مالكلولم تشالمرز: نائب المدير العام للمعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن، وهو مختص بالشؤون الخارجية والدفاعية والأمنية للمملكة المتحدة.

نقاط مهمة  

  • إن المملكة المتحدة ترمي إلى تأسيس علاقات خاصة جديدة بينها وبين الاتحاد الأوروبي بشأن السياسة الخارجية والأمنية في أعقاب خروجها من الاتحاد؛ لتفسح المجال إلى المبادرات المشتركة معه والفعاليات حول القضايا ذات الاهتمام المشترك.
  • من أجل المساعدة في ردم الهوة في التمثيل الدبلوماسي الناجمة عن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ستحتاج المملكة المتحدة إلى زيادة الاستثمار في التمثيل الدبلوماسي في العلاقات الثنائية وعبر الحكومة البريطانية في العواصم الأوروبية الأخرى.
  • يجب كبح جماح الإغراء باستخدام “فائض الأمن” للمملكة المتحدة كورقة مساومة -أي دورها بوصفها قوة عسكرية وإستخباراتية في أوروبا الغربية-. مع ذلك فإن مساهمة المملكة المتحدة في الأمن الأوروبي تعمل على تذكير دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بالمصالح والقيم القوية التي سيواصلون الحصول عليها  بنحو عام.
  • سيكون من الصعوبة بمكان بالنسبة للمملكة المتحدة أن تبقى محتفظة بنفوذها في المناطق مثل: (البلقان، وأوكرانيا، وشمال أفريقيا، وتركيا) طالما شكل الوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي -وفي بعض الحالات العضوية المحتملة في الاتحاد الأوروبي- دافعاً سياسياً قوياً لها، من المرجح أن تسعى دول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي بالاستفادة من خروج بريطانيا من أجل زيادة نفوذها.
  • إن تأثير المملكة المتحدة في الأمن الأوروبي سيبقى كبيراً؛ نظراً لموقعها بوصفها القوة الأوروبية الأكثر قدرة واستعداداً في حلف الناتو، لكن مع ذلك سيبقى الأمر الأكثر صعوبة على المملكة المتحدة من ترجمة هذا الالتزام إلى نفوذ سياسي؛ إذ يتعين أن تعمل جاهدة لضمان أن تكون مدخلات سياستها ليست على هامش أو نتيجة تترتب على نتائج الحوار بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
  • هناك نقاش قائم بشأن احتمالية تحويل منصب نائب القائد الأعلى للتحالف في الناتو (DSACEUR) -الذي شغلته المملكة المتحدة منذ العام 1951- إلى عضو آخر في الناتو لا يزال جزءاً من الاتحاد الأوروبي.
  • قد تكون هناك طرق مبتكرة لمعالجة هذه المسألة، لكن مع ذلك أن حقيقة ما جرى بالفعل إنما هو رسالة واضحة بأن نفوذ المملكة المتحدة ضمن حلف الناتو لا يمكن أن يكون محصّناً كلياً من عواقب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
  • إن دور المملكة المتحدة بوصفها شريكاً عالمياً ذا قيمة للولايات المتحدة سيظل على الأرجح من دون ضرر بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، مقارنة بدورها بوصفها “جسراً” دبلوماسياً بين الولايات المتحدة وأوروبا. إن إمكانية العزلة الدبلوماسية في أوروبا يمكن أن تغري الحكومة بالاعتقاد بأنه لا بديل عن الوقوف “جنباً إلى جنب” مع الولايات المتحدة في أي صراع عسكري في المستقبل، وقد عززت التجارب خلال العقود الأخيرة الماضية ضرورة توخي الحذر، والآن ربما ستزيد رئاسة دونالد ترامب الرغبة في الحفاظ على علاقات أمنية قوية مع كلٍّ من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على السواء.
  • ستحتاج المملكة المتحدة إلى موازنة رغبتها في استخدام الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بوصفه فرصة لتعميق نفوذها كقوة عالمية مع استمرار مصلحتها في الأمن والاستقرار في أوروبا، وفي خضم أوج نشاطها في الشؤون الدولية بعد عقد من العام 1997، تطمح المملكة المتحدة بأن تكون “قوة من أجل الخير”، وهي الأجندة التي تحققت بفضل النمو الاقتصادي السريع والبيئة الأمنية المواتية في أوروبا، واليوم على النقيض من ذلك فإن الإصرار الروسي -مع الآثار غير المباشرة المتعددة الناجمة عن انهيار الدول العربية الرئيسة- يجعل من التهديدات الأمنية في جوار المملكة المتحدة الأوربي أكثر أهمية من أي وقت مضى منذ العام 1990، وإذا ما استمر هذا النمط، فإن الأولوية النسبية التي تعلقها المملكة المتحدة على أمن أوروبا يمكن أن تتزايد، بإزاء انحسار قدرتها على التأثير في شكل العمل الجماعي.
  • إن انتخاب ترامب بوصفه رئيساً للولايات المتحدة يمكن أيضاً أن يقود إلى مزيدٍ من الضغط على الدول الأوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة؛ من أجل الاضطلاع بنصيب أكبر من المسؤولية عن أمنهم؛ ونظراً لذلك فإن المملكة المتحدة ترغب على الأرجح في تعميق الجهود الموجودة لتحسين التعاون الدفاعي الثنائي مع أعضاء الناتو الأوروبيين -فرنسا على سبيل المثال-، وفضلاً عن ذلك فإن رئاسة ترامب ربما تقود حتى إلى رغبة أكبر من قبل المملكة المتحدة في حقبة ما بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لمناقشة تعزيز التعاون الدفاعي مع الاتحاد نفسه.

