علي عدنان محمد – باحث
مرَّتِ التجربة السياسية الديمقراطية في العراق بعديد من التحديات، ولربَّما كان الانسداد السياسي أخطرها على الإطلاق، فقد تقطَّعت أوصال سلطات الدولة العراقية بين ليلة وضحاها، فبرلمانها معطّل، وقضاؤها مهدَّد، وحكومتها تُصرُّف الأعمال اليومية فقط. ومع ذلك، ما زالت القوى السياسية عازمة على تشكيل حكومة قد تكون قادرة على الخروج من هذا المأزق، ومن هنا تعدَّدت رؤى القوى السياسية فيما يخص أولويات الحكومة المقبلة، ولربما تُعدُّ رؤية (حكومة الخدمة الوطنية) التي عرضتها قوى الإطار التنسيقي هي الأقرب والأبرز.
أشارت قيادة الإطار التنسيقي إلى أولويات حكومة الخدمة الوطنية في أكثر من مناسبة، ففي لقاء السيد هادي العامري مع السفير الروسي في العراق أشار إلى أنَّ أولويات الحكومة الخدمة الوطنية (توفير فرص العمل، وتقديم الخدمات)، في حين أضاف السيد عمار الحكيم في لقاء مع سفير المملكة المتحدة أولوية (تحقيق الإصلاحات)، على ما ذكره السيد العامري، وتشيرُ هذه المعطيات إلى أنَّ رؤية الخدمة الوطنية التي تسعى نحوها قوى الإطار التنسيقي رؤية عمومية إجمالية، إذ نترقُّب أن يكون برنامجها الحكومي مخصَّصاً ومركَّزاً وملتزماً بالتوقيتات؛ ليكون واضح المعالم.
لذا، فإنَّ من المبكِّر الحكم على رؤية الخدمة الوطنية في ظل عدم اكتمال البرنامج الحكومي، إلا أنَّنا نستطيع أن نبحث فيما يصطلح عليه في مفهوم المرور والقيادة بـ(المنطقة العمياء)، والمنطقة العمياء في هذه الحالة هي المتغيرات التابعة لـ(أولويات حكومة الخدمة الوطنية)، وغالباً ما تُتَجاهل هذه المتغيِّرات، فعلى سبيل المثال، حينما تجتهد الحكومة في توفير فرص العمل قد تغفل عن متغيِّر (عدم تكافؤ الدخل)، والذي يمثِّل المنطقة العمياء في هذا المثال.
وسنركِّز في هذه الورقة البحثية على متغيِّر (مشاركة المواطنين) كمنطقة عمياء لـ(أولويات حكومة الخدمة الوطنية) التي تسعى قوى الإطار التنسيقي إلى تشكيلها ودعمها.
مفهوم مشاركة المواطنين
إنَّ مشاركة الموطنين في الحكم هي من ثوابت الديمقراطية، وركيزة من ركائزها، وقدِ اختلفت الرؤى في حدود هذه المشاركة، إذِ اقتصرت المشاركة في بعض الديمقراطيات على المشاركة في الانتخابات فقط، ومن هنا يعرض معهد (NDI) أنَّ (العمل على إنشاء المؤسسات وتطويرها، والآليات الديمقراطية لا يكفي، فتفعيل هذه الآليات والمؤسسات يكون عن طريق مشاركة فاعلة، ومنظمة، وسلمية للمواطنين فيما يتعلَّق بسياسات خدمة الصالح العام).
كما تُعدُّ مشاركة المواطنين الفاعلة من أساسيات الحكومة الرشيدة، فالحكومة لوحدها لا تستطيع معالجة المشكلات الاجتماعية، وبالخصوص حينما تعتمد الحكومة في قراراتها على حلقة ضيقة من الخبراء والمسؤولين الحكوميين، لذا فإنَّ ضمان المشاركة الفاعلة للمواطنين تستدعي أن تكون الحكومة على مستوى عالٍ من الشفافية، والانفتاح في اتخاذ القرار، ويعني غياب الشفافية والانفتاح أنَّ المشاركة غير فاعلة، ولا تستند إلى إحاطة تامة بالمعطيات، والأهم من ذلك كله، يجب أن توفِّر الدولة الديمقراطية إطاراً قانونياً لشرعنة مشاركة المواطنين، وضمان استمرارية العمل بها، وهذا بحد نفسه كفيل بتطوير ممارستها عبر الزمن.
لا تخضع مشاركة المواطنين إلى قواعد شكلية معينة، بل تتخذ هذه المشاركة صوراً مختلفة باختلاف المجتمع، والحكومة، وأغراض المشاركة، إذ تهدف المشاركة أحياناً إلى التوعية بخصوص أمر معين، أو الدفع باتجاه سياسة معينة، أو التأثير على خطة عمل حكومية، أو المراقبة والتقييم، وقد تكون هذه المشاركة عن طريق منظمات المجتمع المدني، أو الروابط المجتمعية، أو عن طريق النقابات، أو التجمعات الدينية، أو العشائرية، ويعتمد ذلك اعتماداً كبيراً على التركيبة الاجتماعية.
في كثير من الأحيان، نجد أنَّ مشاركة المواطنين حاضرة غائبة، أي: إنَّها موجودة على أرض الواقع، لكنَّها غائبة عن أنظار التخطيط الحكومي الرشيد، حينها تقتصر المشاركة على فئات معينة من المواطنين دون غيرهم، ويؤثِّر هذا تأثيراً سلبياً على تطوير مفهوم مشاركة المواطنين، فحينئذٍ لا تعمل الحكومات على فتح قنوات أخرى للمشاركة، وتحتكر الفئات المشاركة قنوات التواصل مع الحكومة، وتتقيَّد الشفافية والانفتاح في الوقت نفسه، وقد أفرز احتجاج تشرين (2019) في العراق وجود هذا التحدي في ديمقراطية حديثة النشوء.

لقراءة المزيد اضغط هنا