أماندا روجيري، صحفية ومحررة في BBC.

لما يقرب من مئة عام كان هناك أسلوبان من أساليب القياس يُلتجأ إليهما لتكوين فكرة حول جودة أداء بلد ما، الأول: هو الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، الذي يقيس حجم الاقتصاد لبلد ما، والثاني: هو معدل البطالة. ولكن حينما يتعلق الأمر بمعرفة مدى فعالية بلد ما في تقديم الخدمات لمواطنيه، فإن هذه الأدوات لا تكون غير وافية فحسب، بل قد لا تكون مفيدة على الإطلاق.

أمّا ما يخصُّ تقديرات التقدم الاجتماعي -التي تقيس جوانب مثل حصول المواطنين على التعليم والغذاء والسكن بأسعار معقولة- فكثيراً ما تتفوق البلدان الفقيرة على نظرائها الأثرياء؛ وبهذا الصدد يقول مايكل غرين الرئيس التنفيذي لمؤشر التقدم الاجتماعي: “تتمتع البلدان الغنية بتقدم اجتماعي أعلى؛ لذا فإن تحقيق زيادة النمو الاقتصادي لبلد ما لا تعدُّ فكرة سيّئة. لكن ما نراه أيضاً هو أن التقدم الاجتماعي لا يُفسَّر بنحوٍ تام عبر المتغيرات الاقتصادية، إذ إن الناتج المحلي الإجمالي ليس أمراً محتوماً”.

ويعدُّ مؤشر التقدم الاجتماعي واحداً من عدة مؤشرات تجمع البيانات حول البلدان في جميع أنحاء العالم، ومدى جودة هذه البلدان في تقديم الخدمات لسكانها، ولكن إذا اُعتُمِد عليها بنحوٍ تام، فإنها ستدفع العديد من الأفراد إلى الرغبة بالانتقال للعيش في الدنمارك أو نيوزلندا.

إلا أنّ هذا النوع من البيانات يقدم لنا معلومات أكثر من ذلك بكثير، إذ بإمكانها أن تظهر لنا العلاقات التي تساعد على صياغة سياسة بلد ما، ويمكنها تحديد أي البلدان التي تحصل على مساعدات مالية، وأنها تساعد على التنبؤ بالمستقبل كذلك. وإن إحدى الجوانب المثيرة للاهتمام التي تبينها هذه الأنواع من المؤشرات هي معرفة البلدان التي أظهرت أي تحسن أو تراجع في أدائها أو بقيت على حالها.

وهناك بعض الأفراد ممن يعتقدون بأن الحكومة الأمريكية الآن أقلّ فعالية من أي وقت مضى، إذ تراجعت مستويات ثقة المواطنين الأمريكيين في الحكومة منذ عام 1958. إلا أنّ مؤشرات الحوكمة العالمية التابعة للبنك الدولي تشير إلى أن مستوى فعالية الحكومة قد حافظت على موقعها منذ عام 1996 (يحلل المؤشر بيانات مثل حالة الطرق السريعة وجودة المدارس الابتدائية).

بينما تغيّرت مستويات بلدان أخرى بنحوٍ ملحوظ؛ فعلى سبيل المثال: شهدت تونس تراجعاً مطرداً في “الصوت المسموع والمساءلة” اللذين يقيسان جوانب مثل الحرية السياسية وحرية الصحافة في المدة من 1996-2010، إلا أنه في عام 2011  حدث الربيع العربي؛ مما أدّى إلى تقدم مستوى البلد من 9% إلى 36% ونمت بنحوٍ مطرد منذ ذلك الحين. وفي عام 2016 حصلت تونس على نسبة 57% وهي النسبة نفسها لهنغاريا.

يحتفل التونسيون بالذكرى السادسة للربيع العربي. كان البلد الوحيد الذي يستعد للانتقال إلى إيجاد حكومة ديمقراطية

إلا إنه من الصعب الانتقال من مستوى منخفض جداً إلى آخر متقدم، إذ يشير آرت كراي الخبير الاقتصادي في البنك الدولي -الذي يعمل في الفريق الذي يجري تقييم حديث للبلدان- إلى “أن أحد الأمور التي تخبرنا بها هذه التقييمات هو أنه بمجرد إقامة بلد ذات حكم رشيد، فإن هذا الحكم يميل إلى الاستمرارية، إلا أنه من الصعب الوصول إلى حكم مماثل”.

