تشكِّل مسألة التَّحالفات واحدةً من الرَّكائز الأساسيَّة في ميدان السِّياسة الدَّوليَّة والعلاقات بين الدُّول. فالدَّولة، مهما بلغت قوَّتها، لا تستطيع أن تعيش في عزلة عن محيطها أو أن تواجه وحدها التَّحدِّيات الأمنيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة الَّتي تفرضها البيئة الدَّوليَّة. لذلك يصبح اختيار الحليف مسألةً وجوديَّةً ترتبط بعوامل قوَّة بقاء الدَّولة وتعزيز مكانتها ضمن النِّظام الدَّوليِّ.
لقد شهد التَّاريخ أمثلةً عديدةً على أنَّ الدُّول الَّتي أحسنت اختيار حلفائها استطاعت أن تضمن لنفسها مجالاً أوسع من الاستقرار والنُّفوذ، بينما دفعت الدُّول الَّتي أساءت اختيار الحليف ثمنًا باهظًا من سيادتها أو مصالحها. ومن هنا فإنَّ دراسة ” الحليف ” ليست مجرَّد تفصيل سياسيّ، بل هي جزء من علم استراتيجيّ متكامل يتقاطع فيه الأمن القوميُّ مع الاقتصاد والسِّياسة والدِّبلوماسيَّة.
منذ تأسيس الدَّولة العراقيَّة الحديثة عام 1921، شكل سؤال التَّحالفات الدَّوليَّة أحد أهمِّ محرِّكات السِّياسة الخارجيَّة العراقيَّة. فالبلاد، بحكم موقعها الجيوسياسيِّ الاستراتيجيِّ، ومواردها الطَّبيعيَّة الهائلة، وبنيتها الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة المعقَّدة، وجدت نفسها دائمًا بين قوًى إقليميَّة ودوليَّة متنافسة، كلًّا منها يسعى إلى اجتذابها أو إخضاعها ضمن نطاق نفوذه. ومع انهيار النِّظام الدَّوليِّ ثنائيّ القطبيَّة في مطلع التِّسعينيَّات، ومرورًا بالغزو الأمريكيِّ عام 2003، وصولاً إلى التَّحدِّيات الإقليميَّة الرَّاهنة، ظلُّ العراق يواجه معضلةً مستمرَّةً في اختيار الحليف الأمثل الَّذي يحقِّق مصالحه الوطنيَّة ويحافظ على سيادته واستقلال قراره السِّياسيِّ. تعتبر معضلة اختيار الحليف من أكثر القضايا إلحاحًا في السِّياسة العراقيَّة، نظرًا لتعدُّد القوى المؤثِّرة داخليًّا وخارجيًّا، وتعارض مصالحها، فبين الولايات المتَّحدة وإيران وتركيا ودول الخليج العربيِّ وروسيا والصِّين وبعض دول الاتِّحاد الأوربِّيِّ، يجد العراق نفسه في حقل ألغام من التَّحالفات الَّتي قد تمنحه مكاسب مؤقَّتة، ولكنَّها تهدِّد استقلاليَّته- على المدى البعيد-. في هذا المقال، أحاول عرض طبيعة هذه المعضلة، والعوامل المؤثِّرة في خيارات العراق لاختيار الحليف، وهل فعلا لا بدَّ أن نختار حليف؟