في تموز من عام ٢٠١٥ وبعد ٢٠ شهراً من المفاوضات؛ تُوصِّل إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة ٥+١ (الولايات المتحدة، وروسيا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، والصين مع الاتحاد الأوروبي) لرفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران مقابل تفكيك طهران لبرنامجها النووي، ودخل الاتفاق حيّز التنفيذ في كانون الثاني ٢٠١٦ تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة قد فرضت عقوبات أضرت بالاقتصاد الإيراني، وكبدتها خسائر كبيرة منذ عام ٢٠١٢ لإجبارها على تعليق عمليات تخصيب اليورانيوم. ومع رفع تلك العقوبات تمكّن الإيرانيون من استخدام النظام المالي العالمي في حركة التجارة، والوصول إلى أكثر من ١٠٠ مليار دولار من أموالهم المجمدة بالخارج، وقدرتهم على استئناف بيع النفط في الأسواق الدولية. وكانت مصادر استخبارية دولية تتوقع اقتراب إيران قبل تنفيذ الاتفاق من إنتاج قنبلة ذرية في مدة لا تتعدى ثلاثة أشهر، لكن تنفيذ الاتفاق حرم طهران من تلك الفرصة المحتملة. وبالمقابل، يقوم الرئيس الأمريكي بتوقيع وثيقة تجمد العقوبات كل ١٢٠ يوماً. وقد دأب ترامب على انتقاد الاتفاق الذي تُوصِّل إليه في عهد باراك أوباما، وحرص منذ دخوله إلى البيت الأبيض مطلع العام ٢٠١٧ على التهديد المستمر بإلغاء الاتفاق، ومدّد قرار تعليق العقوبات المفروضة على إيران، وأعلن استمرار العمل بالاتفاق النووي “للمرة الأخيرة”، وطالب بإجراء اتفاق جديد مع الأوروبيين لمعالجة ما عدّها ثغرات في اتفاق عام ٢٠١٥، وإلا فإن بلاده ستنسحب من جانب واحد دون التفاوض مع إيران، واضعاً الأوروبيين أمام خيارين: إما القبول بشروطه، وإما الإبقاء على الاتفاق ومواجهة الولايات المتحدة.

من جانبها، قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن إيران تلتزم بتنفيذ التزاماتها النووية ضمن الاتفاق خلال عامه الثالث؛ وإن امتثال طهران لتنفيذ بنود الصفقة، تعطيها فرصة كبيرة للفوز باللعبة الدولية، وضمان استمرار التعاملات الاقتصادية الأوروبية على الرغم من أن نتائج الاتفاق بطيئة المفعول في الاقتصاد الإيراني على النقيض من التوقعات الشعبية في تحسُّن سريع للوضع المعيشي.

ولكن إذا قررت إدارة الرئيس ترامب الانسحاب من الصفقة مع بقاء الدول الأوروبية، ثم التوجه إلى فرض عقوبات أمريكية على الشركات الأوروبية التي تقوم بأعمال تجارية في إيران، فإن هذه الشركات ستواجه خيارين إما انسحابها من إيران، وإما المخاطرة بحرمان دخولها إلى السوق الأمريكية الأكبر حجماً والأكثر ربحاً.

وكانت إدارة الرئيس ترامب قد تجاهلت الانسحاب من الاتفاق النووي مرتين خلال الأشهر الستة الأولى من العام ٢٠١٧، لكنها بدأت الحديث عنها منتصف تشرين الأول، ورفض الرئيس ترامب التصديق -بنحو دوري- على الاتفاق النووي، لكنّ ضغوطاً كبيرة من الكونغرس وبعض أعضاء إدارته، جعلته يوافق في كانون الأول بشرط إعادة الاتفاق مع الأوروبيين.

والدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي التي شاركت في الاتفاق أكدت مراراً تمسكها به، ورأت أنه يمنع امتلاك طهران قنبلة نووية. وفي حال امتلاكها؛ قد تنشب حرب شاملة بمنطقة الخليج التي تعاني أصلاً من الاضطرابات؛ وهذا ما يجعل من غاية ترامب بالانسحاب محل تساؤلات، فبعد زيارته للرياض في أيار ٢٠١٧، أعلن عن وقوفه إلى جانب حلفائه الخليجيين في مواجهة الخطر الإيراني، وقال إن إيران تشكل تهديداً مباشراً لبلاده. وكانت المملكة العربية السعودية قد وقعت أكبر صفقة تسليح في التأريخ مع الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر من ٤٥٠ مليار دولار.

ويبدو أن هدف الرئيس ترامب متعلق بالاقتصاد وليس بالسياسة، فكلما تصاعدت نبرة التهديد بين واشنطن وطهران، هرع حلفاء الولايات المتحدة -خصوم إيران- الإقليميون لعقد صفقات تسليح بمئات المليارات من الدولارات مع واشنطن. وترغب المملكة العربية السعودية في إلغاءه والعودة بالعلاقات الأمريكية الإيرانية إلى ما قبل ٢٠١٥. وما يهم الرئيس ترامب هو أن يحصل على تنازلات إيرانية لصالح حلفائه الاستراتيجيين في الشرق الأوسط (إسرائيل والمملكة العربية السعودية) اللتين اتفقتا ضد النظام الإيراني.

فيما تسعى إيران إلى الابقاء على الاتفاق، وهو ما بدا واضحاً من تصريحات المسؤولين الإيرانيين، بدءاً من الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف وقادة الحرس الثوري.

