كيف تستفيد العربية السعودية من البعد الديني في سياستها الخارجية

في شهر أيار/ مايو من عام 2003 اقدمت السلطات الأمنية الأميركية على اعتقال ومن ثم إبعاد فهد الثميري، الدبلوماسي في القنصلية السعودية في مدينة لوس أنجيليس ومنعه من دخول أراضي الولايات المتحدة. الذي تبين فيما بعد أنه الملحق الديني في القنصلية (العنوان الرسمي الذي كان يحمله هو دبلوماسي يعمل في قسم العلاقات الاسلامية والثقافية وإمام مسجد الملك فهد في كالفر سيتي).[1] ويعد المسجد واحداً من أكبر المساجد في ولاية كاليفورنيا، وقد تم انشاؤه بتمويل حكومي سعودي.

وذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أن الشيخ الثميري كانت له صلات مع اثنين من مختطفي الطائرات السعوديين الذين قاموا بتنفيذ اعتداءات نيويورك عام 2001، وتتوفر لدى أجهزة الأمن الأميركية أدلة حول استقباله للمختطفين في مسجد الملك فهد وأن أي علاقة بين الحكومة السعودية وقضية تفجيرات 11/9 فإنها كانت تمر عبر الشيخ الثميري الذي تتهمه أجهزة الأمن الأميركية بالكذب بشأن صلاته بخاطفي الطائرات السعوديين على الرغم مواجهته بتسجيلات هاتفية بينه وبينهم.[2]

لقد أثار إبعاد الشيخ فهد الثميري من الولايات المتحدة تساؤلات عن حقيقة الدور الذي يضطلع به بما يطلق عليهم “الملحقون الدينيون”، والملحقيات الدينية السعودية العاملة في السفارات السعودية في عواصم العالم المختلفة. وعن ماهية الدوافع التي ينشط على أساسها هؤلاء، والجهات التي يرتبطون بها، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي في العربية السعودية، وطبيعة تداخل النشاط الديني السعودي مع الدبلوماسية السعودية.

وقد ألقت بعض وثائق وزارة الخارجية السعودية التي سربتها ويكيليكس الضوء على جزء من نشاطات المؤسسة الدينية السعودية في الخارج، ودور الملحقين الدينيين العاملين في السفارات السعودية في تلك النشاطات.

النشاط الديني السعودي في الخارج

تمتلك العربية السعودية جهازاً كبيراً يعنى بإدارة النشاطات الدينية لها حول العالم. حيث يقوم هذا الجهاز بتشكيل وإدارة شبكة عالمية من الذين يرتبطون بالمؤسسة الدينية السعودية، التي توفر تمويلاً لبناء مساجد ومراكز دينية ومدارس، وبتدريب وتنشئة رجال دين يعملون لنشر العقيدة الوهابية في العالم. رسمياً فإن ما يطلق عليهم “الملحقون الدينيون” هم من يديرون هذا النشاط الديني السعودي في الخارج. ويحمل هؤلاء الصفة الديبلوماسية، ولكنهم يرتبطون رسمياً بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، التي يترأسها صالح عبدالعزيز آل الشيخ. ويتولى وكيل الوزارة للشؤون الإسلامية، مسؤولية الإشراف والتوجيه لعمل الملحقين الدينيين السعوديين في الخارج. ويشير موقع وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودي إلى أن الهدف العام للوكالة يتمثل في “نشر الدعوة الإسلامية، وتصحيح المفاهيم بالمعتقدات، وإبراز مكانة المملكة وجهودها في مجال العمل الإسلامي، ودعم المسلمين في الخارج لتمكينهم من ممارسة شعائر الإسلام وبقية حقوقهم الأخرى، والعناية بالأقليات والجاليات المسلمة في العالم، ورفع المستوى الفكري والعلمي للمسلمين في الخارج، وتأكيد هويتهم الإسلامية، والمساعدة في المشروعات والمناشط الإسلامية في الخارج.”[3] (المناشط تعبير رسمي سعودي عن النشاطات). أما اختصاصات الوكالة فيما يخص عملها في الخارج، وحسب الموقع الرسمي ذاته فهي،

  • التعرف على الجهات المهتمة بالعمل الاسلامي (أفراداً ومؤسسات) وتدعيم العلاقات معها.
  • إعداد قاعدة بيانات عن الشخصيات والجهات ذات الاهتمام بالعمل الإسلامي، وتحديثها أولاً فأولاً لضمان استخدامها بكفاية.
  • دعم المناشط الإسلامية الموجودة حالياً على الساحة الإسلامية، ومساندتها والتأكد من سلامة توجهها.
  • الاستفادة من إمكانات جميع وسائل الإعلام (المسموعة والمرئية والمقروءة) لإيضاح ما تقوم به المملكة من أعمال جليلة على مستوى العالم الإسلامي، ودعم الوسائل الإسلامية منها.
  • دعم كراسي الدراسات الإسلامية القائمة في بعض الجامعات، والتعاون على إنشاء كراس أخرى في الجامعات العالمية العريقة المعروفة.
  • التنسيق مع الجهات والوزارات والشخصيات ذات الاهتمام بالشؤون الإسلامية فيما يخدم العمل الإسلامي.
  • إنشاء مكتبات عامة في البلاد الإسلامية والمساجد والمراكز والمعاهد الإسلامية، وتزويدها بالكتب الإسلامية.
  • التعاون مع العلماء المسلمين ذوي الاتجاه السليم والعقيدة الصحيحة في مختلف التخصصات ومع الجامعات والمراكز المتخصصة.
  • التوصية بتقديم منح دراسية لأبناء المسلمين، والتنسق مع وزارة التعليم العالي في ذلك.
  • دراسة المشكلات التي تواجهها الدعوة الإسلامية في الخارج، والعمل على حلها.
  • جمع المعلومات المتعلقة بالدعوة الإسلامية في الخارج وتحليلها.
  • تحديد الأهداف السنوية لنشر الدعوة الإسلامية في الخارج، ووضع الخطط اللازمة لذلك، والعمل على تنفيذها بعد إقرارها.

