د. علي محمد احمد – خبير ومتداول نقدي
لطالما كان الدولار الأمريكي أكثر من مجرد عملة، بل كان بمثابة ميثاق غير مكتوب بين العالم ورمزاً للسيطرة. في ذلك الوقت، قرر الجميع، سواء كيانات سيادية مثل الدول أو القطاع الخاص، طواعية أو اضطراراً، العمل بالدولار، كونه أكثر العملات قابلية للتداول والتي تمتلك القدرة على التسوية. وكانت ورقة الدولار في ذلك الوقت شهادة على توازن القوى بعد الحرب الكبرى، وتمثل صك أمان للعالم الذي أراد أن ينسى مآسيه ويبدأ من جديد.
لم يكن الدولار مجرد أداة للتبادل؛ بل كان جسراً بين الاقتصادات، وجداراً تتكئ عليه الدول في أزماتها، ومنارة يهتدي بها المستثمرون في عتمة الأسواق. لذا، حين تهتز هذه المنارة، لا تهتز الأسواق وحدها، بل تهتز الثقة بذاتها. مع صعود دونالد ترامب إلى سدة الحكم، لم تكن السياسات الاقتصادية مجرد تصحيح لمسارات أو تصدير شعارات شعبوية، بل كانت بداية مرحلة صاخبة، مرحلة خرجت فيها الولايات المتحدة عن دورها التقليدي كحارس للنظام العالمي، لتتحول إلى لاعب يميل إلى الصفقات، يفرض الشروط، ويعيد تعريف “الربح والخسارة” وفق ميزان مصالحه الآني.
اذ شنّت الإدارة الأمريكية حروباً تجارية لم تعرف سقفاً، مع الصين تارة، ومع أوروبا تارة أخرى، بل حتى مع حلفاء كانوا يعتبرون العلاقة مع واشنطن بمثابة صمام أمان، وفرضت رسوماً كمركية عالية، وصعدت التوترات الكلامية، وبدأت الأسواق تلتقط أنفاسها في كل تغريدة، وتتحسب لكل تصريح.
في خضم هذا الضجيج، لم يسقط الدولار سريعاً… لكنه بدأ يفقد شيئاً فشيئاً ذلك البريق اللامع الذي طالما حماه، في المقابل، ارتفع الطلب على الذهب وتدفقت رؤوس الأموال نحو الملاذات الآمن، وتحول القلق من فكرة عابرة إلى تيار صامت ينمو في أحشاء النظام المالي، ولأول مرة منذ عقود، أصبح السؤال مشروعاً: هل يمكن أن يفقد الدولار عرشه؟
في قلب هذه التحولات الكبرى، تقف الدول المرتبطة بالدولار – كالعراق مثلاً – في وضع معقد، وهل ستتلقف ارتدادات اهتزاز الثقة؟ أم أنها محصنة بحكم اعتمادها الهيكلي على الاقتصاد النفطي المرتبط بالدولار؟
هذه الورقة ليست سرداً للأحداث فحسب، بل هي محاولة لقراءة الموجات العميقة التي تتحرك تحت سطح الأرقام، وتمثل رحلة بين قرارات اتُخذت في البيت الأبيض، وانعكاسات شعرت بها أسواق بغداد، وبين صراع أزلي بين الورق والمعدن، بين الثقة المصنوعة والقيمة الخالدة.
هذه الرحلة التي تبدأ من زلازل السياسات، مروراً بتصدعات الدولار، وانتهاءً بعودة الذهب إلى الواجهة كصوتٍ خافتٍ يقول: الثقة تُبنى ببطء… وتنهار حين تتسرب الشكوك.