إن العواقب طويلة الأمد للسياسة الخارجية لانسحاب المملكة المتحدة قد تعتمد -قبل كل شيء- على ما إذا كان سيتبعه انتعاش اقتصادي يمكن أن يوفر الموارد التي ستحتاجها المملكة المتحدة لدعم مصداقيتها بوصفها قوة دولية مستقلة، في الوقت الذي يعالج أيضاً الاستياء الشعبي الذي أعطى زحماً للتصويت في يوم 23 من حزيران 2016.

ومع ذلك حتى قبل أن تصبح التداعيات الاقتصادية واضحة على المدى الطويل، فإن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي من المرجح أن يكون له تأثير كبير على السبل التي من خلالها تكون المملكة المتحدة قادرة على استخدام قدرات سياستها الخارجية –الدبلوماسية والدفاع والتنمية– من أجل تعزيز مصالحها ونفوذها.

لم تعد على طاولة النقاش:

إن قرار رئيسة الوزراء تيريزا ماي من أجل استخدام المادة 50 من معاهدة لشبونة* بحلول آذار من العام 2017، والتزامها الواضح في استعادة سيطرتها الوطنية الكاملة على تنظيم الاقتصاد والهجرة، يفصح عن أن المملكة المتحدة الآن في طريقها للانسحاب من السوق الموحدة وعلى الأرجح من الاتحاد الكمركي. وإن هناك تحولاً جذرياً في العلاقات الاقتصادية مع بقية دول الاتحاد الأوروبي ستحصل، وإعطاء الحكومة القدرة على وضع قواعدها وإبرام اتفاقيات جديدة ودينامية تعمل في المملكة المتحدة بأكملها([1]).

بعد انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فإنها لم تعد ممثلة في مئات من الاجتماعات التي من خلالها يقرر الاتحاد كيفية الاستجابة للقضايا الدولية، ومن غير الواقعي أيضاً أن نتوقع المملكة المتحدة ستكون قادرة على الحفاظ على دورها المهم بصفة مراقب، إن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ستكون بنحوٍ متزايد قضية للعمل المشترك من قبل المفوضية والمجلس، وغالباً ما جمعتها مع لجنة العمل الخارجي التي انطوت على مفاوضات معقدة للمواقف المشتركة باستخدام مجموعة من القدرات -مثل الطاقة والسياسة والبيئة والعقوبات- التي تتجاوز أي فصل دقيق بين القضايا الاقتصادية، والأمنية.

إن المملكة المتحدة ستظل لها مصلحة في تشكيل سياسة الاتحاد الأوروبي في هذه القضايا حتى بعد مغادرتها؛ لذا فإن التركيز الأساسي من الاهتمام على مدى الثلاث سنوات القادمة لا بدُّ أن يكون على عملية إعادة الصلاحيات من الاتحاد الأوروبي إلى المملكة المتحدة والحكومة التي آلت إليها السلطة، وفي حالة عدم وجود اتفاقية انتقالية، فإن المملكة المتحدة ربما لن يكون أمامها سوى سنتين من أجل وضع سياسات وطنية -أو يعهد بها للحكومة-، وبنى إدارية لتنظيم التجارة -بما في ذلك العقوبات-، والهجرة، ومساعدات الدولة، وسياسة الطاقة، والمنافسة، والزراعة والثروة السمكية، وحماية البيانات، وأوجه تطوير التعاون، والبحث. وكنتيجة لذلك فإن هناك ثمة خطراً يتمثّل في أن يتم غض الطرف عن السياسة الأمنية والخارجية طالما تستخدم الحكومة قدرتها المحدودة للتركيز على تلك المخاوف الأكثر إلحاحاً.