ويشير الهيكل التنظيمي لوكالة الوزارة للشؤون الإسلامية ، نقلاً عن الموقع الرسمي لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، إلى أن الوكالة تضم بالإضافة إلى مكتب التنسيق والمتابعة، الإدارة العامة للدعوة في الخارج، ومكاتب الدعوة في الخارج. حيث تتحرك مكاتب الدعوة في الخارج في أفق “نشر العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وما جاء عن السلف الصالح، وترسيخها في نفوس الناس ومحاربة البدع والخرافات، ونشر منهج السلف الصالح في الدعوة الى الله، وبيان منهج المملكة العربية السعودية في الدعوة الى الله، المستمد من كتاب الله وسنة نبيه، وسيرة صحابته والسلف الصالح.”[4]

ويبدو من خلال قراءة الأهداف والاختصاصات من خلال الوثائق الرسمية السعودية، فإن عمل الملحقين الدينيين في السفارات السعودية يتعلق بنشر المذهب الوهابي في العالم، وتشكيل شبكة دولية للمذهب الوهابي ترتبط بالمؤسسة الدينية التي تتبع حكومة العربية السعودية، ومواجهة أية اتجاهات دينية في العالم لا تنسجم مع الفكر الديني الذي تتبناه المؤسسة الدينية الرسمية.

وبناء على التقرير السنوي لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الصادر عام 2008، فإن لدى العربية السعودية 28 مكتب دعوة في الخارج، وقد وصل عديد العاملين فيها 1153 داعية. وقامت تلك المكاتب بتنظيم نشاطات دينية متنوعة وصل عددها إلى ما يقارب المليوني نشاط ما بين دورات ودروس ومحاضرات وخطب دينية وملتقيات وندوات للدعاة في الخارج، وهنالك نشاطات مستمرة في عدد من المراكز التي أقامتها أو التي تدعمها العربية السعودية في عدد من بلدان العالم، كالمركز الثقافي الإسلامي في لندن، ومركز خادم الحرمين في ياوندي في الكاميرون، وقف بلازا الملك فهد في أوغندا، ومركز خادم الحرمين في الأرجنتين والبوسنة والهرسك.[5]

وحسب تصريح لصالح آل الشيخ، وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، فإن لدى الوزارة 170 ألفاً من أئمة المساجد والمؤذنين والخطباء والدعاة داخل العربية السعودية وخارجها، وان مكاتب الخارج تشمل مكاتب ملحقين دينيين، ومستشارين شرعيين في السفارات، ومراكز إسلامية في أماكن مختلفة في العالم تديرها الوزارة.[6]

ولكن يبدو أن وراء الاستخدام اللغوي ذي الطبيعة الرسمية والبالغ الحذر في وصف عمل المؤسسة الدينية السعودية في الخارج جوانب أكثر خطورة وتعقيداً. فالدعوة والإرشاد ونشر الدين الإسلامي وفق الرؤية السعودية تتحرك في ايقاع متزامن مع ثوابت ومتغيرات السياسة السعودية الخارجية، ومسارات تلك السياسة وتأثيراتها في الداخل السعودي من جهة، والمنطقة والعالم من جهة أخرى.

تغطي تحركات المؤسسة الدينية الرسمية السعودية أغلب بلدان العالم، وتنشط في بلدان جنوب شرق آسيا، وافريقيا، وبعض البلدان الأوروبية، ومناطق محددة في الأميركيتين. ويتبين أن المناطق التي يسكنها المسلمون والمكتظة سكانياً، التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، أو ضعفاً في النظام السياسي فيها، أو تلك التي تستفيد من الاستراتيجية السعودية، أو تلك التي يوجد لديها هامش حرية، هي المناطق الأكثر جذباً لنشاطات وعمل المؤسسة الدينية السعودية. وتعد أندونيسيا واحدة من أهم البلدان –فيما يبدو- التي تتركز فيها تلك النشاطات.

يذكر أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان قد ذكر في مقابلات له مع صحيفة الانتلانتيك بأن “السعوديين في تسعينيات القرن الماضي كانوا قد قاموا بشكل مكثّف بتمويل انشاء مدارس ونشاطات لنشر المذهب الوهابي في أندونيسيا، وأن الاسلام في أندونيسيا أصبح (عربياً/ سعودياً) أكثر مما كان عليه عندما كان هو يعيش هناك.”[7]

ويبدو من خلال وثائق ويكيليكس السعودية المسربة وجود نشاطات دينية سعودية مكثفة وغير معهودة في أندونيسيا، تستحق أن تكون وحدها مادة لدراسة المهتمين.

ولا تخفي وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بأنها تسعى إلى ما تسميه “بيان منهج المملكة العربية السعودية في الدعوة الى الله، المستمد من كتاب الله وسنة نبيه، وسيرة صحابته والسلف الصالح”، وهو تعبير  تستخدمه المؤسسة الرسمية السعودية للإشارة إلى “المذهب الوهابي.”

وتغطي النشاطات الدينية السعودية مساحة كبيرة في تنوعها تسعى لوضعها تحت المظلة السعودية، لتشمل أغلب نواحي الحياة الدينية للمسلمين في العالم، سواء كانت مساجد، أو جمعيات نفع عام، أو ممارسات ثقافية، أو أغاثية، أو تعليمية. ويبدو أن الجامعات التي يرتادها المسلمون تقع تحت دائرة الاستهداف أيضاً. وقد سلطت محاولة اغتيال الشيخ عايض القرني، رجل الدين السعودي بمعية الملحق الديني في السفارة السعودية في مانيلا عاصمة الفلبين أثناء توجهه لالقاء خطبة في جامعة في مدينة رامبوانغا الفلبينية في شهر آذار/ مارس 2016 الضوء على مجالات وتعقيدات التحرك الديني السعودي في تلك الأصقاع. ويبدو أن طبيعة عمل النشاط الديني السعودي يستهدف في جزء منه الشباب المسلمين من فئة الطلاب.

الاستراتيجية الدينية السعودية في الخارج

تنهج العربية السعودية استراتيجية اقتحامية في المجال الديني في الخارج، وهو أمر لا تخفيه. إذ أن العربية السعودية تعمل على ترسيخ قناعة في العالم الإسلامي تجعلها في وضع الزعامة له، مستفيدة من وقوع المناطق الاسلامية المقدسة تحت سيادة الدولة السعودية، والموارد المالية الكبيرة التي تمتلكها العربية السعودية التي تستطيع تغطية مثل هذا الجهد الضخم، يضاف إلى ذلك سيطرة الايديولوجيا الدينية وفق المذهب الوهابي على مفاصل المؤسسات الدينية السعودية، الذي يتعامل بشكل غير متسامح مع من يراه منافساً له. ومع التكلفة الكبيرة لهذه الاستراتيجية حيث التمويل، و الجهود والإدارة والتوجيه والسيطرة. فإن هذه الاستراتيجية التي تأخذ من الدين الإسلامي غطاء لها تبقى واحدة من أهم الاسترتيجيات التي تتبناها العربية السعودية في مد تأثيرها في بلدان العالم المختلفة، وأيضاً في إدارة حرب خفية على أسس دينية وطائفية ضد من تراهم العربية السعودية اعداء لها على المستويات الحكومية والشعبية.

