دلاور علاء الدين: باحث في معهد أبحاث الشرق الأوسط.

في العراق لا تعد السياسة شخصية، والعلاقات بين بغداد وأربيل استثناءً. إذ تحسنت هذه العلاقات وتدهورت إلى حدّ كبير بسبب العلاقات الشخصية، مثل العلاقة والثقة المتبادلة بين القادة. في أيار عام 2020، أدت الأحزاب السياسية الرئيسة في إقليم كوردستان دوراً حاسماً بنحو غير اعتيادي في اختيار مصطفى الكاظمي كرئيس للوزراء في العراق[1]. إذ أعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني دعمهما لتسميته قبل أن يرشحه الرئيس العراقي برهم صالح رسمياً. وعرف قادة حكومة إقليم كردستان الكاظمي شخصياً وتمتعوا بعلاقات عمل جيدة معه عندما كان رئيساً للمخابرات. والأهم من ذلك، اعتقد الحزبان أن إظهار الدعم المبكر كان استثماراً مفيداً يمكن أن يساعد في تمديد فترة العلاقة الخالية من التوتر بين أربيل وبغداد، على غرار ما عانوه مع سلف الكاظمي، عادل عبد المهدي.

بعد مدة من تدهور العلاقات التي أعقبت الاستفتاء الكردي على الاستقلال في أيلول عام 2017[2]، عادت العلاقات بين أربيل وبغداد إلى الاستقرار في الفترة التي سبقت انتخابات عام 2018، وتعززت بشكل أكبر بعد تعيين عادل عبد المهدي، وهو صديق شخصي مقرب من العديد من قادة حكومة إقليم كردستان. في عام 2019 وافقت بغداد على إرسال 12.67٪ من الموازنة الاتحادية لأربيل. في المقابل، وافقت حكومة إقليم كردستان على تقديم 250 ألف برميل من النفط المُصدّر إلى بغداد يومياً. ولأسباب مختلفة، لم تسلم حكومة إقليم كردستان النفط أو عائداته، ومارست الأحزاب السياسية الشيعية ضغوطاً كبيرة على رئيس الوزراء لقطع حصة حكومة إقليم كردستان من الموازنة. ومع ذلك، استمرت حكومة عبد المهدي في إرسال حصة الإقليم، واستمرت المفاوضات، وتوصل الطرفان في نهاية المطاف إلى اتفاق شامل لحل مشكلات الإيرادات من مبيعات النفط والجمارك. تم تعليق هذه المفاوضات، وكذلك تنفيذ الاتفاقات السابقة، عند استقالة حكومة عبد المهدي في نهاية تشرين الثاني عام 2019. ومع ذلك، استمرت حكومة إقليم كردستان في الحصول على حصتها من الموازنة ناقص الإيرادات المحسوبة من صادرات النفط لحكومة إقليم كردستان حتى أبريل عام 2020 (مجموع 454 مليار دينار عراقي، 278 مليون دولار). لكن في الأسابيع القليلة الأخيرة من رئاسته للوزراء، أمر عبد المهدي وزارة المالية[3] بوقف تسليم مدفوعات رواتب القطاع العام لحكومة إقليم كردستان.

عُكس هذا الأمر بسرعة في أيار عام 2020 حينما تولى الكاظمي منصبه، إذ تعهد وزير ماليته علي علاوي، بمواصلة إرسال حصة الإقليم من الموازنة طالما ظلت حكومة إقليم كردستان ملتزمة بالمساءلة الكاملة والشفافية بشأن صادرات النفط وعائدات المعابر الحدودية. ومع ذلك، لم تقم الحكومة بإرسال أي حصة للإقليم بعد الحصة الأولى حتى أواخر شهر آب، عندما وافق الكاظمي على الاستمرار في دفع حصة الإقليم الشهرية (حوالي 270 مليون دولار) لحكومة إقليم كردستان لبقية العام[4]، كاستيفاء جزئي لقانون الموازنة. وتعهد بمعالجة جميع القضايا العالقة مع أربيل، ومنها النزاعات على المناطق المتنازع عليها، بما في ذلك محافظة كركوك الغنية بالنفط، والخلاف بشأن الأحكام الأمنية والإدارية في تلك المناطق.

إن العلاقة بين بغداد وأربيل معقدة بنحو لا يصدق، وهي تتجاوز بكثير قدرة أي رئيس وزراء على حلها، ناهيك عن رئيس وزراء مؤقت تولى منصبه كمرشح وسط دون دعم مؤسسي من أي حزب سياسي أو كتلة برلماني. وبالنظر إلى أزمات العراق المتعددة، فإن أربيل هي أقل ما يقلق الكاظمي الذي يواجه العديد من التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، وهو بحاجة إلى تعاون قادة حكومة إقليم كردستان للنجاح. والأهم من ذلك، ينصب تركيز الكاظمي النهائي على بقاء حكومته -حتى وربما إلى ما بعد- الانتخابات القادمة.

