إن وصول العراق لاستقرار طويل الأمد في منطقة الشرق الأوسط لهو أمر صعب التحقيق، إذ يتطلب التزاماً قوياً من القادة السياسيين العراقيين بتطوير نظام اقتصادي ومالي مستدام قادر على استيعاب الصدمات المستقبلية للبلاد. وقد واجهت الحكومة العراقية -بعد أن سقطت عدة محافظات عراقية تحت سيطرة تنظيم داعش في عام 2014- تحدي استرجاع الأراضي المغتصبة من الإرهابيين، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمة مالية تعكر صفو الحملات العسكرية في مكافحة الإرهاب. وفي الوقت الذي تراجعت فيه أسعار النفط التي من غير المحتمل أن تصل -كما هو سابقاً- إلى 100 دولار للبرميل الواحد، كان تركيز صناع القرار ينصبّ حول محاولة إيجاد سبل للسيطرة على الإنفاق العام من أجل استيعاب الانخفاض الحاصل في عائدات النفط. ويتمثل محور هذا التحدي في الحاجة إلى مراقبة الزيادة الحاصلة في موازنة رواتب الموظفين وتعويضاتهم في القطاع العام من أجل إعادة توجيه الإنفاق نحو الاستثمار الرأسمالي والخدمات الاجتماعية التي يكون فيها العراق بأمس الحاجة إليها للتعامل مع أولويات البلاد الملحة ما بعد الحرب.

وتمثل موازنة تعويضات الموظفين العنصر الوحيد الأكبر من إجمالي الإنفاق في خزانة الدولة، إذ أظهر تحليل لمخصصات الموازنة في تغطية تعويضات الموظفين منذ عام 2003 نمواً غير مستدام؛ مما ينطوي عليه عبء طويل الأمد على الاستقرار المالي. ومع ارتفاع أسعار النفط والعوائد الحكومية، ارتفعت كذلك رواتب الموظفين ومخصصاتهم.

         لقد بلغ متوسط الإنفاق الحكومي في العراق -على وفق البنك الدولي- 52% من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2005 و2012؛ مما يجعله من بين أعلى المعدلات في المنطقة. وفي الوقت نفسه، بلغ متوسط موازنة تعويضات الموظفين في القطاع العام بين عامي 2005 و2010 ما نسبته 31% من إجمالي الإنفاق أو 18% من الناتج المحلي الإجمالي. في حين قُدِّر عدد الوظائف في القطاع العام في عام 2003 بـ 1.2 مليون وظيفة، بالمقابل أشارت إحصائيات إلى أنه في عام 2015 وصلت أعداد الوظائف إلى الذروة إذ تجاوزت 3 ملايين وظيفة.

وللتقليل من الإنفاق الحكومي على التعيينات، قامت الحكومة العراقية بخطوة نحو التجميد الجزئي للتعيينات الحكومية في عام 2016. ومع وجود بعض الاستثناءات للقطاعات الأساسية والمهمة مثل قطاع الصحة، عُلّقت الوظائف الجديدة في الحكومة؛ ونتيجة لذلك، انخفض العدد الإجمالي لوظائف القطاع العام -كما هو محدد في الميزانيات الاتحادية المتتالية- من 3.03 مليون وظيفة في عام 2015 إلى 2.89 مليون وظيفة في عام 2018. ويكشف تحليل للتعيينات في كل قطاع عن انخفاض كبير في أعداد الوظائف في القطاع العسكري والأمني، في حين أن النمو في أعداد الوظائف في كل من قطاع التعليم العالي والنفط قد توقف تماماً.

  2018 2017 2016 2015 2013 2012 2011
المجموع 2885716 2885834 2905226 3027069 2907776 2750322 2662608
وزراة الداخلية 587011 594991 595000 669798 661914 639485 632760
 وزارة الدفاع 288242 292327 305000 362331 322297 306614 306475
 وزارة التعليم العالي 116160 116356 117609 105864 102832 99142 97439
 وزارة النفط 2216 2125 2125 2120 1793 1327 1156
إقليم كردستان العراق 682021 682021 682021 679939 677528 662444 650849

جدول يوضح: أعداد الوظائف في القطاع العام المدرجة في الموازنة، استناداً إلى تحليل الباحث للمخصصات ضمن الميزانيات الاتحادية السنوية المتتابعة بين الأعوام 2011 و2018.

