ديليب هيرو، مؤلف القاموس الشامل في الشرق الأوسط، جامعة ييل، الولايات المتحدة.

تركيا صديقة الولايات المتحدة السابقة والحليفة الجديدة لإيران وروسيا

تُعرَّف تركيا -بصفتها دولة تعتمد ديمقراطيةً ذات توجّهٍ برغماتيّ، وبدورها الدولة الإسلامية الوحيدة المنضمّة إلى حلف الناتو- من قبل الولايات المتحدة على أنّها الأنموذج الأمثل لسائر الدول العربية ذات “الأنظمة الاستبدادية” في منطقة الشرق الأوسط، وحين كان الربيع العربي يحدث في المنطقة كان الرئيس التركي أردوغان يجد الأمر فرصة لتعميم فكرة الثورة بين المعترضين في الأوساط العربية، ولكن الربيع العربي تحوّل في وقتٍ مبكّر إلى شتاء، وتغيّرت علاقة أردوغان مع حلف الناتو بنحوٍ لافت.

وفي الوقت الذي تحافظ فيه تركيا على عضويتها في حلف الناتو فإنّها تحوّلت إلى قوّةٍ فاعلة في الجبهة التي تقودها روسيا في الحرب السوريّة، إذ قررت أنقرة شراء صواريخ (S-400) الروسيّة، وهذا بمنزلة إنذار لأعضاء الناتو. وفضلاً عن ذلك يجب الالتفات إلى مشروع أنبوب “تورك ستريم” لنقل الغاز الروسي إلى تركيا، ومن تركيا إلى جنوب أوروبّا؛ وعلى هذا فإنّ مفتاح فهم هذه الظاهرة يكون في دراسة الجغرافيا السياسية والاقتصادية لجمهورية تركيا بصورةٍ منفصلةٍ مرّةً، وبصورةٍ مشتركة مرّةً أخرى.

كلّ شيء يعود إلى الطاقة

يُعدُّ الانقلاب العسكري التركي في تموز 2016 -الذي باء بالفشل- عاملاً مهماً في تبلور طبيعة السياسة الخارجية التركية، فقد كان الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” رئيس أوّل دولة يهنّئ أردوغان على نجاحه في التصدّي للانقلاب العسكري، وقد سبق بوتين بذلك وزير الخارجية الإيراني “جواد ظريف” الذي نشر تغريدة في موقع تويتر قال فيها: “الاستقرار والديمقراطية في تركيا فائقة الأهميّة”، وقد أعقب ذلك مكالمة هاتفية أجراها حسن روحاني مع نظيره التركي أردوغان، وقال له: “إن محاولة الانقلاب بمنزلة اختبار للتمييز بين أصدقائكم وأعدائكم الداخليين والخارجيين”.

إن تركيا بنفوسها التي تبلغ نحو 80 مليون نسمة، وبظروفها المعيشية المستقرّة تحتاج إلى مصادر أساسية وفورية من الغاز الطبيعي، ولاسيما أنّها لا تمتلك أيّة مصادر من المواد الهيدروكربونية سوى الفحم الحجري، وإن المصادر الرئيسة لتلبية الحاجة التركية للغاز الطبيعي تقع في روسيا وإيران، إذ إن روسيا تؤمّن 60% من الغاز الذي تحتاجه تركيا، وتؤمّن إيران 30%، فيما تؤمّن النسبة المتبقية جارتها الأخرى المتمثلة بدولة أذربيجان.

ولا توجد علاقة مباشرة بين معايير الحياة العصرية واستهلاك الطاقة؛ فضلاً عن الغاز الطبيعي في تركيا الذي يُستعمل غالباً في مجال الطهي؛ وبالتالي تعكس نسبة استهلاك الغاز السنوي، طبيعة معايير الحياة في هذه الدولة.