أما الاتحاد الأوروبي فسيحتاج إلى العمل على كيفية تعديل البنى الخاصة به والسياسات والموازنات للتكيف مع خروج المملكة المتحدة، وهي العملية التي من المرجح أن تشمل مناقشات تقاسم الأعباء القاسية بين الدول الأعضاء؛ في إطار سعي الجميع لتقليل الخسائر الاقتصادية وتحقيق أعلى قدر من المكاسب، ومع مرور الوقت فمن المعقول أن نتوقع أن يتم التوصل إلى توازنات جديدة في المصالح بين أعضاء الاتحاد الأوروبي من جهة، والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من جهة أخرى، لكن هذه العملية ستستغرق وقتاً.

إن إعادة السلطات إلى الاتحاد الأوروبي سيوفر فرصاً جديدة لمتابعة نهج وطني للسياسة الخارجية؛ الأمر الذي يسمح باستخدام العقوبات والامتيازات التجارية بوصفها أداة للسياسة من دون الرجوع إلى السلطات الأوروبية أو المحاكم؛ مع ذلك فإن الثمن المدفوع جراء زيادة السيطرة الوطنية، سيكمن في صعوبة تنسيق العمل الجماعي في مواجهة التحديات الأمنية الناشئة.

وبمجرد الانتهاء من عملية الانفصال فقد تكون هناك مجالات للسياسة التي تصبح فيها المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أكثر تنافسية، لكن مع ذلك فإن مصالحها الجيوسياسية الأوسع ستستمر لتكون متطابقة على نحو كبير، لتعكس الموقف المشترك بينهما كما هو الحال بالنسبة للديمقراطيات الغربية المتقدمة مع العديد من الاهتمامات المشتركة تحديداً.

وكنتيجة لذلك قد يبدو أنه لا يزال من الممكن أن تنصور ظهور “علاقة خاصة” جديدة لحقبة ما بعد الانسحاب بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في مجال السياسية الخارجية والأمنية، ليفضي إلى مبادرات مشتركة في المستقبل بينهما؛ وكذلك اتخاذ إجراءات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك.؛ فمثل هذه العلاقة -إلى جانب تعزيز بعض الآليات طويلة الأمد الموجودة  للتشاور الرباعي بين فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- يمكن أن تساعد في ضمان أن تواصل المملكة المتحدة -بشكل وثيق- المساهمة بالمشاورات بشأن قضايا السياسة الأمنية الرئيسة اليوم، وأن مكانة المملكة المتحدة في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة يمكن أن يساعد في هذا الأمر.

مع ذلك من الضروري أن نكون واقعيين بشأن مدى النفوذ الذي يمكن أن يتمخض عن العلاقة الخاصة، إذ إن صنع القرارات المشتركة لن يكون ممكناً طالما غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، ورغبة كل طرف في أن يقف حائلاً ضد أي اقتراح يمكن يخضع صنع القرار لديها إلى الطرف الآخر، ومن المرجح أن تجد المملكة المتحدة نفسها في مواجهة الأمر الواقع الأوروبي على القضايا الرئيسة، إذ تؤدي الطبيعة المعقدة جداً للعمليات بأن تفضي إلى قرارات تعمل بالضد من إعادة الانفتاح على الأطراف الخارجية؛ والنتيجة الطبيعية التي لا مفرَّ منها هي أن المملكة المتحدة ستكسب مزيداً من السيطرة على سياساتها بإزاء انحسار كبير في قدرتها على صياغة نهج جماعي لدول الاتحاد الأوروبي.

