د. هاشم عبد المطلب محسن / قسم الدراسات الدولية، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد
إن التحولات الجارية حالياً في النظام الدولي ومنظومة العلاقات الدولية لا تعكس تحولاً في هيكله وشبكة تفاعلاته فحسب، بل تعكس أيضاً، وبشكل خاص، تحولاً في نمط القيم وقواعد السلوك وتدرج الأولويات في هذا النظام، وما يترتب على ذلك من انعكاسات تمس الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، والتقنية، وغيرها.
ويُلاحظ أن هناك تزايداً في الاهتمام بدراسة دور القيم والمعايير في تحليل العلاقات الدولية، رغم استمرار الاختلاف في تقدير أهمية هذه القيم وموقعها في عالم السياسة؛ إذ يرى بعض الباحثين أن التمسك بالقيم في مجال تحكمه المصالح هو أمر عبثي، فيما يرى آخرون أن الحديث عن القيم لا يعني تجاهل الواقع، بل محاولة لترشيده. فالقيم، في نظر هؤلاء، تُسهم في توجيه التوجهات الدولية في قضايا بالغة الأهمية، تمس مستقبل البشرية بعمق، لا سيما في موضوعات مثل تغيّر المناخ، والهجرة، والإرهاب، والفقر، والأمن الغذائي، وغيرها.
من وجهة النظر الأمريكية، لا تُقسّم المجتمعات والدول والنظريات والمواقف بناءً على المُثل والقيم كالخير والحق والعدل والحرية، وإنما وفقاً لسُلم المنافع النسبية التي يمكن تحقيقها من خلالها. فإذا كان الدكتاتور يخدم المصالح الأمريكية، فلا مانع من دعمه ومساندته. وفي السياق ذاته، لا تنظر السياسة الأمريكية إلى العدوان واستخدام القوة في العلاقات الدولية من منظور قيمي مطلق، بل من منظور براغماتي صرف؛ إذ تُقبل القوة ما دامت تحقق النتائج المرجوة، وتُرفض بقدر ما تُلحق من ضرر بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
ذهب الاتجاه السائد في تحليل العلاقات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولا سيما في ظل انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على النظام الدولي، إلى اعتبار أن التحولات المعيارية (القيمية) في النظام الدولي هي تحولات نظرية، محصورة في الخطابات الرسمية، وغير مطبّقة عملياً. وقد ترافقت هذه المرحلة مع تراجع في أدوار الدولة القومية، سواء كوحدة تحليل أو كفاعل مركزي في العلاقات الدولية. ويُعد كشف ودراسة البراغماتية والقوة كقيم واقعية مهيمنة في العلاقات الدولية وسيلة مهمة لفهم أعمق لهذه العلاقات، وذلك بهدف ربطها بالوقائع الجارية في العالم المعاصر.
تتلخص إشكالية البحث في السؤال الآتي: كيف يمكن للبراغماتية، باعتبارها نقطة محورية في التفكير والممارسة السياسية الغربية، أن تُستخدم كأداة ذرائعية لتحقيق المصالح، بعيداً عن الأفكار التجريدية والعوامل المعنوية التي لا تُفضي إلى نتائج ملموسة في الواقع؟ وذلك بالمقارنة مع الأهداف المُعلنة في المجتمع الدولي بشأن قضايا المصير المشترك، مثل حقوق الإنسان، والتدخل الإنساني، والإدارة البيئية، والسلام والأمن، وغيرها.
تفترض هذه الدراسة أن البراغماتية في التفكير والسلوك السياسي الغربي لا تمثل ازدواجية في المعايير بين الشعارات والممارسة العملية، بل تُعد في جوهرها قيمة مركزية تحتل موقع الصدارة في سُلّم الأولويات الذي يُميز السلوك السياسي الغربي بشكل عام، والأمريكي بشكل خاص، وذلك تبعاً لما تحققه من مصالح مادية أو استراتيجية.