يبدو أن القيادة الجديدة للعربية السعودية قد  بدأت تضغط  وبشكل اكثر قوة باتجاه قرارات تستخدم العسكرة كأداة من أدوات سياستها الخارجية في المنطقة. وبغض النظر عما ستؤول إليه تلك القرارات، إلا أنه من المؤكد أن وضعاً جديداً بدأ ينشأ بفعل هذه القرارات قد ينقل المنطقة الى حافة صراع سياسي وعسكري جديد متعدد الأطراف، ستطول آثاره العراق على المدى القريب والمتوسط.

كتب نواف عبيد، أحد المستشارين السياسيين للعائلة الحاكمة في العربية السعودية مقال رأي في صحيفة واشنطن بوست عام 2006، وتحت عنوان “الدخول الى العراق” *، كشف من خلاله بعض الأفكار التي كانت تدور في بال الجناح المتشدد في العائلة الحاكمة. ومن هذه الأفكار التوظيف للطائفية المتشددة، والاستعداد للاقدام على تدخل واسع في العراق لحماية الأقلية السنية فيه  ضد الشيعة، بما في ذلك تأسيس ألوية سنية بدعم وتسليح سعودي مباشر لمقاتلة ما أسماها الميليشيات الشيعية، وإن أدى ذلك الى إشعال لهيب حرب مستعرة في المنطقة. كما طرح استخدام النفط كوسيلة لالحاق الهزيمة بالنفوذ الإيراني في العراق والحفاظ على ما أسماه “مصداقية العربية السعودية” في العالم الاسلامي كقائدة للعالم السني. وقد اعترف عبيد حينها بأن الأمراء الشباب في العائلة الحاكمة يرغبون بأن تستخدم العربية السعودية عضلاتها لفرض هيبتها في المنطقة. كلف المقال عبيد وظيفته بالاضافة الى وظيفة السفير السعودي في واشنطن آنذاك، الأمير تركي الفيصل. ويبدو أن الاستراتيجية تم تاجيلها إلى حين.

على الرغم من قدم المقال، إلا أن أفكار عبيد في المقال السابق ومقالتيه التي نشرهما مؤخراً في كل من صحيفتي الواشنطن بوست في 26/3/2015* بعد تسلم العاهل السعودي مقاليد الحكم، والديلي تلغراف في 5/5/2015* في يوم انعقاد القمة التشاورية لزعماء بلدان  مجلس التعاون الخليجي في الرياض بحضور الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، قد تعكس حقيقة ما يفكر فيه صاحب القرار السعودي تجاه الأوضاع في المنطقة والعالم. ويمكن تلمس بعض تفاصيلها بوضوح في مظاهر سلوك العربية السعودية الحالي وفق ما يطلق عليه عبيد “المفهوم الدفاعي الجديد” للعربية السعودية.”

بعد التغييرات الدراماتيكية التي شهدتها القيادة السعودية، يبدو أن العربية السعودية بدأت تنتهج سياسة أكثر تشدداً واقتحامية لتحقيق هدف معلن هو مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة والذي بدأت تشعر بالقلق حياله بشكل أكبر من قبل. ويبدو أن التحرك السعودي يأخذ عدة أبعاد. البعد الذاتي من خلال اتخاذ قرارات في تشكيلة القيادة السعودية الجديدة، وتشكيل قوة متعددة الجنسيات تحت قيادتها دخلت في معركة ضد الحوثيين في اليمن، وقرار التسريع في تشكيل منظومة أمن اقليمي في منطقة الخليج تحت قيادة العربية السعودية رغم الصعوبات التي قد تواجهها في ذلك، وقرارات تعاون جديدة مع تركيا لتسليح ودعم المعارضة السورية بشكل متسارع لاسقاط نظام بشار الأسد.  ويبدو أن ملامح توقيع اتفاق نهائي بين الغرب وإيران في المجال النووي قد زاد من قلق السعوديين وسرّع من خطواتهم التي يبدو أنها باتت ترسم على عجل.