إن الجهود المطلوبة لوضع سياسات وطنية جديدة، وتقليص النفوذ في بروكسل من المرجح أن يفضي إلى تعميق تركيز المملكة المتحدة على تلك المناطق ذات المصلحة الوطنية المباشرة، ومن أجل المساعدة في سد الفجوة في التمثيل الدبلوماسي على المستوى متعدد الأطراف الناجم عن انسحاب المملكة من الاتحاد الأوروبي؛ فإنها -أي المملكة المتحدة- ربما ترغب في أن تستثمر أكثر في العلاقات الثنائية وعبر الحكومة البريطانية والتمثيل الدبلوماسي في العواصم الأوروبية الأخرى، ومع ذلك من دون شغل مقعد في الاتحاد الأوروبي -حيث يتم إبرام التسويات عبر بلدان الاتحاد- فإن هذا الأنموذج الجديد للدبلوماسية الأوروبية من المرجح أن ينطوي على تحوّل في التركيز يبتعد عن وضع نهج جديد للاتحاد، ويقترب صوب حماية المصالح الوطنية المباشرة. 

إغراء “الأمن التجاري”:

إن المخاوف تتزايد بشأن الشروط المستقبلية لاتفاقية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وقد يميل بعض المنخرطين في صياغة السياسة إلى الركون للحجة القائلة إن المملكة المتحدة يجب إن تستخدم “فائض الأمن” لديها –أي دورها القيادي كقوة عسكرية واستخباراتية في أوربا الغربية- كورقة مساومة يمكن أن تستخدمها مقابل الحصول على تنازلات تجارية في تسوية ما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي([2]).

لكن على الرغم من ذلك هناك مخاطر تنطوي على تبني مثل هذا النهج، إذ يترتب على ذلك أن مساهمة المملكة المتحدة في الدفاع والأمن الجماعي ستعتمد على ما إذا كانت الدول الأخرى مستعدة للاعتراف بمصالحها في مجالات أخرى من قبيل الوصول إلى السوق الموحدة على سبيل المثال. وكما هو الحال مع ترامب -الذي ربط ضمانات الأمن الأمريكية بزيادة المساهمات من الحلفاء الأوروبيين والآسيويين خلال حملته الانتخابية للرئاسة- فإن مثل هذا النهج سيقوّض الثقة المتبادلة التي تعتمد تلك الضمانات، اذ سينظر للملكة المتحدة -سواء من جانب الحلفاء أم من الخصوم المحتملين- على أنها تسير صوب العزلة بمنحى أكثر مما كان متوقعاً في السابق، إذْ إن قيمة الطمأنينة في مساهمة المملكة المتحدة في الدفاع الجماعي تكمن إلى حد كبير في موثوقيتها، ويجب على الحكومة أن تفكر ملياً قبل ذلك، ومن ثَمَّ إن التزامها الأوسع لحلف الناتو سيكون موضع تساؤل.

إن “فائض الأمن” للمملكة المتحدة يمكن أن يكون مفيداً في أن توضح لأقرانها المفاوضين في الاتحاد الأوروبي -ولاسيما في الشؤون الأمنية والخارجية- أن هناك أموراً أكثر إيجابية في العلاقة مع المملكة المتحدة من الجدل الذي يحوم حول الرسوم الكمركية وقواعد الهجرة والمساهمة في الموازنة.

بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ستواصل هي والاتحاد الأوروبي تبادل المصالح والقيم الأساسية، والمملكة المتحدة ستعمل على أن تكون شريكاً موثوقاً به في الشؤون الأمنية والدفاعية. وحين الأخذ بعين الحسبان كيفية التعامل مع المفاوضات حينما تصل الأمور إلى مرحلة الأزمة، فإن أي رغبة لمعاقبة المملكة المتحدة للحيلولة دون حصول مزيدٍ من الانشقاقات في الاتحاد الأوروبي  يجب ان ينظر له بنحوٍ صحيح في إطار العلاقة الأوسع مع المملكة المتحدة.

المملكة المتحدة وجوارها الأوروبي:

إن المملكة المتحدة ربما تميل إلى استخدام الحريات الجديدة المترتبة على انسحابها من الاتحاد الأوروبي؛ لتوفير مزيدٍ من الحماية من مشاكلات أوروبا، ومثلما اختارت البقاء خارج منطقة العملة المشتركة، وإنشاء منطقة خالية من حرية المرور “الشنغن” التي أتاحت لها الابتعاد عن الأزمات المركزية التي تؤثر على بقية الاتحاد الأوروبي، فإن المملكة المتحدة ستسعى -على سبيل المثال- إلى استخدام ضوابط وطنية جديدة لتعزيز قدرتها على استخدام الاتحاد الأوروبي كمنطقة عازلة ضد الهجرة غير المرغوب فيها من شرق أوروبا وجنوبها.