وهنا يمكن ملاحظة تداخل ما يطلق عليه النشاط “الدعوي” الحثيث مع السياسة الخارجية السعودية، بما يمكن عده أداة من أدواتها، حيث يوفر للسياسة الخارجية السعودية أوضاعاً وأجواء مناسبة تستطيع من خلالها مد قنوات التأثير والنفوذ في تلك البلدان. وتتكامل النشاطات الدينية السعودية مع النشاط الاستخباري السعودي في الخارج. إذ توفر النشاطات الدينية بواجهاتها المختلفة غطاء مناسباً للتغلغل والحماية يجعله يوفر كماً وفيراً من المعلومات حول الجهات، وبيئة مناسبة للتاثير ضد الطوائف والبلدان التي تنظر اليها العربية السعودية بنظرة العداء والتنافس. وقد نجحت الاستراتيجية الدينية السعودية في ربط اشخاص، وجمعيات مجتمع مدني، ومؤسسات دينية واجتماعية مختلفة بالحكومة السعودية بشكل مباشر. وتقوم المؤسسة الدينية السعودية بتوظيف عدد كبير من المواطنين والمقيمين في البلدان التي تنشط فيها على هيئة “دعاة”، وتقوم بتسليمهم رواتب من الحكومة السعودية. وحسب خالد السويلم، المدير العام للإدارة العامة للدعوة بالخارج في وزارة الشؤون الاسلامية والدعوة والإرشاد، فإن العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز يتولى بشكل شخصي دعم عمل مكاتب الدعوة والمراكز الإسلامية في الخارج بشكل لا محدود.[8]

النشاط الديني السعودي في الخارج كأداة من أدوات السياسة الخارجية السعودية

تشير وثيقة رسمية تحت عنوان “نماذج جمع معلومات ومرئيات، الدور المتوقع من وزارة الخارجية في تنفيذ استراتيجيات ومهام وخطط الشركاء فيما يتعلق بالعمل الخارجي” وفق الخطة الخمسية للفترة 2015-2019 صادرة عن وزارة الخارجية السعودية سربها موقع ويكيليكس إلى دور “الدعوة الدينية” كمحور مهم ومندمج في السياسة الخارجية السعودية. وتطرح الوثيقة بشيء من التفصيل دور وزارة الخارجية في النشاطات الدينية للعربية السعودية في الخارج، على شكل أهداف ومؤشرات ونشاطات قابلة للقياس والمتابعة. وعلى الرغم من اللغة المستخدمة والتي تركز على الجانب الديني الصرف، إلا أن القارئ يستطيع أن يفهم محورية “الدعوة الدينية” في السياسة الخارجية السعودية في المناطق التي يتواجد فيها المسلمون، وحسب أهدافها وغاياتها، وأنها ذات جانب سياسي بحت يتحرك وفق مصالح حكومة العربية السعودية قبل أن تكون ذات جانب ديني.

وتشير الوثيقة إلى الخطة الاستراتيجية التي ترتكز على أربعة محاور هي،

1) نشر العقيدة الإسلامية بكل الوسائل العصرية وتقنية الاتصال ودعمها على جميع المحاور بما يقنع المسلمين قيادات وشعوباً ويوحدهم على المنهج الصحيح.

2) أن يكون العمل الدعوي منظماً ذا رؤية شاملة، بوسائل عصرية ودعاة مؤهلين.

3) اعتماد منهجية التخطيط والتطوير والتكامل بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وفق رؤية استراتيجية ومرجعية واحدة بما يسهم في تفعيل دورها وتحقيق رسالتها في العمل الإسلامي وينسجم مع المتغيرات الإقليمية والعالمية.

4) استقطاب قيادات المجتمع المسلمة وبناء قيادات أخرى والتمكين لهم في مجتمعهم.

ويتضمن عمل وزارة الخارجية السعودية تسهيل عمل وزارة الشؤون الإسلامية في الخارج لتحقيق الاستراتيجية، والتنسيق معها لصياغة رؤية شاملة للعمل الإسلامي وإمداد وزارة الشؤون الإسلامية بالمتغيرات التي تحصل في الدول المختلفة فيما يخص العمل الإسلامي وما له علاقة به، و دعم جهود وزارة الشؤون الإسلامية وملحقياتها ومراكزها في زيادة التواصل مع النخب الإسلامية الفاعلة في مجتمعاتها.  وتستفيد السياسة الخارجية السعودية، بل تعتمد في جزء مهم منها على عمل ونشاطات المؤسسة الدينية السعودية، بل ويلاحظ تنوع وتغير النشاطات الدينية السعودية في الخارج تبعاً لمتغيرات وتوجهات السياسة الخارجية السعودية. ففي بعض المناطق تأخذ صفة المساعدات الإنسانية والمراكز الثقافية، وفي مناسبات أخرى تتحرك بناء على أسس طائفية، وفي بعض الأحيان تركز على النخب والجامعات.  وبشكل مختصر فإن النشاطات الدينية السعودية في الخارج هي جزء لا يتجزء من السياسة السعودية الخارجية، تتنوع، وتتغير، وتتصاعد حسب ما تراه تلك السياسة، وهي عنوان أو واجهة تستطيع أن تعمل دون قيود العمل الدبلوماسي، وإن أدت إلى بعض الأزمات والتعقيدات، فإن وزارة الخارجية تتكفل بحلها وتضمن استمرار عمل تلك النشاطات من حيث الكم والنوع، والاتساع والعمق. فالمؤسسة الدينية تمثل جزء متعاضداً ومندمجاً مه السياسة الخارجية السعودية بأغلب تفاصيلها.

