ياسين مجيد ، كاتب وباحث في الشؤون الإقليمية
لم يحدث أن شهدت المنطقة العربية في تأريخها الحديث ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تأسيس حلف عسكري تشارك فيه 34 دولة مثل الذي أعلن عنه ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير محمد نجل ملك السعودية من حيث الشكل والمضمون فضلا عن الطريقة التي تم فيها الإعلان عن الحلف العسكري الذي أعاد إلى أذهان الكثيرين بيانات رقم واحد التي تعلن عن وقوع الانقلابات العسكرية التي شهدتها الدول العربية خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات .
كما سيثبت في تأريخ المنطقة أيضا إن الحلف العسكري الذي تم إعداده باستعجال أو كما يقال تم طبخه على (نارين) يكشف في واقع الحال عن الرغبة السعودية الجامحة لتحقيق انجازات شكلية وإعلامية للتغطية على عمق الهزيمة والأزمات الخانقة التي تواجه السعودية داخليا وخارجيا ، فقد استعان السعوديون بملفات وسيناريوهات أرشيفية مضى عليها أكثر من نصف قرن وثبت عجزها وفشلها في معالجة مشاكل وأزمات أقل خطورة مما يجري الآن في المنطقة ، فالحلف العسكري الإسلامي هو في الواقع نسخة مكررة للحلف الإسلامي الذي أعلن عنه أثناء إدارة الرئيس الأميركي الأسبق إيزنهاور وترافق مع حلف بغداد بمرجعية تركيا وإيران الشاه والعراق الملكي أثناء حكم نوري السعيد والذي كان يهدف بالدرجة الأساس إلى محاصرة نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والإطاحة بنظام الحكم في سوريا ومواجهة التمدد السوفيتي ، كما ان الحلف الإسلامي السابق لم يضع إسرائيل في حساباته تماما كما هو حال الحلف الجديد.
مما يعزز القناعة بأن الحلف الجديد قد ولد من رحم الهزائم التي تحاصر السعودية بشكل لم يسبق له مثيل منذ تأسيس المملكة ، عودة المملكة إلى سياسة الأحلاف التي لم تعمر طويلا ، فقد أعلنت السعودية بعد سقوط نظام حكم الرئيس المصري محمد مرسي عن تأسيس قوة عربية مشتركة انسجاما مع اتفاقية الدفاع العربي المشترك ، لكن السعودية وبعد ان لاحظت إن مصر تتبنى وجهة نظر مختلفة بشأن الأزمة السورية تراجعت عن القوة العربية المشتركة التي كانت تراهن عليها مصر في بداية عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي لمحاربة الإرهاب في ليبيا التي تعد الخاصرة الضعيفة للأمن القومي المصري وليس الحرب في سوريا وهو ما أدى إلى ان تتحول القوة العربية المشتركة إلى إحدى نقاط الخلاف الجوهرية بين مصر والسعودية التي ترفض أن تكون محفظة نقود في جيب الجنرال السيسي.
وبعد الإعلان عن القوة العربية المشتركة التي عدت في ذلك الوقت بمثابة (عصا) بيد محور الاعتدال بزعامة السعودية لتهديد المحور الإقليمي الآخر بزعامة إيران ، جاء إعلان السعودية عن تحالف عسكري جديد بالتزامن مع إعلان الحرب على حركة أنصار الله والموالين للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح ، وقد ضم الحلف الثاني دولا متخاصمة سياسيا مثل مصر وتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة ، ولم يبق مع السعودية في الحلف الثاني سوى دولة الإمارات وقطر في حين ظل باقي الحلفاء يتفرجون عليها وهي تواجه الهزائم العسكرية المتلاحقة على يد شعب يعد من بين أفقر شعوب العالم اقتصاديا لكنه يعرف جيدا كيف يمرغ أنوف الغزاة على مر التاريخ ، فالسعودية التي ذهبت تطلب قرونا في اليمن وإعادة الحديقة الخلفية إلى بيت الطاعة السعودية وتعزيز دورها الإقليمي قد قطعت أذناها ولم تعد قادرة على كيفية الخروج من المستنقع اليمني والحفاظ على ما تبقى من الهيبة السعودية المفقودة بعد ان عجزت عن تحقيق أي من الأهداف التي أعلنتها مع بدء حرب عاصفة الحزم .