ويبدو أن المستويات المرتفعة الحالية من المساعدات الاقتصادية في المملكة المتحدة إلى الدول الأعضاء الأكثر فقراً في أوروبا الشرقية وتوجيهها من خلال موازنة الاتحاد الأوروبي سيتم تخفيضها بنحوٍ حاد، وربما في الوقت الذي تنتهي فيه تماماً ستوفر للمملكة المتحدة ما مقدراه 9 مليارات يورو في السنة -حسب أسعار عام  2015-([3]). ومن الممكن أن تنسحب المملكة المتحدة أيضاً من صندوق التنمية الأوروبي، الذي سيتلمس آثارها على نحو غير متناسب جيرانها الأوربيون في الجنوب والشرق.

إن المملكة المتحدة قررت استخدام تلك الموارد لإعادة الاستثمار في المعونات لهذه البلدان نفسها على أساس ثنائي؛ ونظراً للأولوية التأريخية التي منحتها المملكة المتحدة إلى أوروبا الشرقية وشمال أفريقيا في إطار المساعدات على أساس ثنائي قد تدنت نسبياً، فإنه من المرجح أن يُحوَّلَ جزءٌ كبيرٌ من هذا التمويل إلى دعم الأولويات الجديدة المحددة وطنياً في الداخل الخارج، أو تستخدمها للمساعدة في تخفيف الأعباء المالية الناجمة عن الركود الناتج عن انسحاب المملكة من الاتحاد الأوروبي.

ونتيجة لذلك، سيكون من الصعب بالنسبة للمملكة المتحدة الحفاظ على نفوذها في المناطق مثل: (البلقان، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا) طالما ستحتاج هذه البلدان -من أجل الوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، واحتمال عضوية الاتحاد الأوروبي-  إلى رافعة سياسية قوية، وطالما من المرجح أن تستفيد الدول الأعضاء الأخرى من الاتحاد الأوروبي من انسحاب المملكة المتحدة؛ من أجل زيادة نفوذها، ومن المرجح أن يشهد نفوذها انحساراً مماثلاً في المناطق المجاورة الأخرى مثل: شمال أفريقيا، وتركيا اللتين تعتمدان اعتماداً كبيراً على الاتحاد الأوروبي؛ من أجل الوصول التجاري و/أو المساعدة.

في الواقع أن هذا الانحسار قد بدأ بالفعل من تهميش المملكة المتحدة للنشاط الدبلوماسي بسبب الأزمات المتتالية لليورو والمهاجرين، وإلى التفاوض والحفاظ على الاتفاق الأوروبي مع تركيا بشأن الهجرة، وإلى القيادة الألمانية-الفرنسية للدبلوماسية المتعلقة بأوكرانيا. وعلى الرغم من أن كثيراً من الأمور ستعتمد على شكل الرابطة التي ستتخذها المملكة المتحدة في المستقبل مع الاتحاد الأوروبي، إلا أن انحساب المملكة من المرجح أن يزيد من وتيرة ذلك الانحسار.

المملكة المتحدة والدفاع الأوروبي:

إن نفوذ المملكة المتحدة على أجندة الأمن الأوروبي سيظل كبيراً؛ نظراً لموقعها بوصفها القوة الأوروبية الأكثر قوة واستعداداً والتزاماً في حلف الناتو، وأن إعلاناتها الأخيرة المنسقة بشأن عمليات جديدة لنشر طائرات التايفون لرومانيا، و150 من الجنود في شرق بولندا، والأهم من ذلك كتيبة المشاة المدرعة المكونة من 800 فرد إلى إستونيا، كل ذلك يفصح عن ذلك الالتزام([4]). إن الكتائب الأربع المنتشرة في أوروبا “تعزز الوجود” في أوروبا الشرقية؛ نتيجة لقمة وارشو لحلف الناتو، فثلاث منها سيتم قيادتها -في أعقاب انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي- من قبل دول خارج الاتحاد الأوروبي([5])، وعمليات الانتشار هذه ربما بدأت لتصبح ما يعادل القوات المتعددة الجنسية المنتشرة حديثاً على جبهة ألمانيا الغربية إبان الحرب الباردة، وإن كانت على نطاق أصغر بكثير، وهي تهدف إلى إظهار أن أي عدوان قد يهدد بإشعال فتيل صراع مع أقوى القوى العسكرية لحلف الناتو.