ويبدو أن نشاطات الحكومة السعودية الدينية في بلدان العالم وعبر شبكتها الدولية من “الدعاة” لا تتحرك دائماً وفق تفاهمات واضحة بينها وبين حكومات تلك البلدان، بل ونراها تصطدم في بعض الأحيان بمصالح تلك الدول وشؤونها الداخلية. كما يلاحظ يوجد تعارض في طرق العمل وتجاوزاً للخطوط الدبلوماسية في عمل المؤسسة الدينية السعودية في الخارج. وتقوم الخارجية السعودية بتسهيل العمل “الدعوي” السعودي في الخارج، وحل المشاكل التي تعتريه عبر وسائلها الدبلوماسية المختلفة.

وتبذل العربية السعودية مساع حثيثة لوضع اتفاقيات تعاون ثنائية موضع التنفيذ في مجالات الشؤون الإسلامية والأوقاف مع البلدان التي تنشط فيها دينياً ، وتسهل هذه الاتفاقيات النشاط الديني السعودي في تلك البلدان. ويبدو أن العربية السعودية لم تنجح سوى بتوقيع اتفاقية واحدة في المجالات الدينية مع الجزائر عام 2002، بينما تبقى أطر تعاونها الديني غير محسومة وتتحرك وفق مذكرات تفاهم. حيث للعربية السعودية 5 مذكرات تفاهم دخلت حيز التنفيذ مع اليمن، المغرب، تونس وقطر. فيما تمت المصادقة على 3 مذكرات تفاهم مع الكويت، السودان وبنغلاديش. وتم التوقيع على مذكرتي تفاهم مع البحرين وجزر القمر. بينما تتفاوض العربية السعودية مع أذربيجان، باكستان، أندونيسيا، الصين وجزر المالديف.[9]

ومن هذا المنطلق فإن النشاطات الدينية السعودية تعمل في سبيل تحقيق أهداف السياسة الخارجية السعودية، وهي من بين أمور أخرى، ترسيخ الدور السعودي في العالم، وخلق مساحات تأثير ونفوذ للعربية السعودية في تلك المناطق، ومواجهة البلدان والجهات المنافسة في عواصم العالم المختلفة.

وتعمل المؤسسة الدينية السعودية على سبيل المثال على مواجهة الجهات التي تحمل صبغة دينية معينة، أو البلدان التي تنظر إليها العربية السعودية بعين العداء والمنافسة. إذ تذكر برقية بتوقيع وكيل وزارة الخارجية السعودية للعلاقات الثنائية مؤرخة في شهر كانون الثاني/ يناير 2012 إلى أهمية أن تبادر الحكومة السعودية إلى وضع خطة لمعالجة الفراغ الذي أحدثه انهيار النظام الليبي على مؤسسات دينية وأشخاص يعملون في المجال الديني كانوا يرتبطون به في الفلبين. وتتحدث البرقية عن أهمية “تكليف الملحق الديني بالسفارة السعودية في مانيلا بعد دعمه بالكوادر والكفاءات المتميزة لمتابعة هذا الأمر” وتضيف البرقية “ضرورة الإسراع في احتواء الدعاة الذين كانت تتعهدهم ليبيا القذافي بالرعاية وقطع الطريق على إيران في هذا الاتجاه…والعمل على تكوين لجنة تتولى دراسة أوضاع المد الشيعي في جنوب شرق آسيا والعمل على وضع الخطط بشكل متكامل لمواجهة ذلك المد والاستعانة بجميع المؤسسات الحكومية والخيرية في هذا الشأن.”[10]

وقد تم إرسال وفد على عجالة الى مانيلا يتكون  في عضويته من د. صالح العتيبي مدير ادارة التوعية والتوجيه بوزارة الداخلية، والشيخ عبدالله العامري مدير عام العلاقات الخارجية بوزارة الشؤون الإسلامية ورياض الخنيني من وكالة وزارة الخارجية للعلاقات متعددة الأطراف لغرض “استقطاب الدعاة الذين كان يرعاهم النظام الليبي السابق في الفلبين.”[11]

يذكر أن النظام الليبي السابق كان يتعامل بعداء مع العربية السعودية، وكان يتواجه مع المد الديني السعودي في بعض مناطق العالم، ومنها الفلبين عام 2003. بالإضافة إلى ذلك فإن هنالك توظيفاً كبيراً للمؤسسة الدينية السعودية في تتبع ومواجهة النشاطات الدينية التي تقوم بها إيران وقطر  في العالم.

تجنيد “الدعاة”

تظهر وثائق ويكيليكس السعودية أن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وعبر شبكتها الدولية في السفارات السعودية، والمكاتب، والمراكز التي تديرها تقوم بتجنيد “دعاة” من غير السعوديين للعمل ضمن نشاطاتها الدينية المختلفة. وتدير الوزارة بالتعاون مع وزارة الخارجية السعودية هذه الشبكة من هؤلاء الدعاة الذين يرتبطون بشكل مباشر بالحكومة السعودية. وتظهر بعض الوثائق استمارات تعيين لمن يوصفون بغير السعوديين في الوزارة بصفة “دعاة.” حيث يتم توزيع هذه الاستمارات واستلامها بعد ملئها من قبل الملحقيات الدينية في السفارات السعودية. وتضم الاستمارات معلومات عن المؤهلات العلمية، واللغات التي يجيدها صاحب الطلب، والنشاطات السابقة في الدعوة مع المكان والنوع، واسم الجمعيات أو الجماعات التي ينتمي أو انتمى اليها الداعية المستقبلي. وتطلب الاستمارات معلومات عن أسماء ثلاثة أشخاص ممن لهم صله بصاحب الطلب ممن يوصفون بـ”طلبة العلم” في العربية السعودية، بالإضافة إلى ثلاثة أشخاص من “طلبة العلم” الذين لهم صلة بصاحب الطلب في بلد الإقامة. وحسب وثائق الويكيليكس، فإن السفارات السعودية في الخارج تقوم بالتعامل مع هذه الطلبات، ويتم إجراء مقابلات لهم من قبل الملحقيات الدينية، حيث ترسل برقيات باسماء “الدعاة المستقبليين” إلى وزارة الداخلية السعودية من أجل التقصي عنهم والحصول على موافقات أمنية لهم، ومن ثم ترسل موافقتها  الى وزارة الشؤون الإسلامية ليتم تعيينهم في سلكها الديني في البلد الذي يقيمون فيه. وتشير برقية سرية وعاجلة صادرة عن الخارجية السعودية موجهة إلى السفارة السعودية في أبوظبي بتاريخ 6/4/2015، تستفسر فيها عن شأن خمسة أشخاص يحملون الجنسيات العراقية والمصرية والكينية والأفغانية قد اجتازوا المقابلات الشخصية لدى اللجنة المختصة بمقابلة الدعاة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وقد أوصت بتعيينهم “دعاة إلى الله” في دبي في الإمارات العربية المتحدة.[12] ويلاحظ أن الكثير من الدعاة غير السعوديين الذين يتم تعيينهم في السلك الديني السعودي في الخارج هم من خريجي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة. مما يؤشر على أن هذه الجامعة تتخصص في إعداد هذا النوع من المبشرين الدينيين للعمل خارج العربية السعودية.

