علي المولوي: باحث مختص بالإصلاح الاقتصادي في العراق.

يواجه العراق أكبر تحد لاقتصاده منذ عام 2003 هي أكثر صعوبة من الحقبة التي زامنت الحرب مع داعش حينما انخفضت أسعار النفط وعند حاجة الحكومة لتمويل الحرب، فلم يبد أن الأزمة الاقتصادية مستعصية على الحل كما هي اليوم؛ فلم يُظهر وباء كورونا في العراق أي علامات على تراجع حدته، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد العراقي سينكمش بنسبة 4.7% في عام 2020. ويتمثل التحدي الأكثر إلحاحاً للحكومة في إيجاد أموال كافية لتغطية تكاليف التشغيل الأساسية للبلاد بما في ذلك المدارس، والمستشفيات، والرواتب، والرعاية الاجتماعية.

وفي هذا المنعطف الحرج، سيكون الميل الطبيعي هو التساؤل: ما الذي يتعيّن على العراق فعله لتجاوز هذه الأزمة؟ لكن في الحقيقة، هناك سؤال أصعب بحاجة للإجابة وهو: كيف سيقوم العراق بما هو مطلوب لتجاوز هذه الأزمة؟ يحتاج صانعو السياسة العراقيون إلى القليل من المساعدة في تشخيص العيوب التي يقوم عليها اقتصاد البلاد، وأنهم لا يحتاجون إلى الكثير من المساعدة في تحديد تدابير الإصلاح التي من شأنها توجيه البلاد نحو مسار أكثر استدامة، إذ لا يعاني العراق من نقص في الخطط الاستراتيجية، وخرائط الطريق، وأوراق السياسات التي تحدد بالتفصيل جميع القطاعات الرئيسة التي يجب معالجتها؛ ويرجع ذلك جزئياً إلى الوجود القوي للمجتمع الدولي في بغداد؛ ولأن البنية التحتية لصنع السياسات في العراق تتأثر بشدة بالأذرع الاستشارية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فضلاً عن المساعدة الفنية من الأمم المتحدة والبعثات الدبلوماسية، ومناقشة كل مجال من مجالات الإصلاح الاقتصادي، وتقييمه على مدى السنوات الماضية، من إصلاح القطاع المصرفي، وإعادة هيكلة القطاع العام، وتطوير القطاع الخاص.

لكن حتى أفضل الخطط الاستراتيجية لا يمكن أن تترجم إلى نتائج ملموسة على الأرض دون الاعتماد على نهج منظم وواضح من قبل الحكومة. وبافتراض وجود الإرادة السياسية على أعلى مستويات السلطة التنفيذية، من المهم النظر في الأنظمة، والهياكل الأساسية التي تحدد إلى حد كبير ما يمكن وما لا يمكن القيام به.

ورثت حكومة مصطفى الكاظمي الأزمة المالية من الإدارة السابقة، ودعا المستشارون الاقتصاديون في كلتا الإدارتين إلى التفكير في كيفية التعامل مع الإنفاق العام المتضخم، ومعالجة أزمة المدفوعات. وبالنظر إلى أن رواتب القطاع العام تمثل ما يقرب من نصف إجمالي الإنفاق الحكومي، فإذا أرادت الحكومة تقليل حجم الإنفاق؛ فإنها بحاجة إلى إجراء تخفيضات في الرواتب العامة.

لكن مثل أي بلد في العالم، فإن الحديث عن خفض الرواتب أسهل من فعله؛ بسبب ردود الفعل السياسية تجاه هذا الأمر. وقد أصبح هذا النهج أكثر صعوبة؛ لأن حكومة الكاظمي تفتقر إلى القاعدة السياسية في مجلس النواب التي تمكنها أن تدعم خياراتها السياسية. كانت الخطة الأولية تستهدف رواتب الحكومة التي تتكون عادة من راتب أساس يُعرف باسم “الراتب الاسمي” و”المخصّصات” التي تحددها عوامل مثل: التحصيل العلمي، وعدد المعالين، والخطورة للوزارات الحساسة. وبحسب بعض التقديرات فقد تبلغ مدفوعات الرواتب الأسمية نحو 12 مليار دولار سنوياً، بينما تمثل المخصصات 23 مليار دولار من موازنة الحكومة. وبتقليل المخصصات، كان يُعتقد أنه يمكن توفير مخزون مالي كبير من شأنه تخفيف الضغط على خزينة الدولة.