العالم على نطاق أوسع ومخاطر النهج الأحادي:

إن تأثير المملكة المتحدة خارج المحيط الأوروبي ينبغي أن يكون أسهل؛ للحفاظ عليه بدعم من الثقافة السياسية الأممية، وباستمرار المستويات عالية من الالتزام بالموارد ومقعدها الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وفي الوقت الذي لا تزال تركز فيه السياسات الخارجية للدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي -مع استثناء فرنسا جزئياً- إلى حد كبير على المنطقة، فإن المملكة المتحدة تتبنى نظرة عالمية قوية وتحتفظ بشبكة دبلوماسية واسعة تدعمها موارد الدفاع والمعونة، في أجزاء كبيرة من جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا والخليج وجنوب آسيا ومنطقة آسيا -المحيط الهادئ (الباسفيك)-؛ ونتيجة لذلك فإن دور المملكة المتحدة بوصفها شريكاً ذا قيمة للولايات المتحدة من المرجح أن لا يتضرر نسبياً في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي مقارنة بدورها بوصفها طريقاً تسعى من خلاله الولايات المتحدة للتأثير في أوروبا والعكس بالعكس.

في الوقت الذي من المرجح أن تستمر فيه شهية المملكة المتحدة للقيام بدور نشط في عالم ما بعد الاتحاد الأوروبي، لكنها أيضاً ستكون تحت وطأة ضغط لتركيز هذه الطاقة على البلدان والمناطق والمحاور التي لديها فيها مصالح قوية أو حيث لديها ميزة نسبية واضحة قادرة على الاستجابة لمشكلة معينة.

إن النهج الأكثر استقلالية في السياسة الخارجية يمكن أن يقود إلى فرص جديدة فيما يخصُّ للمملكة المتحدة؛ من أجل ان تأخذ زمام المبادرة في الاستجابات الدولية على وفق المبادئ الأساسية -حقوق الإنسان على سبيل المثال-، أو الانتقال إلى الفراغات التي خلفها الشلل السياسي في القوى الكبرى الأخرى، فقد كان للتدخل في الحرب الأهلية في العام 2000 في سيراليون مثالٌ واضحٌ على كيفية محافظة المملكة المتحدة على قدراتها لقيادة النشاطات الدولية، في الوقت الذي يفتقر فيه آخرون -كالولايات المتحدة، وفرنسا- الرغبة من أجل القيام بذلك، وإذا ما قدمت الفرصة نفسها فيمكن لمزيدٍ من هذه النشاطات أن تساعد على استعادة المصداقية الدولية للسياسة الخارجية للمملكة المتحدة في أعقاب الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك فإن الفرص لمثل هذا النشاط من المرجح أن تكون مقتصرةً على عدد قليل نسبياً من الحالات، من قبيل المستعمرات السابقة التي لا توجد فيها قوة كبرى أخرى تكون منافساً قوياً لها في المقالم الأول، وحيث تجد المملكة المتحدة نفسها تمتلك مصلحة اقتصادية أو أمنية محدودة نسبياً (كتعارضها مع الجانب الأخلاقي أو التأريخي).

بإزاء ذلك فإن محاولات اتباع موقف أكثر استقلالاً وحزماً في العلاقة مع الدول الأورآسية الكبرى مثل روسيا والصين وإيران سيتعيّن عليها متابعتها بعناية، وبالتشاور الوثيق مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين، ومن المرجح أن تبحث القوى المعادية عن فرص لفصل المملكة المتحدة عن شركائها الأوربيين من قبيل استهدافها بتطبيق عقوبات دبلوماسية واقتصادية على سبيل المثال.

إن مخاطر الأحادية ستكون كبيرة بالنسبة للعمل العسكري بنحوٍ خاص، إذ إن معظم الشركاء والخصوم المحتملين في جنوب آسيا وشرقها يعملون على زيادة موازناتهم الدفاعية ويستثمرون بكثافة في القدرات التي تهدف إلى ردع بعضهم بعضاً من التدخل العسكري([6]).