ولا يعرف على وجه التحديد ما إذا كانت الحكومة السعودية تأخذ موافقة البلدان التي تتحرك فيها دينياً.. ولكن تشير بعض البرقيات الأخرى إلى أن الحكومة السعودية تبدو أكثر حذراً في تعيين بعض الدعاة، وتأخذ مساراً أكثر حذراً وتدقيقاُ بشأنهم. إذ تذكر برقية سرية صادرة عن وزارة الداخلية السعودية، وموجهة إلى وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وموقعة من قبل الأمير محمد بن نايف شخصياً على موافقة الوزارة على تعيين شخص يحمل الجنسية الصينية كداعية في بلده الأم، الصين.[13]

الأزمات الناتجة عن النشاط الديني السعودي

يثير النشاط الديني السعودي الكثير من الأزمات في بعض البلدان التي يعمل فيها. حيث تنظر بعض البلدان، ونظراً للأفكار المتطرفة والطائفية التي تتبناها المؤسسة لدينية السعودية بعين الشك والتوجس تجاهها. خصوصاً أن تلك النشاطات تؤثر سلباً على الأوضاع الداخلية في تلك البلدان، وتؤثر على السلم الداخلي فيها، لأنه يوتر الأوضاع على أسس طائفية ودينية ويعطي مساحة نفوذ غير مرغوب بها للعربية السعودية فيها. وفيما يلي عرض لبعض الأمثلة على توجس بعض البلدان من النشاطات الدينية السعودية فيها.

الهند

أثارت النشاطات الدينية السعودية في الهند رد فعل الحكومة الهندية التي يبدو أنها لم تكن مرتاحة لتلك النشاطات التي كانت تتم بشكل خارج عن موافقتها على أراضيها. وتشير إحدى البرقيات التي تتعلق بمحضر اجتماع لجنة تتداول أوضاع عمل “الدعاة” في الخارج إلى وجود أزمة بين الحكومتين السعودية والهندية حول النشاطات الدعوية التي تقوم بها العربية السعودية في الهند. وتذكر برقية عن وزارة الخارجية السعودية، بتاريخ 26/4/1431 هــ، الموافق 11/4/2010 إلى أن السلطات الهندية كانت تلح في الطلب من السفارة السعودية في نيودلهي في أن تزودها “بقائمة بأسماء وعناوين الدعاة الهنود التابعين لوزارة الشؤون الإسلامية، ومقدار رواتبهم، مع طلب حصول موافقتها على تسليم تلك المبالغ للدعاة،  ما لم يكن لديها ملاحظات عليهم.”[14] وخلصت البرقية إلى أنه “من غير الملائم دبلوماسياً مكاشفة الحكومة الهندية بشأن موافقتها على رواتب الدعاةـ باعتبار أن الموضوع لا يحمل أسس رسمية.” وتضيف البرقية في الجزء الصالح للقراءة منها إلى أن “كتمان هذا الموضوع الحساس عن الحكومة الهندية على الرغم من علمها به باعتباره حادث على أراضيها، واستمرار الملحقية الدينية في سفارة المملكة في نيودلهي بتسليم رواتب الدعاة التابعين لوزارة الشؤون الإسلامية سراً في مقر السفارة، هو أمر يؤدي بالضرورة الى خلق حالة من الشك، ويلقي بظلال سلبية على مستقبل العلاقة بين البلدين…”[15]

ويبدو أن آلية دفع الرواتب للدعاة تتم بشكل نقدي في السفارات السعودية، رغم التوجيهات أن تتم عبر التحويلات المصرفية لتعزيز مبدأ الشفافية في المؤسسات السعودية. وقد اقترحت البرقية بسبب حساسية الأمر في الهند، “أن تسلم رواتب الدعاة من السفارة لمكتب الملحق الديني نقداً ويتم صرفها عن طريق وكلاء لهم بحيث يوكل دعاة كل منطقة واحداً منهم وتسلم له رواتبهم لا يتجاوز عددهم  15 شخصاً ولا تتم مراجعتهم للسفارة في وقت واحد، مع إمكانية تسليم بعض الرواتب لبعض الكلاء في مقر عملهم إن كان في مؤسسة إسلامية معروفة عن طريق محاسب الملحقية.” وتذكر البرقية رأي السفارة السعودية في نيودلهي بأن “استمرار الملحقية الدينية في السفارة التابعة لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في تسليم رواتب الدعاة نقداً وبطريقة سرية هو أمر سيؤدي بالضرورة الى الإضرار بسمعة المملكة ومصالحها في الهند، نظراً لأن الجهات الأمنية الهندية تراقب هذا الأمر بشدة ومدركة تماماً لما يحدث.”[16]

وتذكر رسالة بتاريخ 13/3/1431 هـ، موافق 27/2/2010 وبتوقيع سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي آنذاك موجهة إلى وزير الشؤون الإسلامية السعودي حول طلب الأخير تعيين شخص هندي الجنسية للعمل في الهند بصفة داعية، بأن “موضوع الدعاة التابعين لوزارة الشؤون الإسلامية والاوقاف والدعوة والإرشاد يدرس حالياً من قبل لجنة برئاسة وزارة الخارجية وعضوية كل من وزارة المالية ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشادشكلت بموجب الأمر السامي…” وتطلب الرسالة من الوزير “التريث في تعيين مزيد من دعاة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في الهند حتى صدور التوجيه الكريم حيالهم.”[17]

