40 شخصاً بينهم لبنانيون وغير لبنانيين يحضّرون لافتعال الاضطرابات وإحداث حالة من الفوضى في لبنان.

وعلى أي حال، يبدو أن تركيا أيضاً تسعى تأريخياً إلى توسيع نفوذها في شمال لبنان، ولاسيما في طرابلس، وإنها تنظر إلى التطورات في شرق البحر الأبيض المتوسط من منظور جيوسياسي وجيواقتصادي، وذلك من خلال الاحتجاجات في لبنان. وفي هذا السياق -على الرغم من أنه ما يزال من غير الممكن اعتبار أنقرة لاعباً رئيساً في التطورات الداخلية في لبنان- يبدو أن التحركات التركية في لبنان آخذة في الازدياد؛ ولذلك، يتم التطرق في هذا المقال للخلفيات والعواقب المترتبة على نفوذ تركيا المتزايد في لبنان.

لمحة عامة عن الخلفيات التأريخية للنفوذ التركي في لبنان، تقديم الأمثلة وتحليل عملية التدخل التركي في التطورات الأخيرة في هذا البلد، أسباب تركيا الجيوسياسية والجيواقتصادية لتعزيز نفوذها في لبنان، والعواقب والتداعيات المترتبة على النفوذ التركي في لبنان للجمهورية الإسلامية الإيرانية، هي من بين الموضوعات الرئيسة لهذا المقال.

لمحة عامة عن الخلفيات التأريخية للنفوذ التركي في لبنان

لا يقتصر النفوذ التركي في لبنان على الأشهر الأخيرة، بل خططت تركيا لزيادة وجودها في لبنان على مدى السنوات الماضية. وأرسلت أنقرة الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا” إلى لبنان منذ عام 2006 للتركيز على هذا البلد. إن هذه المنظمة لا تعمل في لبنان فحسب، بل تضع دولاً مختلفة على جدول أعمالها. وبما أن تركيا تسعى إلى التنافس مع السعودية على زعامة العالم السنّي؛ لذا مع تنامي نفوذ الرياض في لبنان، حاولت أن يكون لها تواجد في هذا البلد. وكان التقارب مع الأتراك الذين يعيشون في لبنان والقرب من السياسيين المقربين من سعد الحريري، من بين الإجراءات التي اتخذتها تركيا من أجل زيادة نفوذها في لبنان. وبالتالي، فإن ما نشاهده حالياً من الإجراءات التركية في لبنان، هو نتاج عقود من الوجود التركي في هذا البلد.

لقد قررت أنقرة توسيع دائرة نفوذها في لبنان بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وقد أدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دوراً مهماً في دفع هذه السياسة. وأدت المزاعم العثمانية الجديدة للحكومة التركية إلى تكثيف أنشطة أنقرة في لبنان؛ لأن تركيا تعتقد أن الأراضي اللبنانية تابعة للإمبراطورية العثمانية، وتحاول الآن إثبات هذه القضية عملياً.

الدلالات وتحليل عملية التدخل التركي في التطورات الأخيرة في لبنان

تُظهر الأمثلة التي تدل على إجراءات أنقرة في لبنان أن تركيا تسعى إلى مواصلة نهج “العثمانية الجديدة” في لبنان. فعلى سبيل المثال، عندما ألقى الرئيس اللبناني ميشال عون خطاباً بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس لبنان وأشار فيه إلى كيفية الاستقلال عن العثمانيين، احتجت أنقرة على كلمته. حتى أن عدداً من الأشخاص الموالين لتركيا في لبنان، أعربوا عن دعمهم لتركيا من خلال رفع الأعلام التركية. وكان ميشال عون قد صرح في خطابه أن العثمانيين كانوا سبب موت الآلاف في لبنان[1]. وقوبل موقف الرئيس اللبناني برد فعل من وزارة الخارجية التركية، ولكنه نفى اتهام ممارسة إرهاب الدولة. إن تنظيم الاحتجاجات ضد مواقف بيروت في هذا الصدد تعدّ إحدى الأمثلة التي تدل على التدخل التركي في لبنان، وفضلاً عن تنظيم مثل هذه المسيرات الداعمة للحكومة التركية، فإن الزيارات السرية والمعلنة لبعض الشخصيات اللبنانية إلى أنقرة، ولاسيما المنتمية إلى تحالف 14 آذار، تشير إلى التدخل التركي في لبنان.