ومن خلفية الارتباك وفقدان التوازن في السياسة الخارجية السعودية بشكل لم يسبق له مثيل منذ تأسيس المملكة ، جاء إعلان السعودية عن تشكيل الحلف العسكري الإسلامي الذي كشف عن مدى خطورة الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها السعودية وعدم الاستفادة من أخطاء الأحلاف السابقة والمتغيرات الدراماتيكية التي تحدث في المنطقة ، فعلى خلاف الولايات المتحدة التي قامت بحملة دبلوماسية وسياسية وإعلامية شارك بها الرئيس الأميركي شخصيا قبل الإعلان عن تشكيل التحالف الدولي في العام الماضي ، فقد ارتكبت السعودية عددا من الأخطاء القاتلة في إعلانها عن الحلف العسكري الإسلامي إذ لم يتم التشاور مع جميع الدول المشاركة في الحلف الكبيرة منها والصغيرة ، وبما يمثل انتهاكاً لسيادة هذه الدول التي وجدت نفسها في حلف عسكري لا تعرف عنه شيئاً ، باستثناء مصر التي زارها وزير الدفاع السعودي وقدم للحكومة المصرية رشوة سياسية تعد متواضعة جدا في مقابل الثمن الباهظ الذي يفترض ان تدفعه مصر حين تنضوي كليا تحت الزعامة السعودية عسكريا وسياسيا وهو أمر من الصعب جدا ان تقبله مصر على الرغم من حاجتها الماسة للمساعدة الاقتصادية وهو ما يمثل الخطأ القاتل الأول الذي ارتكبته السعودية بالإعلان عن مشاركة مصر في الحلف العسكري ، فمصر التي لم تشارك إلا بشكل رمزي في حرب اليمن لا يمكن بأي حال ان تنظم في حلف عسكري وتسفك الدم المصري مقابل نفط لسنوات معدودة .
وجاء الخطأ القاتل الثاني الذي ارتكبته السعودية حين قام وزير الدفاع السعودي بإبلاغ رئيس الحكومة اللبنانية صائب سلام تلفونيا بعضوية لبنان في الحلف المنشود ، صحيح إن لبنان دولة صغيرة ولا يمكن مقارنتها بمصر، لكن الصحيح أيضا ان اتخاذ القرارات المهمة في لبنان هو أكثر تعقيدا من أية دولة عربية وإسلامية أخرى ، بعدها جاء الخطأ القاتل الثالث باعتذار ماليزيا وإعلان باكستان عن دهشتها بالعضوية في حلف عسكري ليس لها علم به ولم يتم التشاور معها بشأنه ، علما أن باكستان كانت قد اعتذرت عن المشاركة في الحلف السعودي الذي تقوده السعودية في الحرب ضد اليمن ، وتوالت الأخطاء القاتلة تباعا حين استثنت السعودية دولتين هما العراق وسوريا من المشاركة في الحلف العسكري لمحاربة الإرهاب مع إنهما الساحتان الأساسيتان التي تدور على أرضيهما الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي وشقيقاته ، وما يزيد في الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها السعودية ، هي انه وفي مقابل استبعاد العراق وسوريا من الحلف العسكري يتم وضع تركيا وقطر المتهمتين من جانب مصر أولا والعراق وسوريا ثانياً بدعم الجماعات الإرهابية وتمويلها، والأكثر من ذلك إن تركيا التي تضعها السعودية في الحلف العسكري تواجه اليوم عزلة سياسية قاسية وغير مسبوقة بسبب الفضيحة الكبرى التي تتعرض لها على مستوى العالم بعد ان تبين للرأي العام العالمي حجم المساندة المتعددة الأشكال التي تقدمها تركيا للتنظيمات الإرهابية وفي المقدمة تنظيم داعش لتحقيق غايات سياسية ، على أن من بين الأخطاء القاتلة الكبيرة التي وضعت الحلف الإسلامي في دائرة التهكم والاستهزاء هي مشاركة ثلاث دول تعد الغالبية العظمى للسكان فيها من غير المسلمين وهي أوغندا والغابون وبنين ، اللهم إلا إذا كان المشروع السعودي يستهدف جلب مرتزقة من هذه الدول الثلاث يقاتلون في صفوف الحلف الإسلامي على غرار ما يجري الآن من استقدام مرتزقة من كولومبيا وشركة بلاك ووتر للقتال في اليمن إلى جانب التحالف العربي الذي تقوده السعودية ؟