التعاون مع الولايات المتحدة

سيتوجه ملوك وشيوخ وأمراء بلدان مجلس التعاون الخليجي مجتمعين إلى كامب ديفيد لعقد لقاء مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في 14/5/2015. ويبدو أن الرئيس الأميركي سيحاول التخفيف من مخاوف الزعماء الخليجيين، وعلى رأسهم العربية السعودية من التأثيرات التي قد يتركها الاتفاق النووي مع إيران. ومن المتوقع أن يتناول هذا اللقاء أيضاً الوضع السوري، والعراق، وقضايا أخرى. ويتوقع كذلك أن تطلب تلك البلدان المزيد من الدعم العسكري والأمني من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى طلب ضمانات لاستقرار أنظمتها السياسية في منطقة تشهد توترات سياسية خطيرة. وستسعى العربية السعودية الى الحصول على مباركة الولايات المتحدة لقيادة المنظومة الأمنية الإقليمية لمواجهة إيران في المنطقة. وليس خافياً أن كل بلدان مجلس التعاون ترتبط، كلاً على حدة بمعاهدات سرية للتعاون الاستراتيجي على المستويين الأمني والعسكري مع الولايات المتحدة. وتضع هذه البلدان العلاقة مع الولايات المتحدة كجزء مركزي في سياساتها الأمنية والدفاعية، بل والخارجية أيضاً. كما تنسق هذه البلدان مع الولايات المتحدة التعاون الأمني والعسكري ضمن ما يطلق عليه “الحوار الدفاعي بين مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة” وهو منظومة أمنية-عسكرية تتبنى من خلالها واشنطن توفير الدعم والحماية لبلدان الخليج العربية. حيث تعمل هذه المنظومة على تأمين تواجد عسكري أميركي في قواعد في تلك البلدان، ومن ذلك تواجد ما يقارب 35 ألف جندي أميركي في منطقة الخليج، والاسطول الخامس الأميركي، بالإضافة إلى أحدث الطائرات المقاتلة ومعدات التجسس والمراقبة الأكثر حداثة، وتنسيق مبيعات الأسلحة الأميركة إليها. وتشير بعض الدلائل إلى أن هذا الاجتماع سيمثل مرحلة من مراحل نقل هذا التعاون إلى درجات أعلى في وضع اقليمي مشتعل. ولكن التعاون لا يعني عدم وجود تعقيدات في العلاقة بين واشنطن والرياض، مما اضطر الأخيرة إلى البحث عن حلفاء آخرين.

التعاون مع فرنسا

في حالة نادرة التم شمل مجلس التعاون الخليجي على مستوى قادته بحضور الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في 5/5/2015 في العاصمة السعودية الرياض. ويعتبر هولاند أول زعيم أجنبي يحضر اجتماعاً لقادة مجلس التعاون. ويبدو أن هذه الخطوة تدخل هي الأخرى في الاستراتيجية الاقتحامية الجديدة للرياض التي تعمل على بناء تحالفات أكثر عمقاً  واتساعاً وخاصة مع باريس توازن علاقتها مع واشنطن، مع وجود قلق سعودي تجاه المواقف الأميركية فيما يتعلق بالاتفاق النووي في ايران أو دعم واشنطن لمزيد من الحريات لشعوب المنطقة من قبل أنظمتها، ومن استقلالية الولايات المتحدة المتزايدة من الاعتماد على النفط السعودي وتباين موقفها مع الرياض حيال الوضع في سوريا.

ستسعى العربية السعودية إلى الحصول على دعم أكبر تحتاجه لقيادة المنظومة الأمنية الخليجية من فرنسا .حيث يشير بعض المراقبين إلى أن العربية السعودية تتحرك للتاثير على فرنسا لتبني نهج أكثر تشدداً تجاه إيران وأكثر دعماً لسياساتها المتشددة في المنطقة لمواجهة النفوذ الإيراني. ولكن وصول الرئيس الفرنسي الى العاصمة القطرية الدوحة قبل يوم من حضوره قمة الرياض التشاورية، وتوقيعه عقد تزويد القوة الجوية القطرية بـ 24 طائرة مقاتلة فرنسية من نوع رافال قد أثار تساؤلات عن مغزى الطلب القطري المفاجئ لهذا النوع من الطائرات المقاتلة، خصوصاً أن العلاقات القطرية-السعودية لا يمكن أن تصنف بأي حال من الأحوال على أنها علاقة تحالف. ومن المحتمل أن هذه الصفقة جاءت نتيجة مخاوف قطرية من الجار السعودي الذي يبدو أنه أصبح أكثر تشدداً وعسكرة في معالجته للمشاكل مع بلدان الجوار.