وكانت صحيفة (The Week) الأميركية قد ذكرت في تقرير لها نشرته في عام 2015 أن أجهزة المخابرات الأمنية الهندية تقول بأن خلال الأعوام 2011-2013 قام 25 ألف رجل دين سعودي بزيارة الهند ومعهم أكثر من 250 مليون دولار أميركي لبناء مساجد وجامعات وعقد ندوات دينية. وتضيف الصحيفة أن الموضوع يتعلق بألوف المؤسسات الناشطة والوعاظ الذين يتحركون في تعزيز التأثير السعودي، وهم يدعون الى الانتماء الى الوهابية أو السلفية.[18]

طاجيكستان

يبدو أن الحكومة الطاجيكية هي الأخرى تنظر بالشك إلى النشاط الديني السعودي على أراضيها.  ففي برقية صادرة من السفارة السعودية في دوشنبه، يلاحظ مدى تخطي المؤسسة الدينية للخارجية السعودية في عملها في الخارج، بالإضافة إلى طبيعة نظرة السلطات الطاجيكية للنشاط الديني السعودي على أراضيها. وتذكر البرقية التي يعود تاريخها الى 15/9/1432 هـ، الموافق 15/8/2011 إلى زيارة قام بها زيد العيص، وهو أحد “الدعاة” السعوديين إلى طاجكستان دون التنسيق مع سفارة بلده في ذلك البلد. وتذكر البرقية صراحة أن “هذا التصرف سيتسبب للسفارة بحرج شديد أمام الحكومة الطاجيكية.”[19] وتضيف السفارة بأنها هي التي ينبغي أن تكون منطلقاً لنشاطه بعد أخذ الموافقات اللازمة. ويبدو أن شبكة النشاط الديني السعودية في طاجكستان كانت تشمل 12 داعية طاجيكي يتبعون وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، منهم 5 دعاة من أعضاء هيئة تدريس جامعة أبي حنيفة الدينية في طاجكستان. ويظهر أن الاستهداف السعودي في تجنيد الدعاة يتحرك في أجواء المؤسسات التعليمية الدينية في البلدان التي تنشط فيها السعودية دينياً. وتضيف البرقية أنها لا تنصح بالبحث عن مدرسة دينية ودعمها لما “لذلك من آثار سلبية والأجدى أن يتم بحث إنشاء مركز ثقافي سعودي في دوشنبه.” وهنا يلاحظ أن السياسة الخارجية السعودية تتحرك بشكل مرن، فهي تسعى لتأسيس أو دعم مدارس دينية وفق الاستراتيجية الدينية، ولكن عند حصول  بعض المعوقات، فإنها سرعان ما تغير خططها لتتحرك لافتتاح ما يسمى مراكز ثقافية سعودية كواجهات بدلاً عن المدارس الدينية، ولكنها تقوم بأداء نفس الدور. وتشير البرقية كذلك إلى أن الحكومة الطاجيكية تخضع الكتب الدينية الى رقابة صارمة سواء على مستوى الطباعة أو الاستيراد من الخارج. وتنصح البرقية بأن لا يتم ارسال كتب من العربية السعودية من التي تصنف “بعدم مناسبتها للتوجه السياسي والديني القائم في طاجيكستان.”

كازاخستان

وتذكر برقية أخرى صادرة عن السفارة السعودية في آستانا، العاصمة الكازاخستانية عن تجاوزات تقوم بها الحكومة السعودية في عملها الديني خارج السياقات والأعراف الديبلوماسية. ويبدو أن الحكومة السعودية في آستانا قررت أن تمارس العمل الديني بشكل غير رسمي، وأن تجعله تحت واجهة مؤسساتية خاصة للملحق الثقافي السعودي محمد العميري، تحت مسمى “الصندوق الخاص بالمركز الثقافي الخيري للملكة العربية السعودية.” وتورد البرقية مذكرة من الخارجية الكازاخستانية تبلغها فيها “أنه لا يحق للمركز القيام بالدعوة الدينية والتعليم الديني.” وقد عبرت البرقية عن الخشية من أن تقوم السلطات بإغلاق المركز في حال استمراره في دعم الأنشطة الدعوية الدينية، الذي يعد مخالفاً للأنشطة المحددة له في نظامه التأسيسي.[20]

سيريلانكا

وفي حالة أخرى، تذكر برقية صادرة عن وكيل وزارة الخارجية للعلاقات الثنائية بأن الحكومة السريلانكية قامت بترحيل 161 “داعية اسلامي” غير سريلانكي يعملون وفق الأجندة الدينية السعودية قدموا إلى سريلانكا بتأشيرات سياحية ولكنهم قاموا بنشاطات دينية خلافاً للقوانين في البلد.[21]

بلجيكا

وتشير برقية أخرى إلى توصية تقدمت بها السفارة السعودية في العاصمة البلجيكية بروكسل، إلى التفاف حول القوانين المرعية هناك، بسبب حساسية دفع أجور “الدعاة” الذين يعملون في المؤسسة الدينية السعودية بشكل نقدي. وتوصي السفارة بأن يتم “تعديل وضع الدعاة الحالي الذين يتقاضون رواتبهم من وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ليكونوا مدرسين بالمدارس، وبالتالي يصبح صرف المكافآت لهم أمر نظامي.” وهنا يلاحظ دور وزارة الخارجية السعودية في توجيه النشاطات الدينية السعودية كي تستمر بالعمل في الساحة بشكل لا يثير الشكوك، ويمنحها مزيداً من الحرية والغطاء القانوني. وتشير نفس البرقية إلى أهمية أن لا تكون لدى السلطات الأمنية البلجيكية أي ملاحظات عليهم. وتؤشر البرقية على وجود حرج سعودي من نوع ما تجاه النشاطات الدينية التي تقوم بها المؤسسة الدينية في بلجيكا، على مستوى دفع الأجور واختيار الأشخاص، وهو أمر تدركه السلطات البلجيكية. يضاف إلى ذلك فإن السفارة في بروكسل تذكر مركزاً بلجيكياً اسلامياً كمؤسسة غير ربحية، ولكنها تتعامل معه كمؤسسة سعودية، مما يشير إلى اعتماد المؤسسة الدينية السعودية جمعيات نفع عام محلية كواجهات مخفية للعمل الديني السعودي في الخارج اذا ما اقتضت الضرورة لذلك.[22]

