من يتابع الإعلام السعودي والتركي من كثب في هذه الأيام يرى بوضوح وجود خلاف حادٍّ غير معلن بين الدولتين بدءاً منذ تغيير تركيا سياسةَ العداء تجاه روسيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز ٢٠١٦، حتى زعامة تركيا المعارضة الإسلامية ضد قرار الرئيس الأمريكي جَعْلَ القدس عاصمةً لإسرائيل.
فموقف تركيا والتصعيد الذي قادته دفاعاً عن القدس باستضافتها مؤتمراً عاجلاً لمنظمة التعاون الإسلامي، وقرارها بفتح سفارة في القدس الشرقية -وسط موقف سعودي هادئ أمام القرار- أغضب الإعلام السعودي وجعله يهاجم الرئيس التركي لأنه أراد انتزاع موقع الزعامة الإسلامية من السعودية بحسب ما يراه الإعلام السعودي.
وعلى الرغم من أن القمة الإسلامية في إسطنبول لم يحضرها سوى ١٧ زعيماً إسلامياً من أصل ٥٣ دولة إسلامية، إلا أنّ ذلك أشار بوضوح إلى وجود تنافس تركي-سعودي على قيادة المجتمع الإسلامي السنّيّ، وانقسام هذا المجتمع بين مؤيد لزعامة تركيا وأخرى لزعامة السعودية.
إن غياب ملك السعودية وولي عهده عن قمة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول أعطى الفرصة للرئيس أردوغان لتأكيد مكانته بصفته زعيماً إسلامياً سنّيّاً؛ ولتأكيد الحضور التركي القويّ وجه وزير الخارجية التركي انتقاداً على ما عدّه ردَّ فعلٍ عربياً ضعيفاً على القرار الأمريكي، وأشار إلى خشية بعض الدول العربية من إغضاب واشنطن.
واجتاحت موجة غضب مؤيدة لتركيا ضد الموقف السعودي في مواقع التواصل الاجتماعي العربية موجهةً اتهامات للسعوديين بإهمال القضية الفلسطينية، وانتشرت أحاديث في هذه المواقع عن مصادر إسرائيلية مثل القناة العاشرة الإسرائيلية قائلة: إن قرار ترامب لم يكن ليصدر إلا بضوء أخضر سعودي-مصري، أو ما كشفته رويترز من أن السعودية تمارس الضغوط على الفلسطينيين لتأييد مشروع سلام أمريكي جديد يعتزم ترامب الإعلان عنه في عام ٢٠١٨، وهذه الأحاديث المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي زادت من الغضب السعودي.
وقد بدا الغضب السعودي جلياً في كتابات الصحفيين المقربين من دائرة القرار السعودي الذين هاجموا السيد أردوغان على استضافته الرئيس الإيراني في القمة، مشبهين إسرائيل بإيران، بل يرون أن إيران تشكل خطراً أكبر على المجتمع السني فيما لا تفعل إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك وضع أردوغان يده بيد الإيرانيين؛ ومضى كُتّاب الإعلام السعودي يتحدثون عن تركيا قائلين: لا يوجد فارق كبير بين خطط إيران التوسعية وخطط تركيا الراغبة في الهيمنة على المنطقة العربية والخليجية تحديداً عبر محاولتها استمالة مشاعر الجمهور العربي، وإظهار قادة دول الخليج بموقع غير المكترث للمقدسات الإسلامية، بإطلاق شعارات من القرن العشرين تسببت بكوارث للقضية الفلسطينية.
ووصل الغضب السعودي في الإعلام إلى درجة أنه سمح لمسؤول العلاقات الخارجية في حزب العمال الكردستاني بنشر مقالٍ في صحفها لمهاجمة تركيا قائلاً: إن الحرب هي السبيل الوحيد مع أنقرة. والجدير بالذكر أن الوزير السعودي ثامر السبهان زار في شهر تشرين الأول الماضي الريف الشمالي لمحافظة الرقة السورية التي تسيطر عليها الفصائل الكردية، برفقة مبعوث الرئيس الأمريكي بريت ماكغورك؛ وهو ما عدّه الإعلام التركي بمنزلة دعمٍ أمريكي-سعودي معلن لحزب العمال الكردستاني.
وأجرت بعض الصحف السعودية حواراً مع زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري صالح مسلم، -الذي ترى تركيا أن حزبه يشكل تهديداً على أمنها القومي- وتحدث مسلم لصحيفة الشرق الأوسط عن “الأحلام العثمانية وكراهية الأتراك للعرب”، واتهم مسلم تركيا وقطر بدعم تنظيم داعش والنصرة، وأنه لا يحق لتركيا إنشاء قاعدة عسكرية في قطر، وأن أردوغان “جلب المصائب للشرق الأوسط” وطالب باتخاذ خطوات مباشرة ضدّ تركيا.
وقد استضافت وسائل الإعلام السعودية شخصيات كردية معادية للحكومة التركية بالتزامن مع حملات منظمة على مواقع التواصل الاجتماعي طالب من خلالها مغردون خليجيون بالردّ على الموقف التركي من الأزمة الخليجية بتقديم الدعم إلى الأكراد في سوريا، ودعم تكوين دولة للأكراد في تركيا.
ونشرت صحيفة يني شفق التركية تقريراً قالت فيه إن شخصيات أمريكية وسعودية وإماراتية اجتمعت مع الإدارة الذاتية الكردية في شمالي سوريا لتقديم الدعم المطلوب، رداً على الدعم التركي المباشر لقطر في الأزمة الخليجية.
