زاهير كازمي: من كبار باحثي جامعة كوينز (بلفاست)، وهو مختص في العلاقات الإسلامية-الغربية.

آلت دعوة رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي لإجراء انتخابات مبكرة -وهي خطوة ترمي إلى تعزيز موقفها في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي- إلى جعل مستقبل ماي أمراً مجهولاً؛ لكن مع ذلك أياً كان الذي يقود المملكة المتحدة في الأشهر المقبلة فلن يكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على رأس جدول أعماله فحسب بل ستأخذ سياسة مكافحة الإرهاب مكان الصدارة.

إن الهجمات التي تخللت الحملة الانتخابية تفصح عن حجم هذه المهمة، ففي مانشستر شن انتحاري هجوماً بقنبلة محلية الصنع متطورة، وفي لندن نفذت مجموعة من ثلاثة إرهابيين هجوماً بتكنولوجيا يسيرة باستخدام شاحنة وسكاكين؛ وقد يكون كلا الحادثين مرتبطين في مناطق الصراع بليبيا وسوريا، إلا أن الهجمات الأخيرة لم تقتصر على أنصار داعش، ففي وقت سابق من هذا الأسبوع قاد رجل أبيض يبلغ من العمر 47 عاماً هجوماً بشاحنة على حشد من المصلين الذين غادروا مسجد فينسبري بارك في لندن؛ الأمر الذي أثار مخاوف صعود الإرهاب المتطرف ضد المسلمين، وقد أفاد شهود عيان بأن منفذ الهجوم قد صرخ خلال تنفيذه للهجوم قائلاً: “أريد قتل جميع المسلمين”.

وقد هيمنت على الحملة الانتخابية ثلاث قضايا بشأن السياسة الأمنية وستظل صلب النقاش الأمني هي: تخصيص موارد مكافحة الإرهاب للشرطة والاستخبارات والعمل الوقائي، وتوازن سلطات الدولة بشأن حقوق الإنسان والحريات المدنية، وطبيعة سياسات لندن حيال البلدان ذات الأغلبية المسلمة وعواقبها. وفي جميع هذه المجالات، فإن الاستمرارية هي النتيجة الأكثر ترجيحاً. إن قيام ماي بإعادة تعيين أمبر رود Amber Rudd في وزارة الداخلية، وبوريس جونسون  Boris Johnsonكوزير خارجية، ومايكل فالون Michael Fallon كوزير للدفاع يعزز ذلك الاحتمال، وإن عودة مايكل غوف  Michael Goveإلى مجلس الوزراء قد تكون مهمة أيضاً؛ فعلى الرغم من أن الأخير يعمل الآن كوزير للبيئة، إلا أنه معروف بآرائه المتشددة حول الإسلاموية، وكان من الداعمين لسياسات رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون لمكافحة التطرف، ومن المرجح أن يسعى المحافظون في فريق ماي إلى توسيع سلطات الدولة وزيادة تركيزها على سياسات ما يسمى بتطرف اللاعنف، ولاسيما بين أوساط المجتمعات الإسلامية، وتعزيز التدابير التي يعود تأريخها إلى حكومة كاميرون الائتلافية بقيادة المحافظين.

التقشف في زمن الإرهاب:     

إن المسألة الأولى التي تواجه ماي هي الإنفاق الحكومي على مكافحة الإرهاب، ففي بيان لها بعد الاإنتخابات قالت إنها عقدت العزم على إعطاء “الشرطة والسلطات الصلاحيات التي تحتاجها للحفاظ على سلامة البلاد”؛ ومع ذلك فإن القراءة التأريخية لعلاقة ماي بالشرطة تفصح عن علاقة تشوبها الحساسية، إذ يعود تأريخ هذه العلاقة إلى حقبة توليها منصب وزارة الداخلية بين عامي 2010 و2016 حينما دعمت استقطاعات توفير المال لهم، وإبان تلك الحقبة انخفض العدد الإجمالي لضباط الشرطة في إنجلترا وويلز بنسبة 13% على الأقل، وانخفض العدد بنسبة أعلى لمجموعة من الضباط المسحلين بنسبة 19%؛ وهي حقيقة لم يغفلها حزب العمال الذي انتقد تدابير المحافظين التقشفية خلال الحملة الانتخابية وقال إنها عرّضت البلاد للخطر.

