د. سعد سلوم/ أستاذ العلاقات الدولية في كلية العلوم السياسية _ الجامعة المستنصرية.
في مداخلتي خلال المؤتمر الذي نظمته (المديرية العامة للثقافة السريانية) في إقليم كردستان عام 2024، استعرتُ من عالم دوستويفسكي روايته الخالدة “الأخوة كارامازوف” لأصف علاقة المسيحيين في العراق بالمكونات الكبرى: الشيعة، السنة، والأكراد.
قلت إن هذه القوى الثلاث تشبه إخوة آل كارامازوف في صراعهم الأبدي بين الشهوة والعقل والروح.
فـديمتري، الأخ المندفع الذي تحكمه الغريزة والعاطفة، يُذكّرنا ببعض القوى التي تتحرك بدافع القوة والغلبة، ترى في المسيحيين تفصيلاً صغيراً في مشهد النفوذ، يمكن استثماره متى شاءت أو تجاهله متى أرادت.
وإيفان، الأخ المثقف الشكاك، يرمز إلى من يرفع شعارات الفكر والعقلانية، لكنه حين يصل إلى مفترق الفعل، يتردد ويترك المبدأ يذوب أمام المصلحة.
أما أليوشا، الأخ الروحاني، فهو صورة تلك القوى التي تُظهر محبةً وتعاطفاً صادقين، لكنها تبقى عاجزة عن حماية من تحب، لأن الطيبة وحدها لا تصنع توازناً في عالمٍ تمزقه المصالح.
قلت إن المسيحيين وجدوا أنفسهم مثل الطفل الصغير في الرواية، يقف وسط هذا الصراع بين الإخوة الثلاثة، يتلقّى وعودهم وحنانهم حيناً، ويتحمل نتائج صراعاتهم حيناً آخر. وهكذا، تحوّل حضورهم في المشهد السياسي والاجتماعي إلى تمثيل رمزي أكثر منه فاعلاً حقيقياً، حضور يشبه صدى الأصوات في بيتٍ كبير، يُسمع لكنه لا يغير مسار الحكاية.
لقد أردتُ بهذه الاستعارة أن أقول إن مأساة المسيحيين في العراق ليست في قلّة عددهم، بل في كونهم دائماً مرآةً لغيرهم لا صورةً لأنفسهم، إذ تُستخدم مأساتهم لتجميل وجه هذا الطرف أو ذاك، فيما تضيع أصواتهم الحقيقية في ضجيج الإخوة الكبار.
من هنا دعوتُ، في ختام مداخلتي، إلى أن يتحرر المسيحيون من دور الابن الصغير في رواية الصراع العراقي، وأن يستعيدوا صوتهم لا بوصفهم ملحقاً بغيرهم، بل كجزءٍ أصيلٍ من نسيج هذه الأرض. فكما لم تكتمل مأساة الأخوة كارامازوف إلا حين غاب العدل والرحمة، كذلك لا تكتمل حكاية العراق دون أن يُنصت الكبار إلى ذلك الصوت الهادئ، المتجذر في التاريخ، الذي مثّله المسيحيون منذ قرون.
إن خلاص الجميع يبدأ حين ندرك أن تنوّعنا ليس لعنةً بل نعمة، وأن الإخوة الثلاثة – بكل ما فيهم من تناقضٍ وصراع- لا يجدون سلامهم إلا عندما يتصالحون مع الطفل الذي فيهم، ذاك الذي يرمز إلى البراءة والصدق والضمير.
بهذا المعنى، فوجود المسيحيين بين المكونات الكبرى ليس عبئاً، بل مرآةٌ لما يمكن أن يكون عليه العراق إذا تصالح مع ذاته: بلدٌ لا يبتلع أبناءه، بل يحتضنهم جميعاً في روايةٍ جديدة، عنوانها هذه المرة المحبة والعدالة بدل الغلبة والمصلحة.