وتؤمّن الشركة الروسية الحكومية للغاز -أي: غاز بروم- حاجة عدّة دول أوروبية لمادة الغاز وذلك عن طريق خط أنابيب أوكرانيا في الشرق الأوروبي، ولتخفيض نسبة الاحتياج لأوكرانيا عند تصدير الغاز، أعلنت روسيا عن خطّة جديدة -أي: مدّ الغاز إلى الجنوب-؛ لتنقل الغاز إلى مناطق أخرى من أوروبّا. وقد استمرّ هذا المشروع حتّى سيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم، إذ فرضت دول الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على روسيا؛ وكلّ هذه الأمور فتحت أبواب التعاون الاقتصادي بين روسيا وتركيا، ففي كانون الأول الماضي ألغى “بوتين” مشروع نقل الغاز إلى الجنوب، واستبدله بمشروع “ترك ستريم” بقيمة (13,74) مليار دولار، ويتوقّع من هذا المشروع أن ينقل الغاز الروسي إلى جنوب أوروبّا عن طريق تركيا وبلغاريا في نهاية عام 2020. ويتضمّن هذا المشروع زرع الأنابيب في البحر الأسود غربيّ تركيا على مدى 900 كيلومتر، ولأهميته لم تؤثّر عليه الأزمات الطارئة؛ فحتّى التوتّر الحاصل بين موسكو وأنقرة جرّاء إسقاط المقاتلة الروسية في الحدود السورية في شهر تشرين الثاني 2015 لم يؤثّر على سير هذا المشروع الكبير على الرغم من فرض بعض العقوبات الاقتصادية من قبل روسيا ضد أنقرة. وعلى أعقاب إرسال بوتين رسالة حول الانقلاب العسكري التركي توجّه أردوغان فوراً إلى سانت بطرسبرغ وقدّم شكره لنظيره الروسي، وألغى بوتين العقوبات الاقتصادية ردّاً على ذلك.

على الصعيد السوري

سبق أن كان أردوغان يعمل على تنحية “بشار الأسد”، ولكنّه عدّل من موقفه في الآونة الأخيرة داعماً النظام السوري، وبدلاً عن الاتفاق مع الولايات المتحدة على إيجاد منطقةٍ خاصّة بالأكراد اختار التعاون مع بوتين لإنهاء الحرب الداخلية السورية، وفي اجتماع سوتشي الذي استضافت فيه روسيا “أردوغان” و”روحاني” قال “بوتين”: “إن القوّات القتالية في سوريا وجهت ضربة قاضية للعدو، وباتت الفرصة متاحة لإنهاء حربٍ داخلية امتدّت لعدة سنوات”، فيما أعلنت تركيا في 12 تشرين الثاني توقيعها اتفاقاً مع روسيا لشراء صورايخ (S-400)، وتجاهلت عدم تأييد سائر أعضاء حلف الناتو، ولاسيما عدم تأييد الولايات المتحدة، وفي أواسط شهر كانون الأول اقترح بوتين مع أردوغان بأن تكون “أستانة” عاصمة كازاخستان هي محلّ إجراء مفاوضات السّلام في سوريا، وفي 20 كانون الأول انضمّ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى محادثات أستانة؛ ومع تغيير السياسات السابقة وتحوّلها بصورة عكسية أصبحت تركيا وإيران في جبهةٍ واحدة إزاء الأزمة السورية.

الجدير بالذكر أن تركيا كانت في مقدّمة الدول التي اعترفت بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران إبّان الثورة الإيرانية، وإن شعارهم المشترك (لا شرقيّة، لا غربيّة) أدّى إلى مزيد من التقارب بين البلدَين الجارَين في بدايات الثمانينيات، ومع ضعف الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات سعت خمس من الجمهوريات السوفيتية ذات الأغلبية المسلمة -كازاخستان، وأوبكستان، وتركمانستان، وقرقيزستان، وطاجاكستان- إلى أن تحصل على هويّة وطنية جديدة، وقد أوصت واشنطن بأن تحذو هذه الدول حذو تركيا في اعتماد الديمقراطية العلمانية وأن تتجنّب الأنموذج الإسلامي في إيران.