إن الزخم الحالي الكامن وراء زيادة العلاقات العسكرية الثنائية للمملكة المتحدة مع دول الخليج واليابان يمكن أن ينمو في أعقاب خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، لكن يجب أن تكون مقيدة بعناية من أجل الحد من المخاطر في أن المملكة المتحدة يمكن أن تكون منخرطة في صراعات في المستقبل من دون دعم الولايات المتحدة، وقد تكون هناك درجة من الحذر أيضاً تمارس في الحفاظ على حرية المملكة المتحدة للعمل فيما يتعلق بالحملات العسكرية الأمريكية المستقبلية.

إن احتمال العزلة الدبلوماسية في أوروبا قد يدفع الحكومة المستقبلية لوضع مزيد من التركيز على ضرورة الوقوف “جنبا إلى جنب” مع الولايات المتحدة في أي نزاع عسكري في المستقبل، ومع ذلك فإن التجارب المتعاقبة خلال العقود الماضية -كما بدا واضحاً في قرار غزو العراق لعام 2003- قد عززت الحاجة للحذر، وإن رئاسة ترامب ستزيد الرغبة في الحفاظ على الاستقلالية في الاستراتيجية.

نفوذ أم مصالح:

على مدى العقدين الماضيين توجه جانب كبير من جهد السياسية الخارجية للمملكة المتحدة صوب الأزمات الأمنية خارج الجوار الأوروبي ولاسيما في جنوب آسيا -كالباكستان، وأفغانستان-، وبلاد الشام والخليج -ولاسيما الشركاء من مجلس التعاون الخليجي، والعراق، ولبنان، والأردن-، وشرق أفريقيا -ولاسيما كينيا، والصومال، وجنوب، السودان)، فضلاً عن جنوب شرق آسيا -العمل بنحوٍ وثيق مع أستراليا، وسنغافورة، وماليزيا وبنحوٍ متزايد اليابان-.

إن الأهمية النسبية لتلك الالتزامات على نطاق أوسع يمكن أن تتزايد في حقبة ما بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبيأ حيث تسعى الحكومة لتطوير التزاماتها للسياسة الخارجية لـ”بريطانيا العالمية” بوصفها جزءاً من إعادة توجيه أوسع بعيداً عن أوروبا.

مع ذلك هذا ربما لا يكون الوقت المناسب للقيام بمثل هذا التحول، فخلال أوج نشاطاها الدولي في العقد الذي تلا العام 1997، كانت المملكة المتحدة تطمح إلى أن تكون “قوة من أجل الخير”، وأدت دوراً رئيساً في دعم الولايات المتحدة في حربي العراق وأفغانستان، وفي الوقت نفسه سعت إلى تحشيد المجتمع الدولي لدعم أهدافها الطموحة الحد من الفقر العالمي. تلك الأجندة كانت ممكنة؛ بسبب الموارد الإضافية التي وفرها النمو الاقتصادي السريع، وبفعل البيئة الأمنية المواتية نسبياً في أوروبا.

اليوم وعلى العكس من ذلك فإن المملكة المتحدة تكافح من أجل التعافي من الآثار المالية جراء الأزمة الاقتصادية لعام 2008، والإصرار المتزايد من روسيا، إلى جانب الآثار الجانبية المتعددة الناجمة عن انهيار الدول العربية الرئيسة يعنيان أن التهديدات الأمنية للملكة المتحدة من دول الجوار المباشر هي الآن اكثر أهمية من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة، وفي الوقت نفسه فإن انتخاب ترامب يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الضغط على الدول الأوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة من أجل الحصول على حصة اكبر من المسؤولية توفير أمنهم، وإذا ما استمرت هذه الاتجاهات فإن مصلحة المملكة المتحدة في الأمن الأوروبي يمكن أن تنمو حتى لو كان من المرجح أن تنحسر قدرتها على التأثير في شكل الحلول الجماعية، وسيتعين على المملكة المتحدة أن تحقق الموازنة بين رغبتها في استخدام خروجها من الاتحاد الأوروبي بوصفه فرصة لتعميق نفوذها كونها قوة عالمية، وبين استمرار مصلحتها في الأمن والاستقرار في أوروبا.

مستقبل مجهول:

بحلول عام2019  على أبعد تقدير، هناك احتمال كبير أن المملكة المتحدة لن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي، وأن ثمن مزيدٍ من السيطرة الوطنية على أدوات السياسة الخارجية -على سبيل المثال فيما يتعلق بالدبلوماسية الاقتصادية- سيكون بشكل انحسار كبير في التأثير على السياسات الخارجية الأوروبية المشتركة.