انخفض إجمالي عدد الموظفين المدرجين في الموازنة في وزارة الداخلية بنسبة 12% مماثلةً بعام 2015، في حين شهدت وزارة الدفاع انخفاضاً قاسياً أكبر، إذ انخفض عدد موظفيها بنسبة 20% خلال المدة نفسها؛ ويمكن أن يرجع سبب هذا الانخفاض الكبير إلى عدد من العوامل، من بينها اجتثاث الموظفين الوهميين أو ما يسمى بـالموظفين “الفضائيين”، فضلاً عن الخسائر الناجمة عن الحرب مع داعش الإرهابي، والتقاعد القسري لكثير من كبار الضباط؛ ونتيجة لذلك، أصبح التأثير على الإنفاق المتكرر جديراً بالملاحظة. وفي وزارتي الداخلية والدفاع انخفض الإنفاق المدرج في الموازنة بنسبة 6.5% و15% على التوالي بين عامي 2017 و2018.

لقد ازدادت أعداد الوظائف في قطاع اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﺎﻟﻲ بمقدار 20% ﻣﻨﺬ ﻋﺎم 2011، ﻣﻊ وجود بعض التخفيض في مجمل أعداد الوظائف في هذا القطاع منذ تطبيق قرار تجميد التعيينات. وفي الوقت نفسه، أدى الاستثمار المستمر في صناعة النفط إلى تضاعف عدد موظفي وزارة النفط (من غير احتساب موظفي الشركات المملوكة للدولة) خلال السنوات السبع الماضية.

أما ما يخص إقليم كردستان، فقد شكَّل تقليص حجم القوى العاملة في القطاع العام صعوبات كبيرة، فعلى الرغم من تطبيق حكومة الإقليم البيانات البايومترية للتعامل مع مشكلات الموظفين “الفضائيين” والموظفين الذين يعملون في أكثر من قطاع حكومي، غير أنه لم ينخفض إجمالي الموظفين المدرجين في موازنة الإقليم ضمن الموازنة الاتحادية إذ بقي ثابتاً منذ عام 2016 عند أكثر من 682 ألف موظف. وإنه من الضروري على حكومة إقليم كردستان الحد من التفاوت في موازنة تعويضات الموظفين؛ لأن موظفي الإقليم يمثلون حوالي 24% من القطاع العام العراقي، في حين أن نصيبهم الحالي من الموازنة الاتحادية على أساس النسبة السكانية للعراق عموماً يصل إلى أقل من 13%.

ويشير التخفيض الحاصل في أعداد الوظائف على مستوى الدولة في القطاع العام إلى أن الرواتب الحكومية لعام 2018تشكل نسبة 33.4% من إجمالي الموازنة الاتحادية للعام الحالي مقارنة بالعام الماضي إذ كانت بنسبة 35.5%، وعلى الرغم من الانخفاض الملحوظ بالنسبة، لكن هذا الرقم ما يزال مرتفعاً للغاية، وباحتساب المعاشات الحكومية والرعاية الاجتماعية فإن نصف موازنة الحكومة تذهب على شكل منح ومعونات نقدية.

وبطبيعة الحال، تتمثل أكبر عقبة أمام إعادة هيكلة موازنة تعويضات الموظفين في عدم وجود مناخ سياسي مواتٍ، إذ عكَس الخطاب الانتخابي من قبل الأحزاب السياسية المتنافسة بشأن الوظائف الحكومية، عدم رغبة الشارع العراقي لأي انخفاض حقيقي لأعداد الموظفين ورواتبهم في القطاع العام. وروجت الحملات السلبية في الإعلام بأن الحكومة الحالية كانت تنوي خفض رواتب القوات المسلحة، لكن سرعان ما نفت الحكومة وبشدة وجود مثل هذا الأمر. وبالنظر إلى طبيعة المفاوضات على تشكيل الحكومة التي طال أمدها، فإنه من غير المحتمل أن يتحقق أي تقدم كبير خلال هذا العام، ومع ذلك، فإن التزامات العراق تجاه الجهات المقرضة الدولية -بما في ذلك اتفاقية الاستعداد الائتماني التابعة لصندوق النقد الدولي- ينبغي أن توفر حافزاً كافياً للحكومة العراقية بالبقاء على المسار الصحيح.

وأخيراً يجب أن تتبع الحكومة العراقية نهج المسار المزدوج الذي يشمل الإصلاحات التشريعية والبيروقراطية، إذ يعود تأريخ التشريع الحالي الذي يحدد مرتبات القطاع العام إلى عام 2008. وهناك حاجة إلى مراجعة شاملة لضمان أن تخضع أجور الموظفين وتعويضاتهم لرقابة صارمة، وأن تُستكمل إجراءات التوظيف عبر مجلس الخدمة الاتحادي. وفضلاً عن ذلك، فإن تحديث بيروقراطية العراق من خلال اتّباع نهج الإدارة المالية العامة (PFM) سيكون أمراً حاسماً، ليس فقط لتعزيز الرقابة على الإنفاق في بغداد ولكن أيضاً لمساعدة السلطات المحلية في تجاوز أوجه الغموض بشأن اللامركزية في السنوات المقبلة.