لقد دفعت الحملة الإعلامية السعودية والإماراتية ضد الرئيس أردوغان على خلفية مواقفه الأخيرة من القدس الإعلام التركي إلى الردّ بالمثل على هذه الهجمات؛ لينتهي عهد الصمت الإعلامي بين البلدين حيث كان الإعلام التركي المقرب من حزب العدالة والتنمية الحاكم قد توقف عن توجيه انتقادات للمملكة في محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها.
على سبيل المثال، تحدثت صحيفة يني شفق المقربة من الرئيس أردوغان عن تلقي الإعلاميين السعوديين تعليمات من الأمير محمد بن سلمان تآمرهم بعدم توجيه الانتقاد لإسرائيل في المواجهات التي تجري بين المحتجين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي. وقالت الصحيفة في موضع آخر: إن السلطات السعودية اعتقلت رجل أعمال أردني خلال زيارته للسعودية بسبب غضب السعوديين على ملك الأردن الذي حضر قمة إسطنبول للتعاون الإسلامي بشأن القدس ورفض القرار الأمريكي.
وقال رئيس تحرير يني شفق في حديث متلفز: إن المسؤولين العرب جلسوا للتفاوض مع إسرائيل لعقد صفقة عن القدس، واتهم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالتخلي عن القدس لصالح إسرائيل، وقال: إن مكة والمدينة المنورة ستكونان في خطر؛ لأن القادة الشباب من الحكام العرب طرحوا القدس على طاولة “البيع والشراء” مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن يتاجر بقضية مقدسة كقضية القدس فإنه لن يتردد في الأمر نفسه مع مكة والمدينة، ومضى قائلاً: إن كل بلد إسلامي معرض لخطر الغزو بما في ذلك تركيا، وإن السعودية والإمارات والكويت اتخذت من قضية مواجهة إيران مبرراً لعقد صفقة القدس مع الولايات المتحدة وإسرائيل ضماناً لأمن مستقبل بلادهم.
إن الحديث الإعلامي السابق لرئيس تحرير يني شفق المقرب من الرئاسة التركية وغيره من الإعلاميين الأتراك، يعكس حالة الاستياء التركي من التحالف السعودي مع الولايات المتحدة وإسرائيل ضد الأمن القومي التركي ولاسيما في دعم المنظمات الكردية المعادية لتركيا.
ويبدو أن منهجية الرئيس أردوغان ومنهجية الأمير محمد بن سلمان مختلفتان، فالأول وجه انتقاداً للثاني بنحوٍ غير مباشر حينما انتقد مصطلح الإسلام الوسطي المعتدل الذي يستخدمه الأخير، وقال أردوغان: لا يوجد شيء اسمه إسلام معتدل أو غير معتدل، ولا ينبغي أن يحاول أحد أن يضع الإسلام في موقف ضعف.
ولعلَّ الفرق الآخر بين الرجلين في المنهجية السياسية أن الرئيس التركي يسعى إلى رأب الشرخ السني-الشيعي ضد إسرائيل، الذي تعاظم في عصر الربيع العربي مع أنه كان من عرابيه، وهذا التغيُّر في الموقف التركي جاء مغايراً للمصلحة السعودية؛ لذا عمدت وسائل إعلام سعودية إلى إجراء لقاء مع رئيس الأركان الإسرائيلي الذي طالب بتعاون استخباراتي بين الإسرائيليين والدول العربية في مواجهة إيران وحزب الله والمنظمات الفلسطينية، فيما توجّه وفد بحريني بتوجيه حكومي لزيارة إسرائيل في خطوة نحو التطبيع.
كانت المملكة العربية السعودية تراهن على تشكيل تحالف دول الاعتدال السني لمواجهة إيران، ولكن قضية القدس ومنافسة تركيا للسعودية على قيادة العالم الإسلامي وجهت ضربة للمشروع السعودي بعد قيام تحالف إسلامي آخر غير معلن بين تركيا وإيران.
وإن شعاراتٍ مثل “الموت لأمريكا.. والموت لإسرائيل.. وعلى القدس رايحين شهداء بالملايين” التي أطلقها الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله تعدُّ تحولاً استراتيجياً في مواجهة إسرائيل؛ فهذه الاستراتيجية تضعف رؤية المملكة العربية السعودية الساعية لقيادة تحالف الاعتدال السني في مواجهة تنظيمات عسكرية موازية للجيوش ذات طابع شعبي عقائدي مثل حزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
وإذا ما قامت انتفاضة شعبية في فلسطين فإنها ستحظى بدعم شعبي عربي وإسلامي، وستقف خلفها منظمات ودول إقليمية؛ مما يعني استمرارها لمدة طويلة. وستعمل تركيا على الاستفادة من هذه الانتفاضة؛ لتحقيق مكاسب سياسية ضد الولايات المتحدة التي تدعم الفصائل الكردية المسلحة في سوريا، فيما تستمر المملكة العربية السعودية بسعيها لقيادة التحالف الإسلامي الصديق لإسرائيل، وستتعرض المملكة للإحراج في كل يوم يقتل فيه الإسرائيليون محتجين فلسطينيين مسالمين.
لقد كان التقارب الذي شهدته السنوات الماضية بين تركيا والسعودية تقارباً مرحلياً فرضته المصالح المشتركة في الأزمة السورية، ولولا ذلك لكان التصادم مصير العلاقة بين البلدين؛ وتنظر تركيا إلى تقديم أي نوع من الدعم السياسي أو العسكري إلى الأكراد في تركيا أو سوريا بحساسية شديدة؛ كونها تمسُّ أمنها القومي؛ ولذا فإن وجود دعم سعودي رسمي للأكراد من شأنه أن يُدخل العلاقات بين البلدين في مرحلة الصدام المباشر، تماماً كما هو الحال مع الولايات المتحدة التي اتهمها أردوغان بتقديم الأسلحة والدعم اللوجستي للفصائل الكردية في سوريا.