الأمثلة التي تدل على هذه الإجراءات لا تنتهي عند هذه الحالات، فعلى سبيل المثال، إن الإجراء الذي قامت به السفارة التركية ضد قناة “الجديد” اللبنانية، هو مثال آخر في هذا الصدد[2]. لقد انتقد مراسل هذه القناة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ مما أدت هذه القضية إلى دفع السفارة التركية في لبنان لرفع شكوى ضد القناة. وتُظهر الاحتجاجات التي وقعت في لبنان في الأشهر الأخيرة آثار التدخل التركي. ووفقاً للتقارير، ليس كل الذين شاركوا في احتجاجات من أصول لبنانية، بل يوجد بينهم مرتزقة تم تجنيدهم من قبل أنقرة. وهذا الأمر يمثل تدخل غير شرعي في الشؤون اللبنانية، وإن استمراره من شأنه تشويه صورة تركيا أكثر من ذي قبل.

أسباب تركيا الجيوسياسية والجيواقتصادية لتعزيز نفوذها في لبنان

1- توسيع السوق الاستهلاكية

إن الإجراءات التي تقوم بها أنقرة محسوسة في شمال لبنان، ولاسيما في مدينة طرابلس. وإن اندلاع بعض الاحتجاجات في لبنان، جعل قضية التدخل التركي في لبنان أكثر وضوحاً. وأحد الأسباب الجيو اقتصادية التي تكون واضحة في جهود أنقرة لبسط النفوذ في لبنان، تتمثل في أهمية السوق اللبنانية بالنسبة لتركيا. وتحاول أنقرة من خلال زيادة نفوذها في لبنان، تلبية العديد من احتياجات السوق اللبنانية. إن هذه السياسة التي تنتهجها أنقرة، تتبلور في استمرار سياسة تنمية الصادرات، التي توفر للمنتجات التركية زبائن في مختلف البلدان. ونجاح الاقتصاد التركي في تلبية احتياجات السوق لعدد من دول المنطقة، يدل على حقيقة أن السلع التركية يمكن أن تجد موقعاً متميزاً في السوق اللبنانية.

2-العثمانية الجديدة

تكشف الأسباب الجيوسياسية لبسط نفوذ تركيا في لبنان تجاه الجهود التركية، وبما أن حكومة حزب العدالة والتنمية تتطلع إلى التركيز على نهج “العثمانية الجديدة”، فإن أنقرة تحاول زيادة نفوذها في غرب آسيا، وبما في ذلك لبنان. وبما أن مساعي تركيا للتدخل في سوريا باءت بالفشل، فهي الآن تسعى لتعويض الخسائر التي تكبدتها جراء هذا الفشل. وإن زيادة وجودها في لبنان يمثل أحد خيارات أنقرة لتعويض إخفاقات الماضي. والدعم الذي تقدمه أنقرة للأتراك الذين يعيشون في لبنان يتم في إطار السياسات العثمانية للحكومة التركية؛ حيث إن تركيا تمنح الجنسية التركية لهؤلاء الأتراك، وحصل حتى الآن حوالي 50 ألف لبناني على الجنسية التركية.

3-منافسة الرياض وأبوظبي

تسعى تركيا إلى منافسة الرياض وأبو ظبي على زعامة العالم السنّي؛ ولذلك، ركزت أنقرة تحركاتها في شمال لبنان من أجل النفوذ بين أهل السنة في هذه المنطقة. وإن النشاط الذي تقوم به منظمة “تيكا” لخلق ولاء لدى اللبنانيين من خلال تقديم المنح الدراسية لهم، هو جزء من خطط أنقرة لزيادة وجودها في شمال لبنان. لقد حصل حوالي عشرة آلاف لبناني على المنح الدراسية التي تقدمها منظمة “تيكا”.