الحدود النقدية

تعد الثروة الخاصة ببلد ما إحدى الجوانب التي لا تعمل منفردة؛ فمثلاً: تحتل الولايات المتحدة المرتبة 18 في مؤشر التقدم الاجتماعي على الرغم من أنها أحد البلدان الخمسة الأولى في مؤشر الناتج المحلي الإجمالي. وبالمثل، فإن لدى هولندا ناتجاً محلياً إجمالياً مماثلاً للمملكة العربية السعودية، وكذلك شيلي، وكازاخستان، والفلبين، وأنغولا؛ إلا أنّ دول هولندا وتشيلي والفلبين تتفوّق بأدائها عن نظرائها من البلدان.

وقد وجد الاتحاد الأوروبي النمط نفسه حينما طبَّق إطار مؤشر التقدم الاجتماعي، وكان البلد ذو الأداء الأفضل هو السويد، الدولة التي لها الناتج المحلي الإجمالي نفسه في رومانيا إلا أنها سجلت موقعاً أعلى بكثير في مؤشر التقدم الاجتماعي.

على الرغم من أن الولايات المتحدة تعد واحدة من أغنى الدول في العالم، إلا أنها من حيث التقدم الاجتماعي أقرب مرتبة إلى إستونيا من كندا

من المثير للاهتمام أن بيانات الاتحاد الأوروبي أظهرت أيضاً عدم وجود علاقة بين التقدم الاجتماعي ومعدلات البطالة، فقد يكون من المتوقع عادة أن حصول الأفراد على الوظائف من شأنها أن تحسن حياتهم الاجتماعية، لكنْ في المملكة المتحدة تعد معدلات البطالة منخفضة على مدى التأريخ، والتقدم الاجتماعي يكون متوقفاً تماماً.

يقول مايكل غرين: “لدينا مقاييس تقليدية تبين لنا طبيعة عمل المجتمع، وإحدى تلك المقاييس التي اعتمد عليها العديد خلال السنوات الثمانين الماضية هو معدل البطالة، إلا أن هذا قد لا يبين الوضع الحقيقي لنوعية حياة المواطنين قبل 20 عاماً؛ بسبب طبيعة العمل المتغيرة”، فمثلاً: أن عقود العمل الصفرية قد تقع ضمن “العمالة”، ولكنها قد لا تكون فعالة في بناء التقدم الاجتماعي.

ولا تختلف كوستاريكا كثيراً عن بقية بلدان أمريكا اللاتينية، فهي بلد ذو دخل متواضع نسبياً، إذ يقول خوان بوتيرو المدير التنفيذي لمشروع العدالة العالمية: “في السنوات الأربعين أو الخمسين الماضية كانت مؤسسات كوستاريكا قوية جداً، وترى أن جميع النتائج الاجتماعية فيها تميل إلى أن تتفوق على جيرانها، فهي بلد مزدهر وأكثر أماناً”.

إذا لم تكن ثروة بلد ما كافية لوحدها في تقديم خدمة لمواطنيها، فما الذي علينا فعله؟

يعمل بوتيرو على مؤشر سيادة القانون في مشروع العدالة العالمية، الذي يدرس “أساسيات سيادة القانون” مثل: المساءلة الحكومية، وحماية حقوق الإنسان والإجراءات القانونية العادلة. ووجد بوتيرو علاقة واحدة على الأقل؛ إذ يقول: “إن الغالبية العظمى من الأدبيات تشير إلى أن الثروة المالية في مجال الصحة تعدُّ أمراً ضرورياً”، وأضاف: “وجدنا أن سيادة القانون هو مؤشر على النتائج الخاصّة بالصحة، إلا أنه مستقل عن الثروة المالية. وكلما ازدادت سيادة القانون زادت احتمالية حصول البلاد على مستوى عالٍ للمؤشرات الصحية قياساً على معدل الوفيات ونسبة متوسط العمر المتوقعة والأمراض”.