إن مغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي سيعمق النمط الأخير صوب سياسة أمنية تركز على المصلحة الوطنية، والأثر التراكمي سيكون سياسة خارجية وأمنية تختلف جذرياً في التركيز مما كان عليه الأمر في أوج النزعة الدولية لبلير/براون في العقد الذي تلا العام 1997.

إن انتخاب ترامب –على أساس البرنامج الانتخابي “أمريكا أولاً”- يمكن أن يشجع هذه النمط؛ ليلقي مزيداً من الشكوك بشأن ما إذا كان النظام المؤسسي الغربي في حقبة ما بعد عام 1945 سيبقى قائماً، واذا ما سعى -أي ترامب- إلى تنفيذ البرنامج القومي الذي انتخب على أساسه فإنه ربما يساعد في جعل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أقرب إلى سياسة الدفاعية، وإن كان ذلك على أساس ثنائي. بل قد يصل الأمر إلى رغبة البريطانيين لمناقشة قضايا الدفاع مع الاتحاد الأوروبي إلى حد أكبر بكثير مما كان عليه استعدادها حينما كانت عضواً فيه.

ويتوقف الكثير من هذا على استجابة روسيا للصدمات المزدوجة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وإذا ما كانت هناك جهود مضاعفة من اجل إعادة تأسيس مجال النفوذ على حدودها الغربية، فهي ربما تكون كجزء من صفقة أوسع مع الرئيس ترامب فوق رؤوس الحلفاء فإن الضغط على الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لتعميق تعاونهما الدفاعي سيكون كبيراً، واحتمال أن يبدد أي نية للاتحاد الأوروبي لمعاقبة المملكة المتحدة اقتصادياً لخروجها منه.


رابط الدراسة:

https://rusi.org/sites/default/files/201701_bp_uk_ foreign_and_security_policy_ after_brexit.pdf 


* هي المادة التي تحدد سبل انسحاب إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشكل طوعي ومن طرف واحد على وفق المتطلبات الدستورية الخاصة بها. (المترجم).

[1] تيريزا ماي، خطاب رئيسة الوزراء إلى اللورد مايور بانكوت، جولدهول، لندن، 14 تشرين الثاني 2016.

[2] غاري جيبون، ميركل إلى ماي حول مفاوضات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي: نين دانك، قناة 4 الإخبارية، 29 تشرين الثاني في عام 2016 أفاد جيبون بأن المسؤولين في الحكومة البريطانية في سياق التداول بشأن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي قد أشاروا إلى قدرات بريطانيا ومهاراتها في قضايا الدفاع والاستخبارات بوصفها “فائض أمن”، وجادل أيضاً معهد الحكومة بالقول: “إذا ما تبنّت الولايات المتحدة موقفاً اكثر عزلة حينها سيكون التعاون الأمني الجاري مع المملكة المتحدة أكثر قيمة؛ هذا يمكن أن يقوي موقف المملكة المتحدة التفاوضي في محادثات خروجها من الاتحاد الأوروبي، طالما يمكنها أن تستخدم الوعد بالتعاون الجاري حول التدابير الأمنية لاستخراج اتفاق من الاتحاد الأوروبي أكثر ملائمة. ينظر: روبين مونرو، ماذا سيعني للرئيس ترامب خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي؟، معهد الحكومة، 21 تشرين الثاني 2016.

[3] استناداً إلى المستويات المتوقعة الجارية من صافي المساهمة في عامي 2018 و2019. ينظر: ماثيو كيب، “موازنة الاتحاد الأوروبي ومساهمة المملكة المتحدة”، مكتبة مجلس العموم، ملخص ورقة 06455، 1 تشرين الثاني 2016، ص: 8.

[4] وزارة الدفاع، المملكة المتحدة تصعد من تدابيرها من أجل طمأنة الحلفاء الأوروبيين، 26 تشرين الأول 2016.

[5] الكتائب في لاتفيا وليتوانيا وبولندا ستكون بقيادة دول من غير الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (كندا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة)، مع قيادة دولة واحدة عضو في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا).

[6] بلغ إجمالي الإنفاق الدفاعي 344 مليار دولار في العام2014 ، وازداد بنسبة %16 من حيث القيمة الحقيقية بين عامي 2010 و2014. ينظر: المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، التوازن العسكري 11 شباط 2015، ص: 210.