وقد ردت ماي على هذه التهمة بحجة أن الموازنة العامة لمكافحة الإرهاب قد تم حمايتها حتى مع انخفاض أعداد الشرطة، وهناك بعض الحقيقة في قولها بأن سجل الحكومة في مجال الأمن لا يمكن اختزاله بتخفيض عدد ضباط الشرطة؛ إذ تدعم الحكومة البريطانية مجموعة متزايدة من البرامج الأمنية بدءاً من أجهزة الشرطة والاستخبارات التقليدية إلى العمل الوقائي الموجه صوب المجتمع، التي تصل الآن إلى كل هيئة عامة تقريباً، ومع ذلك لا يزال رئيس الوزراء يواجه معضلتين ذات الصلة بذلك، الأولى: كيفية التوفيق بين الأجندة التقشفية مع قناعة الرأي العام المتزايدة بوجود صلة بين الاستقطاعات في الخدمات والتهديدات التي تواجه سلامتهم كمواطنين، والأخرى: كيفية التمييز بين سياسات المحافظين عن تلك التي لحزب العمال، التي تبدو أنها ملتزمة بالقدر نفسه القاضي بوضع مزيد من الموارد في البرامج المتصلة بالأمن؛ لذا فالتقارب بين الحزبين حول هذه المسألة يثير القلق مع انتقادات حزب العمال الواسعة لسياسة المحافظين لمكافحة الإرهاب بوصفها توسعية بنحو مفرط وتدخلية كذلك.

وعلى الرغم من أن المنطق السياسي لماي يشير إلى تخفيف التقشف نهائياً من أجل حل المعضلة الأولى، إلا أن هذا التحوُّل يبدو غير مرجحٍ على المدى القصير، وبعد هزيمتها في الانتخابات ستحتاج إلى تحويل انتباهها إلى الانشقاق المتزايد داخل حزبها بشأن مستقبل التقشف. أما بشأن المعضلة الثانية، فهي تتعلق بمسألة السياسات الوقائية والحريات المدنية فان سياسة المحافظين لمكافحة الإرهاب من المرجح أن تبقى متميزة، إذ إن تعهد حزب العمال بمراجعة الاستراتيجية الوقائية -وهو برنامج بدأ في العام 2003 يرمي إلى الحد من التطرف- وضع بعض من البون الواضح بين الحزبين حتى وإن وعد المحافظون بمراجعة استراتيجية مكافحة الإرهاب أيضاً. ويمكن أن تحاول ماي أيضاً تعزيز رسالة المحافظين الانتخابية بأن كوربين ضعيف في مكافحة الإرهاب كونه صوّت مراراً ضد تشريعات مكافحة الإرهاب.

الحرية والأمن:           

السؤال الآخر لماي أو من يخلفها هو كيف سيؤثر توسيع سلطات الدولة على حقوق الإنسان والحريات المدنية؟ والأمر المحوري هنا سيكون تنفيذ الحكومة لاستراتيجية المحافظين لمكافحة التطرف لعام 2005 -وهي وثيقة تؤكد على ما وصفته بــ”القيم البريطانية” في مواجهة “تطرف اللاعنف”- ومحاولتها الرامية لتعزيز الاستراتيجية الوقائية؛ إذ كانت استراتيجية مكافحة التطرف لعام 2015 مرتبطة بوعد متمثل بمشروع قانون حكومي لم يتحقق أبداً.

