معهد كلنجينديل
مقدمة: تحديات غير مسبوقة لقطاع المياه
حُصِرَ العراق في وسط أزمة مياه تتجاوز بكثير التجارب السابقة مع ندرة المياه والنقص الحاد لها. أدَّى انخفاض كمية المياه ونوعيتها، والبنية التحتية القديمة والمتضررة، والاستخدام غير الفعال للمياه إلى الكشف عن أوجه القصور في إدارة المياه الحالية، ممَّا أثَّر بشدة على الوضع الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والأمني للبلد. انهارت -في السنوات الأخيرة- خدمات إمدادات المياه الأساسية في الجنوب مراراً وتكراراً في أشهر الصيف، ممَّا ساهم في شيوع الاحتجاجات المناهضة للحكومة، وخصوصاً في عام 2018. ينبغي فهم الوضع الحالي لقطاع المياه في العراق على خلفية تاريخ البلد المضطرب. ما يزال العراق بلداً تسود فيه أنظمة استبدادية تعطي الأولوية لسياسات القوة على الحكم الرشيد، والحروب المتتالية والتدخلات العسكرية الأجنبية، والأمن الهش، وعدم الاستقرار السياسي. وقد مُنِعَ هذا البلد من التصدِّي بفعالية لتحديات المياه مع الاهتمام المتزايد الذي أولي لقضايا المياه في السنوات الأخيرة، واستناداً إلى مراجعة شاملة للأدبيات ومقابلات شبه منظمة وورشة عمل للخبراء، فإنَّ هذه الورقة تقدِّم صورة حاسمة لإدارة المياه في العراق. وبصورة أكثر تحديداً، يبحث المؤلفون في كيفية إدارة موارد المياه، وإدارتها عبر محافظات العراق الثماني عشرة. يكشف تسليط العدسة المكبرة على الممارسات والتحديات الحالية عن بنًى تحتية مفكَّكة، وعفا عليها الزمن، وغير مناسبة، ولكن تتيح هذه الرؤية الفرصة لإجراء تقييم أولي لخيارات التدخُّل؛ لتحقيق إدارة مياه أكثر فاعلية وكفاءة.
حُلِّلَ عاملان رئيسان يقوِّضان الحوكمة الرشيدة للمياه في العراق: الأول، إطار تخصيص المياه غير المطبق بصورة كافية، والذي لا يمكِّن العراق من تلبية احتياجاته من المياه، ولا يعالج معالجة فعالة تحديات المياه الهائلة. والثاني، اللامركزية المختلة التي تقوِّض الحوكمة المحلية للمياه، وفي النهاية تعوق الحوكمة الوطنية للمياه. يحدُّ كلا العائقين الهيكليين من تنفيذ الإستراتيجيات القائمة، وتساهم في تصوُّر مشترك على نطاق واسع بأنَّ إدارة المياه غير رسمية، وغير شفافة، وغير فعالة. ومع ذلك، فإنَّ كلا العاملين المقوِّضين يوفِّران أيضاً فرصاً لتحسين الوضع الحالي، ومن ثَمَّ التخفيف من التحديات الأمنية المتعلقة بالمياه. إنَّ تطوير نظام فعال وشفَّاف وتنفيذه لإدارة المياه أمر في غاية الضرورة، بما في ذلك التخصيص المناسب والعادل لموارد المياه. ستساهم سلسلة من الإصلاحات أيضاً في المساواة والمساءلة، وستكون مفيدة للغاية عن طريق تأثيرها على الأولويات الأخرى المتعلقة بالمياه للحكومة العراقية، مثل الاستثمار في البنية التحتية المناسبة، أو زيادة كفاءة استخدام المياه. أمَّا قرارات إدارة المياه المستقبلية فتحتاج الحكومة العراقية أيضاً إلى تحديد ما يجب تحديده من بين عديد من التحديات المتعلقة بالمياه، وتحديد نقط البداية الأكثر فائدة وفعالية. تتطلب هذه العملية التشاور مع المجتمعات، وأصحاب المصلحة الأكثر تأثراً بهذه القرارات.
الوضع التاريخي والإداري
مَنَعَ الوضع الاقتصادي، والسياسي، والأمني الحكومة العراقية -لمدَّة طويلة- من تنفيذ إصلاحات حوكمة المياه التي تشتد الحاجة إليها، وتعديل ممارسات إدارة المياه العرفية واستخدامها. كان للحكم الاستبدادي منذ الثمانينيات والحروب المتتالية والتدخلات العسكرية الأجنبية والاحتلال عواقب وخيمة على قطاع المياه في العراق، خصوصاً فيما يتعلَّق بالبنية التحتية (المادية)، وأنماط استهلاك المياه، وإطار الحوكمة. سيطرت التهديدات الأمنية الفورية على الأجندة السياسية، واستنزفت الموارد المالية، وقلَّلت من القدرة على الاستثمار في (إعادة) بناء البنية التحتية للمياه التي عفا عليها الزمن، والتي لم تُصَنْ صيانة كافية، والتي تضرَّرت. بصرف النظر عن سنوات الصراع العنيف، أعاقت العقوبات المفروضة على العراق صيانة البنية التحتية للمياه وتحديثها، في حين قلَّلت أيضاً من عائدات الدولة من صادرات النفط، مصدر الدخل الرئيس لبغداد. كما يوفِّر الإطار الدستوري عقبات أمام إدارة المياه بكفاءة أكبر. بعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003، وضع النظام السياسي الجديد، وعمليات اللامركزية ضغوطاً إدارية على قطاع المياه. وَفْقاً لدستور 2005، كان من المقرَّر أن يحكم العراق في إطار هيكل فيدرالي، مع تقاسم السلطة بين الحكومة الفيدرالية العراقية، والأقاليم والمحافظات.
يحدِّد الدستور مسؤوليات وميزانيات وسلطات خاصة بكل منطقة؛ لتجنُّب صعود نظام استبدادي آخر، وخلق توازن داخلي للقوى، على أساس الاحتياجات المتباينة للأكراد -منطقة الحكم الذاتي-، والمحافظات العراقية. أصبح تقاسم السلطة بين الحكومة (الحكومات) الفيدرالية والإقليمية مبدأ أساسياً لإدارة المياه، وهيكل الحكم في العراق. لتنشيط عملية اللامركزية، قام القانون (21) لعام 2008 بنقل بعض وظائف الوزارات إلى المحافظات، مثل تلك الخاصة بوزارة البلديات، والأشغال العامة، والصحة، والتعليم (البنك الدولي، 2016). في حين أنَّ القانون (21) لا يُشير صراحةً إلى إدارة المياه، فإنَّ مادَّته (7.4) لا تتناول اللامركزية في تقديم الخدمات عموماً وتمكِّن المحافظات من إعداد خطط الاستثمار، وتنفيذ المشاريع داخل المحافظة (البنك الدولي، 2016).

لقراءة المزيد اضغط هنا