ما يزيد القناعة بأن الحلف العسكري قد كشف عن حالة التخبط والاستعجال لدى السلطات السعودية من أجل كسب انتصارات وهمية هو عدم إدراكها لما يجري من تفاهمات سياسية دولية وإقليمية بشان الأزمة السورية ومحاولة السعودية الهروب إلى الأمام من خلال طرح مشاريع لم تعد تتناسب مع المرحلة الحالية التي تشهد صفقات سياسية ستكون السعودية من بين الخاسرين الكبار فيها ، فقد جاء الإعلان السعودي عن الحلف العسكري بعد اجتماع المعارضة السورية في الرياض وبالتزامن مع اجتماع جنيف بشأن الحرب اليمنية الذي يبدو انه قد زاد في الوهم لدى السعودية بأنها أصبحت تمسك بأوراق مهمة في لعبة الصراع الإقليمي .
لكن الحلم السعودي لم يدم طويلا ، فقد تلاشى بسرعة وتحول إلى سراب بعد التفاهم الروسي الأميركي أثناء زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشان الأزمة السورية وتكرس بشكل عملي في اتفاق الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي الذي وضع خارطة طريق لحل الأزمة السورية نسفت جميع الآمال التي كانت تراود مخيلة المحور الثلاثي التركي القطري السعودي ، كما وضع اتفاق الدول الدائمة العضوية في نيويورك علامات استفهام كبرى بشأن مستقبل الحلف العسكري السعودي الذي أصبح في مهب الريح بعد اقل من أسبوع من الإعلان عنه .
وإذا كان التحالف الدولي الذي أعلنت الولايات المتحدة عن تشكيله في العام الماضي ويضم 65 دولة بينهم دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا قد تحول إلى نكتة بعد ان تبين ان إستراتيجية التحالف الدولي هي (لاحتواء) وليس (القضاء) على داعش ، فكيف يكون حال التحالف العسكري الذي تقوده السعودية المتهمة أصلا بأنها تمثل الحاضنة الأيدلوجية والداعم الأساس ماليا وتسليحيا ولوجستيا لأخطر التنظيمات الإرهابية في المنطقة والعالم ؟ ان الإعلان عن الحلف العسكري السعودي في ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها الحرب ضد الإرهاب بعد التدخل العسكري الروسي يعكس ما كانت تروج له بعض المؤسسات الأميركية والغربية بشأن ضرورة وجود قوة برية سنية تقاتل تنظيم داعش في سوريا والعراق والتي طالما تحدث عنها الرئيس الأميركي باراك أوباما وعدد من أركان إدارته ، وبما يعني ان الحلف العسكري السعودي هو في واقع الحال (نسخة إقليمية) للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لتحقيق أهداف سياسية وبما قد يمهد الطريق لتكرار سيناريو حرب عاصفة الصحراء عام 1991 التي أخرجت قوات النظام العراقي السابق من الكويت .
ووفقا لهذه الرؤية فان الحلف العسكري سيوفر القوة البرية السنية لمقاتلة داعش على غرار ما حدث مع صدام حسين في الكويت ولكن بطريقة مقلوبة ، فإذا كانت القوات البرية الأميركية قد شكلت العمود الفقري لقوات التحالف الدولي ومن بينها قوات مصرية وسورية وسعودية ومغربية التي ساهمت في تحرير الكويت ، فان القوات البرية السنية المنضوية في الحلف العسكري السعودي تحت الزعامة الأميركية ستتولى عملية تحرير الأراضي التي سيطر عليها داعش في سوريا والعراق ، وهو السيناريو الذي تفاعلت معه بعض القوى السياسية السنية في العراق التي كانت قد أعلنت عن رغبتها بان تمتد عملية عاصفة الحزم السعودية في اليمن إلى العراق .