وفي خطاب لها بعد يوم من الهجوم الذي وقع  في 3 حزيران على جسر لندن، حددت ماي خطة لمكافحة التطرف من أربعة أجزاء، وكررت التزام المحافظين في البرنامج الانتخابي الحزبي، بتشكيل لجنة لمكافحة التطرف؛ ومع ذلك قد يبدو أيضاً أن ماي قد تجاوزت التزامات البرنامج الانتخابي من خلال رفع إمكانية إدخال ضوابط جديدة في الفضاء السيبراني، وتشديد العقوبات على الجرائم المتعلقة بالإرهاب، حتى لما سمّته “أقل خطورة” وفي جميع الاحتمالات هي إشارة إلى حالات تطرف اللاعنف.

أما بخصوص لجنة المحافطين الجدد لمكافحة التطرف، فإن الحكومة لم تقدم بعد كثيراً من التفاصيل بشأن ما سيترتب على تلك اللجنة، ولكن مهما يكن من أمر لمسؤوليات هذه اللجنة، فمن المرجح أن تكون جهودها محدودة؛ وهذا يعود إلى حقيقة هي أن المشرعين -أعضاء مجلس العموم) لم يضعوا بعد معايير عملية حول ما يتضمنه التطرف. وقد طلبت لجنة حقوق الإنسان المشتركة بين الحزبين مراراً من رود -وزير الداخلية- تفسير للكيفية التي ستضع فيها الحكومة تعريفاً أكثر فائدة، لكنها لم تتلق لغاية الآن رداً على مخاوفها بشأن تعريف الحكومة الذي تعده غامضاً وغير قابل للتطبيق، ومن المحتمل أن يتسبب بالتباس في أوساط الرأي العام، وأن يشمل الأود الاجتماعي الذي لا يرتبط بنحوٍ واضح بأسباب الإرهاب، من قبيل الزواج القسري؛ فقد ذكرت الحكومة أيضاً أن استراتيجيتها لمكافحة التطرف منفصلة عن الاستراتيجية الوقائية، على الرغم من التداخل الكبير بين الاثنتين..

ومما يزيد الطين بلة، أنه وعلى الرغم من أن استراتيجية مكافحة التطرف لعام 2015 قد ذكرت التطرف الإسلامي واليمين المتطرف، إلا أن البرنامج الانتخابي للمحافظين وخطة النقاط الأربع الموضحة في خطاب ماي في 4 حزيران لم يركز إلّا على التطرف الإسلامي، ولكن بعد الهجوم على المسلمين في فينسبري بارك غيرت ماي وحكومتها المسار، وأثارت من جديد قضية التطرف اليميني، وكان ذلك تغييراً مرحباً به، إذ إن التهوين من التهديد الذي يشكله المتطرفون من اليمين المتطرف والإسلامفوبيا -أي التخويف من الإسلام- من شأنه أن يكون خطراً إذا ما ترك من دون رقابة، وستكون له نتائج عكسية في سياق زيادة إمكانية تفاقم عزلة المجتمعات الإسلامية، وكانت الاحتفالات التي جرت في نهاية الأسبوع الماضي بالذكرى الأولى لقتل النائب جو كوكس Jo Cox  من قبل يميني متطرف هو منبه آخر للتهديد.

إن نية ماي في إدخال ضوابط أكثر صرامة لمراقبة التطرف، وإبداء الإستعداد لتغيير قوانين حقوق الإنسان باسم الأمن، وتمرير قانون سلطات التحقيق لعام 2016 الذي منح الحكومة سلطات رقابة أوسع، كلها تشير إلى أن الحكومة بقيادة المحافظين ستواصل النهج الواسع للتعامل مع التطرف الذي أُسس له في ظل حكومة كاميرون. والمشكلة التي تواجه هذا النهج تكمن في أنه مثير للانقسام، ويستعدي العديد من المواطنين، ويهدد الحريات المدنية، ففي الشهر الماضي أشار تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى تبني المملكة المتحدة الاستراتيجية الوقائية، واستراتيجية مكافحة التطرف وقانون سلطات التحقيق، وعدها تقويضاً للحق في التجمع السلمي وتشكيل الجمعيات. وواحدة من جذور هذه التدابير هي مشكلة ربط الحكومة كل أنواع تطرف اللاعنف بالإرهاب العنيف.