وينبغي مما ذُكِر آنفاً معرفة أن الثروة المالية لا تعني أنها أمر غير ضروري؛ فغالباً ما تكون البلدان ذات الأداء العالي من البلدان الغنية، ولكن لا تحصل جميع الدول الغنية على نسب عالية في أدائها؛ مما دفع بعض الخبراء إلى الاعتقاد بأنه في حين أن النمو الاقتصادي لا يخدم مواطنيها دائماً فعلى المؤسسات التركيز على الجوانب الأخرى التي تخدم المواطنين التي تساعد على النمو الاقتصادي. ويقول بوتيرو: “حينما يكون البلد غنياً، فبإمكانه أن يدفع أجوراً أعلى لأفراد الشرطة، ومع وجود نظام قانوني قوي، فمن المرجح أن تكون معدلات الجريمة أقل، وهكذا يصبح البلد أكثر ثراءً”.

 الآثار العالمية

بالنظر إلى المعلومات التي تقدمها هذه الأنواع من المؤشرات، فإنه ليس من المستغرب أن تُستَعمَل في عدد من الطرق، إذ يستخدم الاتحاد الأوروبي مؤشر التقدم الاجتماعي في صياغة السياسات، وإن الشركات العالمية بدأت تأخذ نتائج هذه المؤشرات بالحسبان، فمثلاً: تعتمد مؤسسة ديزني على مؤشرات الحوكمة في العالم الخاصة بالبنك الدولي في تحديد البلدان التي سوف تلجأ إليها لتصنيع منتجاتها.

تتشارك كوستاريكا بالعديد من أوجه التشابه مع جيرانها، إلا أنها تميل إلى أن تكون أكثر سلاماً وازدهاراً

وبإمكان تلك المؤشرات أيضاً تحديد نسبة المساعدات التي تتلقاها البلدان؛ فمثلاً: استثمرت مؤسسة التصدي لتحديات الألفية الأمريكية 11 مليار دولار (ما يعادل 8.1 مليار جنيه استرليني) في المساعدات المالية منذ إنشائها عام 2004.

إن مفهوم “الحكم الرشيد” -الذي تحاول العديد من هذه المؤشرات قياسه- طُوِّر في البداية من قبل المؤسسات المالية الدولية، على وفق ما ذكرته ليندا ريف أستاذة القانون الدولي في جامعة ألبرتا، ومن ثم طبّقت البلدان المانحة -مثل الولايات المتحدة- تلك المعايير في عملية تقديم المساعدة الإنمائية.

وأضافت ليندا ريف: “تضم إحدى الانتقادات لهذا المؤشر في أنه تم تطبيقه إلى حد ما في الجنوب العالمي، إذ يقول بعض العلماء … إن نهج الحكم الرشيد يمكن أن يعود تأريخه إلى الهيكل الاستعماري في العالم الذي خلق القانون الدولي”.

ويشير النقاد أيضاً إلى أن العديد من المعايير تستند إلى القيم الغربية؛ مثل: التسامح مع المثليين، أو التسامح الديني.

وهناك جدال آخر حول مدى ملاءمة العديد من المؤشرات للفئة التي تشكل نصف سكان العالم (النساء). فعلى سبيل المثال: في جميع البلدان -باستثناء الأغنى- لا توجد علاقة بين سيادة القانون ومركز المرأة، فإذا أشير إلى بلد ما بأنه يحوي أنظمة قانونية قوية تضمن الإنصاف والمساواة، فإن نصف سكانها من النساء ما زلن لا يتمتعن بالفرص نفسها للحصول على العمل أو التعليم أو الرعاية الصحية كالرجال، ولذلك فبإمكان بعضهن القول إن المؤشرات معيبة أو غير كاملة على الأقل.