وبعيدا عن مدى مصداقية مثل هذه السيناريوهات التي تبدو أنها اقرب للخيال منه إلى الواقع ، فإنها تكشف في الوقت ذاته وبشكل واضح عن حالة الفوضى وغياب الرؤية الإستراتيجية لدى السعودية وبما يدفعها للإعلان عن تشكيل حلف عسكري لم تتوفر فيه مستلزمات النجاح فضلا عن كونه قد تحول إلى عبئ سياسي ثقيل تنوء به السياسة الخارجية السعودية وستكون له تداعيات خطيرة في المستقبل القريب ، صحيح ان الاتهامات التي تتعرض لها السعودية بشكل شبه يومي في وسائل الإعلام الغربية وخصوصا الأميركية والبريطانية بتمويل المنظمات الإرهابية وتسليحها، تؤثر بدرجة كبيرة على صنّاع القرار في السعودية الذين يحاولون استرضاء الدول الغربية بالإعلان عن الحلف الإسلامي لمحاربة الإرهاب ، لكن الصحيح أيضا ان السعوديين لم يدركوا حتى الآن ان مثل هذه المشاريع الاستعراضية لن تكسبهم الأصدقاء وإنها ستؤشر على ان السعودية فقدت توازنها المعهود وبدأت تتصرف بطريقة اقل ما يقال عنها أنها ارتجالية ، ففي الوقت الذي تقوم فيه واشنطن بقيادة تحالف يضم دولا عربية وإسلامية ومسيحية وتتحالف روسيا الارثدوكسية مع إيران الإسلامية لمحاربة الإرهاب ، تعلن السعودية عن تحالف لا يمكن إلا ان يوصف بأنه حلف طائفي وانه قد يتحول إلى أداة لتمزيق العالم الإسلامي من خلال استثناء دول أساسية تخوض حربا حقيقية ضد الإرهاب مثل العراق وإيران وسوريا ، وبما يعزز القناعة لدى الكثيرين بان السياسة الخارجية التي تتحرك بداينمو طائفي تسعى من وراء هذه الأحلاف تقوية الدور الإقليمي للسعودية في مقابل إيران .
إن حالة الغموض التي تكتنف الحلف ساهمت بدرجة كبيرة في فشل السعوديين حتى الآن في إقناع حلفائهم وأصدقائهم فضلا عن خصومهم بجدية الحلف في محاربة الإرهاب ، وليس غموض الآليات والأهداف هو من يثير الشكوك وعلامات الاستفهام بشأن الحلف السعودي إنما الرؤية السعودية للإرهاب التي تختلف بشكل جوهري مع كثير من دول المنطقة والعالم في تعريف الإرهاب والإرهابيين ، فعلى سبيل المثال فان من يسب الملك السعودي يعد إرهابيا كما ان حركات المقاومة لإسرائيل تعد إرهابية !
ما يثير الدهشة والاستغراب هو أن السعودية تتوقع ان يكون لها دور أو أن تحجز لها مقعدا بين الدول الكبرى والإقليمية في صناعة خارطة سياسية جديدة للمنطقة من خلال إعلان الحلف الإسلامي العسكري باعتبار ان الحلف سيضع السعودية – زعيمة العالم الإسلامي – في الصف الأول بين دول العالم التي تتصدى لمحاربة الإرهاب دون ان تعرف إنها ستكون المملكة التي ستغيب عنها الشمس في ظل الهزائم السياسية الكبيرة التي تواجهها على الصعيد الإقليمي إلى جانب تفاقم صراع الأجنحة بين أقطاب العائلة السعودية والأزمة الاقتصادية الخانقة وتعاظم ظاهرة التطرف في المجتمع السعودي الذي يؤيد بغالبية كبيرة تنظيم داعش ، وهذه عوامل قد تؤدي في وقت قريب إلى حدوث انفجار اجتماعي خطير .