في موقع الهجوم بالقرب من مسجد فينسبري بارك، لندن، حزيران 2017
في موقع الهجوم بالقرب من مسجد فينسبري بارك، لندن، حزيران 2017

الحديث المتشدد:                                                                   

دانت ماي في خطاب لها بعد هجمات جسر لندن “الأيديولوجية الشريرة للتطرف الإسلامي”، وتحدثت عن “محادثات صعبة” كان ينبغي إجراؤها لمعالجة ما وصفته بأنه “القدر الكبير من التسامح مع المتطرفين” في المملكة المتحدة؛ وقد أدّى نداؤها لدعوات حزب العمال والديمقراطيين الليبراليين إلى نشر نتائج تحقيق حول التمويل الأجنبي للتطرف في البلاد الذي وافقت عليه إبان مدة عملها بوصفها وزيرة للداخلية. ويعتقد على نطاق واسع أن هذا التحقيق يشير إلى المملكة العربية السعودية -شريك بريطانيا المهم- بوصفها مصدراً رئيساً لمثل هذا التمويل.

وقدم الخطاب فرصة لمنتقدي ماي، كون المحافظين فكروا أيديولوجياً بدلاً من التفكير بالعوامل الأخرى، مثل التهميش الاجتماعي والاقتصادي، بوصفه مصدراً رئيساً للتطرف؛ ولهذا واصلوا البحث عن العلاقات الوثيقة مع الرياض، وفي الحقيقة أن ماي أو خليفتها المحافظ سوف يلتزم على الأغلب بالعمل كالمعتاد مع المملكة العربية السعودية لأسباب أمنية وتجارية. وحينما يتعلق الأمر في المجال الثالث الذي سيؤطر سياسية المحافظين لمكافحة الإرهاب -العلاقات الخارجية- فحينها ستسود المصالح البريطانية بدلاً من القيم البريطانية.

وهذا يجلب مضاعفات من تلقاء نفسه، ففي الوقت الذي ستظل فيه الولايات المتحدة أقرب حليف للملكة المتحدة في المستقبل المنظور، إلا أن واشنطن ستجعل أيضاً علاقة المملكة المتحدة مع العالم الإسلامي أكثر صعوبة؛ إذ إن زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية، ودعمه المطلق للدول السنية الاستبدادية في عدائها مع إيران الشيعية والأزمة الإقليمية مع قطر، ستختبر التزام لندن بالسياسة الخارجية المستقلة التي يقول الداعمون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إن خروج المملكة سيتيح لها تبني مثل هذه الاستقلالية.

وعلى القدر نفسه من الأهمية إمكانية قيام المملكة المتحدة بضربات جوية ضد حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، كما فعلت الولايات المتحدة، إذ قال جونسون وزير الخارجية في حكومة ماي: إنه يتفق مع رئيسة الوزراء بأن من الصعب تجاهل طلب أمريكي بالمساعدة في حالة وقوع هجوم كيمياوي في سوريا، حتى من دون تصويت برلماني. وعلى الرغم من أن ماي أشارت إلى تعليقات جونسون بأنها “افتراضية” إلّا أن رغبتها في الانضمام إلى التدخلات العسكرية الأمريكية لا تزال غير واضحة.   

ومنذ الانتخابات كان على ماي أن تواجه اختبارين صعبين هما: هجوم فينسبري بارك، والحريق المأساوي في برج غربنفيل؛ الأمر الذي دفعها إلى تهدئة خطابها، وفي الوقت نفسه جاء ربط الرأي العام للتقشف بمسائل السلامة العامة؛ وإذا كانت ولاية رئيسة الوزراء الضعيفة تجبرها على تهدئة بعض الجوانب الأكثر إشكالية في سياسة حكومتها لمكافحة الإرهاب، فإنها ستكون بارقة أمل في الأسابيع القليلة الفوضوية.


 

رابط الدراسة:

https://www.foreignaffairs.com/articles/united-kingdom/2017-06-22/british-counterterrorism-after-election