وأضاف الخبراء أن ذلك الأمر يجعلنا نتوخى مزيداً من الحذر حينما نتعامل مع هذه المؤشرات. فاعتماداً على البلد تحت التقييم، فإن الباحث قد يواجه نتائج مختلفة من البيانات لمؤشر واحد.

انظر إلى المستقبل

وعلى الرغم من الانتقادات، تعدُّ هذه الأنواع من المؤشرات نقطة انطلاق جيدة، وأحد أوجه أهميتها يكمن في أنها تشير إلى الاتجاهات الأساسية، وبعضها قد يكون له عواقب وخيمة.

تحتل سنغافورة المرتبة التاسعة عالمياً في مؤشر سيادة القانون، إلا أنها تحتل في المؤشر الاقتصادي العالمي المرتبة 55 من أصل 144 بلداً

وإذا نظرنا إلى التراجع في الانخفاض بالصوت المسموع والمساءلة في تونس، فلن يكون مفاجئاً أنَّ حدثاً كانتحار بائع للفاكهة عبر حرق نفسه بعد تعرضه لسوء معاملة من قبل أحد المسؤولين المحليين تسبّب بتفجير سلسلة من الأحداث التي أدّت إلى إشعال ثورة الربيع العربي.

وعلى الرغم من كون فنزويلا أغنى بكثير من جيرانها فيما مضى، إلا أنها تعاني اليوم من أزمة مالية حادة. ويقول بوتيرو: “احتلت فنزويلا المرتبة الأخيرة في تصنيف مؤشر سيادة القانون لعدة سنوات حتى حينما حافظت الحكومة على استمرارية مبدأ سيادة القانون فيها، أمّا الآن فيبدو أن الحكومة تخلت عن أية قيود، ووضعها السياسي آخذ في الانهيار”.

ويشير بوتيرو إلى الولايات المتحدة حيث يسيطر الجمهوريون على مجلس النواب ومجلس الشيوخ؛ ففي مجتمع ذي سيادة قانون منخفضة، من المتوقع أن تكون الحكومة قادرة على القيام بكل ما تريد، إلا أن هذا ليس ما يحدث في الولايات المتحدة؛ إذ يقول بوتيرو: “إن الأولويات المعلنة للحزب في السلطة، لا تُمَرّر إلا بعد أن تخضع للعديد من الضوابط، وبالنسبة للولايات المتحدة يعد هذا قصة نجاح حتى الآن”.

تُصنّع منتجات ديزني في البلدان التي اُختيرت بواسطة مؤشر الحوكمة العالمية الخاصة بالبنك الدولي

ما الذي يمكننا فعله لهذه المؤشرات القوية التي قد تساعد على جعل البلد مستقراً، وآمناً، وعادلاً يوفر لمواطنيه نوعية حياة جيدة؟

يبدو أن العوامل الرئيسية اثنتان، فسواء أكان ذلك عامل التقدم الاجتماعي أم الجودة العامة للحكم لبلد ما، إلا أن ما يهم هو مستوى التزام المؤسسات بتلك الأمور، ومقدار الوقت الذي تبذله في تحقيق ذلك.

يقول مايكل غرين: “إننا نقيس النتائج، وليس المدخلات؛ فلا يمكنك تغيير التقدم الاجتماعي الخاص ببلد ما عن طريق تغيير القانون أو إنفاق القليل من المال؛ لذلك يعد الالتزام طويل الأمد من أجل تحقيق التقدم الاجتماعي من أهم عوامل النجاح”.

أما بوتيرو فيقول: “إن البلدان التي أقامت مؤسسات حكومية قوية استمرت لأوقات طويلة -كالولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة- كانت أقل عرضة لخطر فقدان تلك الحماية”.

في نهاية المقال أقول: إذا كنت تبحث عمّا يجعل بلد ما عظيماً، فلا ننظر إلى مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي أو معدلات البطالة، بل انظر إلى مدى التزامه نحو مواطنيه، وما مقدار الوقت الذي بذله في سبيل تحقيق تلك الالتزامات.


المصدر:

http://www.bbc.com/future/story/20180111-how-can-you-measure-what-makes-a-country-great