وقد استمرّت هذه التوصية حتّى سنة 1996، ولكن بعد مرور شهرَين من وصول “نجم الدين أربكان” (زعيم حزب الرفاه ذو الميول الإسلامية) لمنصب رئاسة الوزراء في تركيا نَقَضَ العقوبات الأمريكية ضد إيران وليبيا ووقع على اتفاق لشراء الغاز من إيران بقيمة 23 مليار دولار، وزار طهران، وقد بدأت تركيا باستيراد الغاز الإيراني بدءاً من سنة 1999 وسيستمرّ ذلك على مدى عشرين عاماً، وقد تزايد حجم الاستيراد طوال هذه المدة، وعلى الرغم من أن الجيش التركي فرض على أربكان تقديم استقالته في سنة 1997 ولكن لم يخلّ ذلك باتفاق مع إيران.

ومع فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا في تشرين الثاني 2002 الذي يُعد البديل المعتدل لحزب الرفاه توطدت العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين الجارَين، إذ استثمرت أنقرة خلال سنة 2009 أكثر من 4 مليار دولار في القسم السادس والسابع من حقل فارس الجنوبي لاستخراج الغاز الذي يبلغ حجم احتياطياته 14 تريليون متر مكعب، وما يعادل 8% من مجموع احتياطيات العالم. ومع ذلك شهدت العلاقات الثنائية بين طهران وأنقرة بعض التراجع، حين استقدمت تركيا قواعد الدرع الصاروخي لقوّات الناتو في شهر أيلول من عام 2011، فقد زعم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في حينها بأنّ هذا الدرع الصاروخي هو مخطط أمريكي لحماية إسرائيل، وللهجوم على مفاعل إيران النووي. وقد أوضح وزير الدفاع التركي “إيزمت ايلماز” بأنّ هدف هذا النظام الصاروخي هو حماية الأمن التركي والأوروبي. وفضلاً عن ذلك فقد اختلف البلدان في الحرب الداخلية السورية في عام 2012، وحين شرع السعوديون بتدخلهم العسكري باليمن في آذار 2015 قال أردوغان في حواره مع قناة فرانس 24: “نحن ندعم التدخل السعودي في اليمن”، وأضاف: “على إيران التوقف عن دعمها للجماعات الإرهابية”.

مع ذلك وقعت تركيا وإيران قبيل سفر أردوغان القادم إلى طهران -في بداية شهر أبريل- ثماني مذكرات تفاهم للتعاون الاقتصادي، وقد أعلن الطرفان أن هدفهما من ذلك هو تعزيز التبادل التجاري الثنائي البالغ 30 مليار دولار، وقد بلغ في الوقت الحاضر 14 مليار دولار، ويأملان استمرار هذا التعاون مع رفع العقوبات، ولكن على الرغم من ذلك فإن حجم التبادل التجاري بين البلدَين في عام 2016 قد انخفض ووصل إلى 9,67 مليار دولار.

وعند اللقاء المشترك الذي جمع أردوغان وروحاني عبّر الرئيس التركي في المؤتمر الصحفي المشترك عبّر عن روحاني بـ “الأخ”، وأكّد ضرورة التعاون بين إيران وتركيا لفرض السّلام في اليمن. ومع توطيد العلاقات بين إيران وتركيا تكاتف البلدان في يونيو 2017 عند حدوث أزمة العلاقات القطرية مع دول الخليج التي تهدف إلى عزل الدوحة اقتصادياً ودبلوماسياً، وتعاونا على دعم قطر والوقوف معها.

إنّ الفقرات المذكورة آنفاً تؤكّد أهمية المصالح الاقتصادية، إذ لإيران حقل غازي عظيم جدّاً تشاركه فيه دولة قطر، وإن تركيا هي شريكة مهمّة في بناء ملاعب كرة القدم استعداداً لمونديال عام 2022 الذي ستستضيفه قطر.


المصدر: موقع “الدبلوماسية الإيرانية” نقلاً عن موقع “ييل غلوبال”.

http://www.irdiplomacy.ir/fa/page/1974852

https://scroll.in/article/867030/how-the-need-for-gas-and-oil-prompted-us-friendly-turkey-to-align-with-russia-and-iran