أوكرانيا

تشير برقية إلى أن جمعية الصراط المستقيم التي كانت تعمل في مدينة اوديسيا الأوكرانية كانت تحظى بدعم من العربية السعودية، أصبحت تتبنى الفكر المتطرف عبر تداولها لأفكار أحد مشايخ المذهب الوهابي السعوديين ووفق كتابه “نقائض التوحيد” الذي أرسل إليها من العربية السعودية وتمت ترجمته إلى اللغة الروسية. ويبدو أن التطرف الذي تبنته الجمعية، قد جذب اهتمام أجهزة الأمن الأوكرانية، التي وجدت فيما بعد أن أعضاءها والعاملين فيها يقومون بتوزيع كتب متطرفة مطبوعة في العربية السعودية، وقد عثر في شققهم متفجرات وقنابل يدوية وصواعق كهربائية وإرشادات لصنع واستخدام العبوات الناسفة. حيث أوصت البرقية بأن توقف السفارة التعامل مع الجمعية حتى “لا يفسر تعامل السفارة معها من قبل السلطات الأوكرانية على أن المملكة تدعم أنشطة الجمعية.”[23]

التوجهات الطائفية

يبدو أن السياستين الدينية والخارجية السعوديتين تصنفان الطيف الشيعي في العالم تحت عنوان “الحركات والمذاهب المناوئة للإسلام، وما يصدر عنها.” وهذا التصنيف لا يمكن أن يكون تصنيفياً عقائدياً بقدر ما هو تصنيف براغماتي يتحرك في أفق المصالح السعودية ومرتكزات العربية السعودية في تعاطيها مع الأحداث والبلدان.

ويلاحظ أن برقيات الخارجية السعودية تكتظ برصد النشاط الشيعي الديني في العالم، وعبر الملحقين الدينيين الذين ينشطون عبر شبكاتهم في تتبع وتوثيق ومواجهة نشاطات الشيعة. ففي برقية أرسلتها السفارة السعودية في العاصمة التايلندية بانكوك، بتاريخ 24/6/1430هـ، 18/6/2009، تقترح السفارة “ضرورة تكثيف الأنشطة الدعوية بكافة أشكالها من إقامة المحاضرات والندوات والدورات التعليمية والتوعية وتثقيف الدعاة لمجابهة النشاط الشيعي المتزايد في تايلند وفي جميع دول جنوب شرق آسيا.”[24]

وتشير برقية أخرى موقعة باسم خالد التويجري، رئيس الديوان الملكي والسكرتير الشخصي للملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز إلى أن أحد الدعاة العاملين في مكتب الدعوة في لندن الذي يتبع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد كان مسؤولاً عن إعداد تقارير عن أنشطة الطائفة الشيعية في بريطانيا.[25]

وتذكر برقية صادرة من السفارة السعودية في كانبيرا، استراليا بتاريخ 11/5/1431 هـ، 25/4/2010 حول الاتحاد الاسترالي للمجالس الإسلامية الذي تصفه البرقية بأنه يحظى بعلاقات مميزة مع السفارة السعودية ومكتب الدعوة وانه “لا يضم في عضويته أي شخصية أو مؤسسة غير منتمية للمذهب السني.” [26]

وتضيف البرقية بأن السفارة لاحظت مؤخراً وجود توجه لدى بعض الشخصيات الشيعية التقرب من قادة الاتحاد عن طريق تبادل الزيارات وحضور الماسبات التي يقيمها الاتحاد. ومن بين ذلك قيام الاتحاد بإقامة مأدبة عشاء على شرف “الشيخ السعودي محمد موسى الصفار.” وتؤشر البرقية بأنها كلفت أحد الدعاة التابعين لوزارة الشؤون الإسلامية باستطلاع الموضوع والتحدث مع رئيس الاتحاد ونائبه “لتوضيح خطأ توجههم وأثره على سمعة الاتحاد لدى المسلمين السنة في استراليا ولدى بعض سفارات الدول العربية والإسلامية.” وتشير البرقية إلى أن يتم العمل على –من بين أمور أخرى- على دعم المدرسة الإسلامية التي تتبع الاتحاد في العاصمة كانبرا وذلك عبر “دعم مجز يتناسب والهدف المأمول منه في احتواء الاتحاد وقطع الطريق على الجهات الأخرى التي تسعى لاستقطاب قياديته بإغراءات مادية ومعنوية.” [27]

وتخلص البرقية إلى أهمية تأييد مقترحات السفارة “لاسيما وأن هناك محاولات من بعض الشخصيات الشيعية للتقرب من قادة الاتحاد الأسترالي للمجالس الإسلامية وحتى يتم قطع الطريق على هذا التقرب.” ويبدو أن المؤسسة الدينية تحركت لإجراء ترتيبات لارسال أحد أئمة الحرم المكي من رجال الدين السعوديين إلى كانبيرا، ووفقاً لمقترح السفارة حسب أحد البرقيات.[28]

وكمثال على رصد الجاليات الشيعية ونشاطاتها في أوروبا، تذكر برقية صادرة عن السفارة السعودية في العاصمة البلجيكية، بروكسل أن عدد الشيعة في بلجيكا يقدر بـ 25 ألف شيعي من جنسيات تركية، مغربية، لبنانية، إيرانية وعراقية. كما ترصد البرقية المراكز الشيعية التي تصف عملها بـ”نشر عقيدتهم الفاسدة.”[29]

ويظهر من هذه البرقية أن تقارير السفارات السعودية في الخارج حول تلك البلدان، تضع أوضاع الشيعة في دائرة اهتمامها وتتعامل معها كأولوية في تقاريرها إلى مرجعياتها الرسمية. مما يؤشر وبشكل مؤسف على مساحة التفكير الطائفي في الأداء الدبلوماسي السعودي. وتشير برقية من السفارة السعودية في نيودلهي إلى تقرير “أعده الملحق الديني بالسفارة عن آخر نشاط للشيعة في الهند وللفترة من شهر نوفمبر 2011 إلى نهاية شهر يناير 2012.”[30]