وعلى الرغم من هذه التحديات، تعهد الكاظمي بالتوصل إلى اتفاق شامل مع حكومة إقليم كردستان، وبدأت عدة جولات من المفاوضات بين الجانبين. ويبدو أن كلا الطرفين قد قسموا القضايا المعقدة إلى مشكلات منفصلة بهدف معالجتها واحدة تلو الأخرى. ففيما يتعلق بتنظيم المعابر الحدودية، تتقدم المفاوضات بشكل جيد، إذ ووافقت أربيل على تقاسم 50٪ من إجمالي دخل المعابر الحدودية مع بغداد. ومع ذلك، يحتاج الجانبان إلى الاتفاق على الآليات المالية والفنية للتنفيذ أولاً. وأعلنت الحكومة الاتحادية في تموز أنها ستناقش الترتيبات الأمنية الجديدة مع قوات البيشمركة في المناطق المتنازع عليها، حيث يتم الحفاظ على الأمن منذ مدة طويلة من خلال قوات متعددة، بما في ذلك الجيش والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب والعديد من فصائل الحشد الشعبي. وكذلك العشائر المحلية. وما تزال التوترات قائمة في العديد من المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاعراقية وحكومة إقليم كردستان. ولحل ذلك، سيتم تشكيل أربعة مراكز أمنية مشتركة في هذه المناطق لملء الفراغ الذي استغله داعش[5].

وفي ظل وجود الإرادة السياسية، فإن حل القضايا بين بغداد وأربيل ليس مستحيلاً. ومع ذلك، فإن التوقعات في الظروف الحالي ليست واعدة، وقد لا يمكن التنبؤ بالمستقبل، إذ من المحتمل أن تتوتر علاقات الكاظمي مع قادة حكومة إقليم كردستان بمرور الوقت، ولاسيما مع تعرض كلا الجانبين لضغوط من أقرانهم للحصول على المزيد الامتيازات من الجانب الآخر. وفضلاً عن ذلك، قد يزيد الكاظمي من طموحاته لتجديد رئاسته للوزراء بعد الانتخابات المقبلة، الأمر الذي سيتطلب منه الدخول في تحالفات جديدة على حساب التحالفات القائمة. ولا يجوز للقادة السياسيين في إقليم كوردستان أن يتعاملوا بالنسق نفسه مع الكاظمي. إن الشيعة والسنة أكثر انقساماً ومن المرجح أن يقوضوا الحكومة في الفترة التي تسبق الانتخابات، وقد يؤثر التنافس المستمر بين الولايات المتحدة وإيران على الأحداث بطريقة لا يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير.

والأهم من ذلك، فقد قادة العراق مرونتهم المؤسسية وتصميمهم على معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات الرئيسة، فتاريخهم الحديث مليء بالفشل في جميع القضايا، بما في ذلك تنفيذ دستور 2005 لتقاسم السلطة بين المركز والإقليم[6]، وحل المناطق المتنازع عليها (المادة 140) وإدارة أمن البلاد واقتصاده وشؤونه المالية. كان للسياسيين العراقيين كل الدعم السياسي والمالي والأمني ​​الدولي لإضفاء الطابع المؤسسي على الحوار، وتعزيز سيادة القانون والحكم الرشيد، وتنويع الاقتصاد، وتوفير الخدمات العامة الأساسية للجميع. ومع ذلك فشلت النخب الحاكمة جماعياً في كل النواحي. وأهدر العراق فرصاً تأريخية للمضي في طريق التعافي، وخسر مئات المليارات من الدولارات بسبب الفساد، وعانى من انقسام المجتمع والصراع المسلح. في نهاية المطاف، فقدت الدولة سيادتها ووظائفها وكل أمل في التعافي. والآن، ومع انتشار جائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط -الذي كان له تأثير مدمر على اقتصاد البلاد- تعاني كل من بغداد وأربيل من ضائقة مالية، وكلاهما غير قادرة على تغطية تكاليف التشغيل، ناهيك عن الاستثمار في البنية التحتية وتطوير الخدمات العامة.

ومن المفارقات أن هذه التحديات والأزمات المشتركة، فضلاً عن الارتباطات الدولية الجديدة، تجلب معها فرصاً مفيدة لإصلاح العراق على المدى الطويل وتحسين العلاقات بين بغداد وأربيل على المدى القصير. إن اعتماد أربيل على الموازنة الاتحادية، وعودة ظهور داعش كعدو مشترك، والعمليات التركية على الحدود، والحوار بين الولايات المتحدة والعراق من أجل اتفاقية استراتيجية جديدة، وإعادة علاقة العراق مع العديد من الدول العربية توفر حوافز كافية للمشاركة البناءة بين بغداد وأربيل والسعي لتحقيق نتيجة إيجابية. في هذا السياق، يمكن للشركاء الدوليين أن يؤدوا دوراً مهماً في تشجيع كلا الجانبين على تبني تدابير قوية لبناء الثقة، وهذا ما فعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارة الكاظمي لواشنطن أواخر شهر آب، وكذلك فعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته لبغداد في الثاني من هذا الشهر؛ لذلك، ليس لدى القادة في بغداد وأربيل أي سبب للتردد في اغتنام هذه الفرص في الوقت المناسب لوضع الماضي خلفهم وبناء مستقبل أفضل.


المصدر:

https://www.ispionline.it/en/pubblicazione/status-erbil-baghdad-relations-27274


[1]https://www.kurdistan24.net/en/news/8e0d3f15-b849-46e6-9860-fe830c8b8cc0

[2]https://www.washingtonpost.com/world/how-the-kurdish-independence-referendum-backfired-/2017/10/20/3010c820-b371-11e7-9b93-b97043e57a22_story.html

[3]https://www.ina.iq/105731/

[4]https://www.thenational.ae/world/mena/iraq-agrees-to-pay-kurdistan-region-share-of-federal-budget-1.1064260

[5]https://www.nytimes.com/2020/06/10/world/middleeast/iraq-isis-strategic-dialogue-troops.html

[6]http://www.meri-k.org/publication/decentralisation-in-iraq-process-progress-and-a-new-tailor-made-model/

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن اتجاهات يتبناها المركز، وانما تُعبر عن رأي كتابُها.