لم ينس الأتراك تورط السعودية في انقلاب 15 تموز 2016؛ ولذلك فإن أنقرة تقيِّم دولاً مثل السعودية والإمارات في الاتجاه المعاكس لسياساتها؛ وأدى ذلك إلى استمرار التوترات بين الطرفين حتى الآن. وإن التنافس بين الطرفين في لبنان يُعد مثالاً على هذا الواقع في علاقاتهما. ويبدو أن هذه التوترات ستستمر. ويبدو أيضاً أن تركيا مستعدة للتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية لتحديد المصالح الإقليمية للسعوديين. وبما أن السعودية سعت إلى تأمين مصالحها في لبنان واستغلت في السنوات الأخيرة العناصر الموالية لها في هذا البلد، قامت تركيا بوضع تقييد المصالح السعودية في لبنان على جدول الأعمال؛ وهذا الأمر يجعل الوجود التركي المتزايد في لبنان يبدو معقولاً تماماً، ويمكن توقع أنه على الرياض أن تنتظر إجراءات تركيا في مجالات أخرى أيضاً.

4-القرب من تيار المستقبل

لقد كوّنت أنقرة اتصالات مع تيار “المستقبل” لزيادة نفوذها على الساحة السياسية، إذ إن بعض السياسيين المقربين من سعد الحريري لهم علاقات وثيقة مع تركيا؛ وهذا يعني أن أنقرة تسعى إلى توسيع نفوذها في الساحة السياسية اللبنانية. لأن أنقرة بحاجة إلى مزيد من الاهتمام بهذا الأمر من أجل تنفيذ أهدافها في لبنان. وما ظهر حتى الآن من تحركات تركيا في لبنان هو أنها أخذت تميل نحو تيار “المستقبل”، ويمكن تفسير أسباب هذا الأمر في إطار منافسة السعوديين. وكما ذكرنا، هناك توترات ومشكلات غير قابلة للحل بين أنقرة والرياض؛ ولذلك، توجّهت تركيا نحو تيار سياسي لبناني يكون أقرب إلى الرياض. وزيادة التعاون بين تركيا وهذا التيار السياسي يمكن أن يحد من مصالح الرياض بشكل أكبر. ويبدو أن أنقرة ستضع قدر الإمكان الحد الأقصى لكسب ولاء تيار المستقبل على جدول أعمالها، وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن تتعاون تركيا مع التيارات الأخرى التي تتعاون مع السعودية.

5-النهج الإخواني

يعدُّ الدعم الذي تقدمه تركيا لجماعة الإخوان المسلمين اللبنانية سبباً آخر لوجود أنقرة في هذا البلد. وبما أن الحكومة التركية اتبعت نهج الإخوان، دعمت الجماعة في بلدان مختلفة، بما في ذلك مصر وفلسطين، وإن دعم الإخوان المسلمين في لبنان يتماشى مع هذه السياسة. ويعدُّ “سالم الرافعي” من الشخصيات المدعومة من قبل أنقرة. وتعمل تركيا على توسيع دعمها لشبكة الإخوان المسلمين في المنطقة عبر الدعم الذي تقدمه للعناصر الإخوانية. وباتخاذ هذه السياسة، سيكون لدى أنقرة بعض الجماعات التي تتبنى الأيديولوجية الإخوانية في السنوات المقبلة، التي تمتلك القدرة في التأثير على المعادلات الإقليمية.

تداعيات النفوذ التركي في لبنان على إيران

لقد كان تدخل بعض الجهات الإقليمية -بما في ذلك السعودية- في لبنان واضحاً تماماً في السنوات الأخيرة. مثلما تأثر رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري بسياسات الرياض؛ لذلك، تركيا أيضاً باعتبارها جهة فاعلة أخرى، تسعى للنفوذ في لبنان والتأثير على معادلات هذا البلد، لكن هذه القضية ستفشل لأسباب مختلفة:

– أولاً: إن أنقرة لا تحظى بشعبية كبيرة في المجتمع اللبناني؛ وبالتالي، فإنها لا يمكن أن تحظى بدعم من الجسم الاجتماعي.