رجال دين وحصص حج

تركز المؤسسة الدينية السعودية على ارسال مجموعة من رجال الدين السعوديين الى الخارج وفق استراتيجيتها الدعوية. ويمكن القول أن هذه الاستراتيجية تتحرك في أفق صناعة رجال دين معروفين على الصعيد الإسلامي ووفق خطط إعلامية. ويتم إيفاد أئمة الحرم المكي كعبدالرحمن السديس أو سعود الشريم أو ماهر المعيقلي لبعض البلدان. كما أن عائض القرني ومحمد العريفي يعدان من رجال الدين السعوديين المدعومين بقوة للتجوال عبر عواصم العالم، ويحظيان بتغطية إعلامية مميزة. وتشير برقية موقعة من قبل سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي السابق إلى أن زيارة قام بها الدعاة السعوديون إلى مصر يتقدمهم العريفي والقرني في عام 2013 قد نجحت في خلق مناخ إيجابي مؤيد للسعودية في الأوساط الدينية والإعلامية المصرية.[31]

وتقوم العربية السعودية وبالتعاون بين وزارة الشؤون الإسلامية ووزارة الخارجية بتطبيق سياسة تأشيرات حج المجاملة. وهي تعني تخصيص حصص تصل إلى عشرات الآلاف على سفراء العربية السعودية في الخارج وفق ما تراه وزارة الخارجية كصلاحية مطلقة لها[32]. ومن الممكن أن تتحرك تأشيرات حج المجاملة في أفق التأثير السعودي على الجاليات المسلمة في العالم وفق الاستراتيجية الدينية التي تقوم بتنفيذها المؤسسة الدينية السعودية في الخارج. ويبدو من خلال بعض البرقيات أن السفارة السعودية قد منحت 15 تأشيرة حج إلى مفتي جمهورية طاجيكستان عام 2011.

الاستنتاج

  • هنالك تكامل عضوي بين السياستين الخارجية والدينية السعوديتين. وتعد النشاطات الدينية السعودية التي تحمل النهج السلفي والوهابي ذات الصبغة الطائفية في أرجاء العالم جزءً هاماً من أدوات التأثير ومد النفوذ السعودي في الخارج. وعلى الرغم من وجود أزمات تتعرض لها النشاطات الدينية السعودية في الخارج، أو خروقات تسجلها تلك النشاطات على المستوى الدبلوماسي، إلا أن اندماج الاستراتيجية الدينية وتداخلها مع السياسة الخارجية السعودية باعتبارها أداة مهمة من أدواتها يجعل وزارة الخارجية السعودية وعلى أعلى مستوياتها تعمل على تسهيل عمل تلك النشاطات، وتتدخل لوضع مسارات موازية للقضايا التي تجعل تلك النشاطات في وضع حرج، بل ونراها تعطي توصيات وحلول قانونية ودبلوماسية لبعض المشاكل التي تواجهها المؤسسة الدينية في عملها، بل وتوفر لها غطاء غير ديني في بعض الأحيان كي تستمر في ممارسة نشاطاتها الدينية في الخارج.
  • النشاطات الدينية السعودية في الخارج تعمل وفق أسس براغماتية وليست عقائدية. ويلاحظ أن النشاطات الدينية السعودية في الخارج تعمل بشكل مواز ومنفصل عن بعض النشاطات غير الدينية والخارجة على تعاليم المؤسسة الدينية في السفارات السعودية.
  • تلعب الملحقيات الدينية التي تتبع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، دوراً هاماً في توجيه وادارة النشاطات الدينية وتجنيد الأفراد.
  • يتنوع النشاط الديني السعودي في الخارج حسب طبيعة البلدان التي ينشط فيها، وحسب الأهداف التي تسعى العربية السعودية الى تحقيقها في تلك البلدان. فتارة تأخذ شكل بناء مساجد ومدارس، وأخرى تأسيس مراكز ثقافية، ونشاطات خيرية وإغاثية، ومسابقات قرآن، وبعثات دراسية، وتجنيد دعاة وإرسال رجال دين وتوزيع مصاحف وكتب دينية وتوفير تاشيرات حج.
  • تنظر بعض البلدان بعين الشك والريبة تجاه النشاطات الدينية على أراضيها.
  • يسيطر التفكير الطائفي على عقلية صانع القرار والموجه للسياسات الخارجية والدينية في العربية السعودية. وهنالك تحرك قوي لمواجهة الشيعة في العالم، مما يجعل المراقبين يعتقدون بأن العربية السعودية تتعامل بعداء مفرط مع أي وجود شيعي في العالم.
  • في العربية السعودية هنالك مؤسسات متخصصة بإعداد “الدعاة” للعمل في الخارج، ومن أهمها الجامعة الإسلامية في المدينة. ويحصل خريجو هذه الجامعة على أولوية في تعيينهم كدعاة يعملون لصالح الحكومة السعودية في الخارج.

المصادر :

[1] http://articles.latimes.com/2003/may/10/local/me-deport10

[2] http://www.nytimes.com/2016/06/18/world/middleeast/saudi-arabia-sept11-classified-28-pages.html?_r=0

[3] www.moia.gov.sa

[4] www.moia.gov.sa

[5]  التقرير السنوي لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في العام المالي لعامي 1425/ 1426 و 1428/ 1429 هــ

[6]  سعود الحواس، الشؤون الإسلامية: الأعداء ينسبون الإرهاب لأهل السنة والسلفية، صحيفة اليوم، 4/1/2016

[7] http://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525/

[8] المواطن نت، مدير الدعوة بالخارج: المملكة تحمل على عاتقها خدمة المسلمين بأقطار الدنيا، 1/6/2016

[9]  – وزارة الخارجية السعودية، الدور المتوقع من وزارة الخارجية في تنفيذ استراتيجيات ومهام وخطط الشركاء فيما يتعلق بالعمل الخارجي، موقع ويكيليكس الوثائق السعودية.

[10] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc65761.html

[11] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc18137.html

[12] برقية صادرة عن وزارة الخارجية، رقم السجل 7000873872، رقم البرقية 7/2/1/، التاريخ 16/6/1433 هـ

[13] وزارة الداخلية، مساعد الوزير للشئون الأمنية، تاريخ الصادر 9/6/1433.

[14] https://forum.wikileaks.org/saudi-cables/doc99457.html

[15] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc80117.html

[16] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc104146.html

[17] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc9667.html

[18] How Saudi Arabia exports radical Islam,  The Week, August 8, 2015

[19] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc96427.html

[20] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc67446.html

[21] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc776.html

[22] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc32757.html

[23] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc76461.html

[24] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc15899.html

[25] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc73128.html

[26] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc11635.html

[27] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc4709.html

[28] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc43530.html

[29] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc38984.html

[30] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc21318.html

[31] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc14509.html

[32] https://wikileaks.org/saudi-cables/doc45580.html