إن السعي إلى تغيير بعض بنود الاتفاق من دون موافقة الإيرانيين والتفاوض معهم أمر غير ممكن ولاسيما مع الرفض القاطع لإيران وروسيا والصين، وإن التزام طهران بتنفيذ بنود الاتفاق وبإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد عامين من توقيع الصفقة، لا تعطي أي فرصة معقولة لتشديد الشروط. وفي حالة أي تعديل من طرف الكونغرس عبر تشريعات جديدة تشدد الشروط والعقوبات، فإن ذلك سيشكل انتهاكاً للاتفاق. ويحاول الأوروبيون عبر مشاوراتهم مع الأميركيين إقناعهم بعدم الانسحاب، والتفاوض على اتفاق جديد مع إيران حول برنامجها الصاروخي ونفوذها الإقليمي. إلا أن إيران لا تقبل الربط بين الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي. وهو رفض تقبلته ادارة الرئيس أوباما وفضلت التفاوض أولاً على المسألة النووية ثم البرنامج الصاروخي ومشكلة الإرهاب في الشرق الأوسط.

ويبدو أن الإيرانيين -وبسبب الضغوط الهائلة لإدارة الرئيس ترامب عليهم وعلى الأوروبيين- قد قبلوا ببدء حوار حول المسائل الثلاثة السابقة. والظاهر أن الايرانيين يريدون الاستفادة من الخلاف الأمريكي الاوربي. وهناك رغبة أوروبية لاحترام الاتفاق طالما بقيت إيران تحترمه من دون المشاركة الأميركية، وحينها سيترتب على الاتحاد الأوروبي حماية الشركات الأوروبية الناشطة في إيران من عقوبات أميركية محتملة.

وهذا التوجه الأوروبي عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأهمية استمرار الحوار مع إيران والتحذير من لهجة الخطابات السياسية الأمريكية والإسرائيلية والسعودية التي قد تقود فعلياً إلى الحرب.

وقد توجهت إيران بعد الاتفاق النووي إلى الأسواق الأوروبية ووقعت صفقات كبيرة للاستثمار في إيران، ووقعت إيران على اتفاقيات لشراء ١٠٠ طائرة إيرباص، وعلى استيراد المنتجات الألمانية، وصفقات نفطية وتصنيع سيارات مع فرنسا، واتفاقيات مع إيطاليا بشأن الطاقة والبنية التحتية.

وفي حقيقة الأمر، لا يمكن لإدارة الرئيس ترامب أن تبطل الاتفاق النووي من جانب واحد؛ لأنه اتفاق دولي، وما هي إلا طرف فيه ضمن مجموعة أطراف؛ وبالتالي كل ما يمكن أن يفعله الرئيس ترامب هو الانسحاب من هذا الاتفاق مما لا يشكل بالضرورة إلغاءه. ولكن من الناحية الواقعية، ستؤدي العقوبات الأمريكية على طهران بعد الانسحاب وعلى الشركات الأجنبية العاملة في إيران، إلى خشية تلك الشركات وأصحاب الاستثمارات وقلقهم؛ مما يعني في حال رضوخ الشركات إلى عواقب سيئة على الاقتصاد الإيراني؛ وفي النهاية انهيار الاتفاق النووي.

وحينها ستعيد طهران العمل ببرامجها النووية التي كانت ما قبل اتفاق ٢٠١٥، وتقترب من الحصول على سلاح نووي مع استمرار برامجها الصاروخية البعيدة المدى؛ وبالتالي لن تصبح إسرائيل والمملكة العربية السعودية -حليفتا الولايات المتحدة- في خطر، بل إن الأمر أبعد من ذلك.

والسؤال الذي يرغب الكثيرون أن يسمعوا إجابته من الرئيس ترامب، هو: كيف ستتصرف إدارته لتطورات ما بعد إلغاء الاتفاق؟ إن إدارة الرئيس ترامب ستكون في مأزق كبير في كيفية التعامل مع السلاح النووي الإيراني. ويخطئ من يعتقد أن إلغاء الاتفاق وإعادة العقوبات ستؤجج الشارع الإيراني للقيام بثورة للإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية. لكن بكل تأكيد سيفضي انهيار الاتفاق إلى وضع اقتصادي أسوأ للايرانيين، لكنه سيتسبب أيضاً بتهديد المنطقة والأمن الدولي؛ لذا فإن قلق الأوروبيين ليست لخوفهم من خسارة السوق الإيرانية، بل إنّ القلق نابع بالأساس من الأهمية الأمنية.

ومما لا شكَّ فيه، أن إدارة الرئيس ترامب ستسعى بطرق مختلفة إلى التهرب من الاتفاق. وإذا قرر خلال شهر أيار ٢٠١٨ الانسحاب وفرض عقوبات ضد إيران والشركات المتعاملة معها، فإن الدول الأوروبية هي من تقرر فيما إذا تريد إبقاء الاتفاق النووي أم لا. وخلال الأشهر القادمة سيعمل الطرفان الأوروبي والإيراني لإيجاد حلٍّ لمستقبل الاتفاق دون مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية.

وتأمل طهران -في حال انسحاب الولايات المتحدة- أن تبقى الدول الأوروبية ملتزمة بتعهداتها وتتمكن من معالجة الأضرار الناجمة عن العقوبات الأمريكية، وحينها ستكون أوروبا وإيران في عهد جديد.

وإذا ما قامت دول الاتحاد الأوروبي بحماية الشركات الأوروبية الناشطة مع إيران من العقوبات الأمريكية، فحينئذ ستضحي أوروبا بمصالحها الاقتصادية العميقة مع الولايات المتحدة الأمريكية لأجل ما تراه أهمية أمنية عظمى وهي عدم امتلاك إيران السلاح النووي.