المظلة الخليجية والهيمنة السعودية

تنظر أغلب بلدان الخليج العربية بنظرة ريبة وقلق تجاه المقاربات التي تنتهجها العربية السعودية. فعلى الرغم من  الأهمية الاستراتيجية للعربية السعودية، إلا أن أغلب بلدان الخليج العربية، عدا مملكة البحرين تلعب بذكاء على التوازنات الاقليمية والدولية كي تتخلص من محاولات الهيمنة السعودية عليها لتوجيه سياساتها. ويعرف عن السلوك السياسي العربي في الخليج بأنه مجامل في ظاهره، ولكنه حازم ويعمل بالضد في باطنه. لذا فإنه من غير المتوقع أن تنجح العربية السعودية في وضع بلدان الخليج العربية تحت قيادتها لمواجهة النفوذ الإيراني ولأسباب سياسية، وفكرية وتاريخية وثقافية وبالتالي فإن السياسة السعودية الاقتحامية الحالية ستخلق كثيراً من العقد في علاقات تلك البلدان معها على المدى المتوسط.

التوجهات السعودية الحالية والعراق

ماتزال السياسة الخارجية العراقية –ظاهرياً على الأقل- غير واعية أو غير مواكبة للمتغيرات المتلاحقة التي تمر بها السياسات الخارجية للعربية السعودية وبلدان مجلس التعاون. وتعطي قراءة سريعة للسياسة السعودية الجديدة انطباعاً قوياً أنها ستتحرك ضمن الاطار الذي طرحه نواف عبيد في مقاله عام 2006 مع بعض التغييرات. وذلك يعني من بين أمور أخرى أن السعوديين سيستمرون بالنظر إلى العراق على أنه مساحة نفوذ إيراني، ومن منطلق طائفي، ومع القلق الاستراتيجي الذي تشعر به العربية السعودية تجاه العراق من عدة معطيات، منها ما يتعلق بالتنافس على ريادة السوق العالمي للطاقة، ومنها ما يتعلق بالثقل السكاني الذي يكون الشيعة الغالبية منه، ومنها ما يتعلق بالموقع الاستراتيجي الذي يتوفر عليه. لذا فإنه من المحتمل جداً أن تعمد العربية السعودية وتحت توجيه السياسة الجديدة لديها الى التعامل مع العراق بشكل قد يؤدي إلى مزيد من تأزيم الأوضاع الداخلية فيه، ووفق منهج يستفيد من التعقيدات الأمنية والاقتصادية والطائفية التي يمر بها البلد، ولا يستبعد أن نجد تدخلاً عسكرياً سعودياً مباشراً في العراق في بعض المراحل،  بحجة موازنة التدخل الايراني وحماية السكان السنة في البلد.

لذا يتطلب الأمر نقاش جاد من قبل الحكومة العراقية لرؤية وتوجهات القيادة السعودية الجديدة تجاه العراق. ورؤية وتوجهات بلدان الخليج العربية ومدى انسجامها أو ابتعادها عن تلك التوجهات. ومحاولة رسم سياسة خارجية عراقية  مبنية على الحقائق تجاه السياسة السعودية الجديدة بما يعنيه ذلك القيام بحملة دبلوماسية لفهم تلك السياسة من جهة والعمل على تخفيف او تحييد التأثيرات السلبية التي قد تتركها هذه السياسة تجاه العراق. خاصة أن البلد يمر في منعطف تأريخي لا يتحمل أية مغامرات أو سياسات معادية أو متحاربة إضافية على أراضيه.


* نص المقالات التي كتبها نواف عبيد في فترات متفاوتة تدعم ما تم التطرق إليه في المقال اعلاه:

التدخل في العراق

جيل جديد من القادة السعوديين – وسياسة خارجية جديدة

السعودية تبرز كقوة عربية عظمى جديدة