لكن لم تكن هناك رغبة في مجلس النواب لدعم مثل هذه الخطوة وسرعان ما استسلمت حكومة الكاظمي للضغوط لإلغاء الخطة. وكانت خطة الحكومة (ب) هي تطبيق ضريبة الدخل على المخصصات والرواتب التقاعدية، وهو أمر لم يطبق منذ أكثر من عقد. وعلى الرغم من تقلصها بنحو كبير مقارنة بالخطة الأصلية، فقد كان من المقدر أن تولد الإيرادات الإضافية 300 مليون دولار على الأقل شهرياً لكن هذه الخطة فشلت أيضاً. وتُدفع الرواتب التقاعدية عادةً في بداية كل شهر، بينما تُدفع رواتب الموظفين في نهاية الشهر.

طبقت حكومة الكاظمي الضريبة على رواتب شهر أيار، لكن رد الفعل العام كان كبيراً لدرجة دفعت الكاظمي إلى التراجع، حتى أنه أصر على أن التخفيضات في الرواتب التقاعدية لم تكن بسبب سياسة جديدة بل لو جود عجز مؤقت في السيولة؛ وتم تعويض المتقاعدين بعد أيام.

منذ ذلك الحين، يبدو أن الحكومة تخلّت عن أي محاولة لكبح جماح الإنفاق على رواتب موظفي القطاع العام، واتبعت وسائل أخرى لتوفير الإيرادات البديلة -ولاسيما الخاصّة- بالاستيراد والتعريفات الجمركية. وتشير التقديرات إلى أن عائدات الجمارك وحدها تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار سنوياً، لكن جزءاً صغيراً منها فقط يجد طريقه إلى خزينة الدولة؛ بسبب الفساد الهائل في المعابر الحدودية، وقد أطلق الكاظمي حملة للسيطرة على هذه المعابر؛ لكن تأثير هذه الحملة لم يكن حاسماً حتى الآن.

وقد ترك هذا الأمر الحكومة مع الخيار الاحتياطي الآخر وهو الاقتراض؛ بعد الحصول على الضوء الأخضر من مجلس النواب، إذ تخطط الحكومة لاقتراض ما يصل إلى 13 مليار دولار محلياً، ومعظمها من البنوك المملوكة للدولة، وما يصل إلى 5 مليارات دولار من مصادر دولية؛ ويشير هذا النهج إلى فشل الحكومة، على الأقل في الوقت الحالي، في اتخاذ أي تدابير مهمة لتخفيف العبء المالي.

لا مفرّ من مقاومة مجلس النواب والجمهور، لكن هذا لا يعني أن على الحكومة الاستسلام للهزيمة. ويتطلب أي نهج لدفع الإصلاحات عنصرين رئيسين، هما: التركيز، والمثابرة. وهذا الذي فشلت فيه حكومة الكاظمي مثل سابقاتها؛ فبدلاً من الحفاظ على تركيز الجمهور على الحالة المزرية للاقتصاد، وتعزيز الرسائل التي توضح سبب أهمية التخفيضات، سعى الكاظمي إلى متابعة مجموعة واسعة وطموحة من القضايا، والانتقال من قضية إلى أخرى؛ مما تترك الحكومة مع القليل من القوة السياسية للتعامل مع الأزمة الاقتصادية.

بعد توليه منصبه، تعهّد الكاظمي بإعداد الورقة البيضاء لتحديد خطة الحكومة الشاملة لمعالجة مشكلات العراق الاقتصادية. ويمثل الإطلاق المتوقع لهذه الورقة في أيلول فرصة ثانية للحكومة لدفع الإصلاحات؛ ولتحقيق النجاح، ستحتاج الحكومة إلى الاستمرار في التركيز والمثابرة في جهودها لترجمة الورقة البيضاء إلى أهداف قابلة للتنفيذ.

المصدر:

https://www.ispionline.it/en/pubblicazione/economic-reform-iraq-need-focus-and-persistence-27273