– ثانياً: الشخصيات التي تعتبر من أنصار تركيا في لبنان لا تتمتع بقوة سياسية كبيرة. وعلى هذا الأساس، فإن أنقرة غير قادرة على المنافسة مع جمهورية إيران الإسلامية في لبنان على أرض الواقع. تتمتع العلاقات الإيرانية اللبنانية بجذور عميقة؛ ولذلك، لا تستطيع جهة فاعلة أخرى أن تقوم بزعزعة النظام القائم بسهولة.

إن استمرار تحركات أنقرة المدمرة في لبنان في نتائجها الأولى، سيغير موقف إيران الودي تجاه تركيا. لقد زادت جمهورية إيران الإسلامية وتركيا من القواسم المشتركة النظرية والعملية في المنطقة، ولكن القضية المشار إليها آنفاً، لها تأثير مباشر على هذه التفاعلات. وبما أن أنقرة غير قادرة على منافسة إيران في لبنان، فإن جهود حكومة حزب العدالة والتنمية لن تكون مثمرة في هذا الصدد. والاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من هذه المسألة هو أن تصرفات حزب العدالة والتنمية ستؤدي إلى إضعاف الحكومة التركية أكثر من ذي قبل؛ واستمرار هذا الضعف يعني أن أنقرة لم تعد تؤثر على المعادلات الإقليمية. طبعاً من الضروري الإشارة إلى هذه النقطة أن وجود أنقرة في لبنان، قبل أن يكون من أجل المنافسة مع محور المقاومة، يسعى للتنافس مع السعودية. ولذلك، بإمكان أنقرة أن تتجه نحو التعاون مع طهران أيضاً، وسيؤثر ذلك على تعاون تركيا مع محور المقاومة.

النتيجة

إن تركيا هي واحدة من الجهات الفاعلة الإقليمية التي تسعى إلى توسيع نفوذها في غرب آسيا وشمال أفريقيا. وبعد أزمة الصراع في سوريا وليبيا، يمكن اعتبار الأزمة اللبنانية أحد أهم أسباب تزايد النفوذ والتوسع التركي في منطقة الشرق الأوسط. وهناك العديد من العوامل والمجالات التي تجعل لبنان أكثر جاذبية لتركيا، بما في ذلك التنافس مع السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتقليل دور هذين المنافسين الإقليميين في لبنان. ومن ناحية أخرى، تدعي أنقرة أنها تتزعم العالم السنّي، وتحاول وضع قضية تقديم الدعم لأهل السنة في المجتمع الطائفي اللبناني على جدول أعمالها، وفي هذا السياق، زادت أنقرة من اتصالاتها الميدانية مع الشخصيات اللبنانية. ومن جهة أخرى -نظراً لموقع الجغرافيا السياسيّة اللبنانيّة وقدرة هذا البلد على الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط- فإن تصاعد نفوذ تركيا في لبنان يمكن أن يعزز موقعها في صراعات الحدود والغاز في شرق البحر المتوسط ضد الدول الأعضاء في “منتدى غاز شرق المتوسط”.

المصدر:

معهد التبيين للدراسات الاستراتيجية     http://tabyincenter.ir/38326


-1The neo-Ottomans are back. How should Lebanese Armenians respond?, 24/06/2020, Available at: https://armenianweekly.com/2020/06/24/the-neo-ottomans-are-back-how-should-lebanese-armenians-respond/

-2CNA asks Al Jadeed for show episode offending Turkish President«, 17/06/2020, Available at: https://www.mtv.com.lb/en/News/Local/1067343/CNA-asks-Al-Jadeed-for-show-episode-offending-Turkish-President