ماردين إسحاق- كاتب ومحرر مقيم في لندن
 
هُزِم تنظيم داعش في أواخر عام 2017، ككيان موحَّد إقليمياً في العراق. ومع ذلك، فإنَّ بعض الفئات الأكثر ضعفاً التي استهدفها، مثل الإيزيديين والآشوريين المسيحيين، ما تزال تحت تهديد وجودي.
أمَّا هذه الشعوب، فكان تنظيم داعش بمنزلة كابوس مرعب يوحي لمحن أعظم. كانت المحن موجودة قبل صعود التنظيم، واستمرت بعد هزيمته.
مع اندلاع الصراع العنيف والفوضوي داخل العراق بعد الغزو، سرعان ما أصبح واضحاً أنَّ الأقليات الأصغر، التي ليست من الجماعات العرقية والدينية المهيمنة في البلاد تواجه احتمال ممارسة عنف مستهدف غير محدود عليها، من قبل الميليشيات والإرهابيين. طُرِدَ الآشوريين بصورة جماعية من منازلهم في بغداد. فرَّت الغالبية العظمى من المندائيين من البلاد بحلول عام 2007؛ لتعرُّضهم للابتزاز والقتل. وفي العام نفسه قَتَلتِ الهجمات الانتحارية المنسقة (800) إيزيدي في شمال غرب العراق.
كان سهل نينوى -الواقع في شرق/شمال الموصل- المنطقة الوحيدة في العراق التي تضم أغلبية ديموغرافية من الأقليات العرقية. أصبحت سنجار -موطن الإيزيديين غربي الموصل- الملاذ الأخير للبقاء على قيد الحياة للأقليات. قدم قادة المجتمع والسياسة خطة لإنشاء محافظة في المنطقة، باستخدام الإطار التشريعي والسياسي في العراق لما بعد عام 2003 كأساس للحكم الذاتي المحلي. تنصُّ المادة (125) من الدستور العراقي قانونياً على الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية لـ»الأعراق» المختلفة في العراق، أصبحت ذات أهمية -بصورة عاجلة- للمناطق المهدَّدة بالغزو، والجماعات المهدَّدة بالإبادة الجماعية.
لكن توسَّعت حكومة إقليم كردستان في هذه الأراضي عن طريق جهاز أمني وعسكري قمعي عرقي-قومي. عُدَّت سنجار وسهل نينوى «محلَّ نزاع» بناءً على مطالبات أحادية الجانب لكردستان العراق، التي امتدت إلى المناطق غير الكردية. وكانت لدى الحكومة الإقليمية ما يكفي من القوة لردع تلك مطالبات.
تعرَّضت شخصيات سياسية وزعماء مجتمعيون وصحفيون ونشطاء من الأقليات الذين قاوموا وجود حكومة إقليم كردستان المدججين بالسلاح في سنجار وسهل نينوى للمضايقة والضرب وحتى الاغتيال. من ناحية أخرى، في بغداد، كان الخلل الوظيفي والفساد والتعصُّب متفشياً لدرجة أنَّ الحكومة المركزية قدَّمت دعماً ضئيلاً أو معدوماً للأقليات. كانت كل الأطراف ترى بوجود أطراف أخرى سبباً لتجنُّب الاستثمار والتنمية.
أضفتِ الولايات المتحدة الشرعية لواقع الحال الذي فرضته حكومة إقليم كردستان بضمها لهذه الأراضي، عن طريق تدابير مباشرة وغير مباشرة. قبلت الولايات المتحدة إطار «الأراضي المتنازع عليها» الذي قدمته حكومة إقليم كردستان. ونهضتِ الولايات المتحدة بدورٍ منفصلٍ ظاهريٍّ، مدَّعية أنَّ مصير هذه المناطق كان شأناً داخلياً عراقياً. لكنَّها قامت بتمكين قيادة حكومة إقليم كردستان بصورة مباشرة، ولا سيَّما قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي تهيمن عليه عائلة البرزاني، عن طريق دعم نموها الإقليمي العسكري، وتفكيك الآفاق السياسية للجماعات التي كانت واقفة في طريقها عن طريق التوسُّع. اختارت الولايات المتحدة -أيضاً- عدم دعم قادة الأقليات الشرعيين في بغداد. مع حقيقة أنَّ مقترحات هؤلاء القادة -فضلاً عن بقاء ناخبيهم وسلامتهم- قد عزَّزت مبادئ التعددية والديمقراطية التي كرَّستها الولايات المتحدة في النظام السياسي في العراق بعد عام 2003، وما زالت تُؤيِّد خطابياً من قبل المسؤولين الأمريكيين حتى يومنا هذا. ألقى هؤلاء المسؤولون باللوم على القادة العلمانيين والمستقلين سياسياً على مدى السنين؛ لسعيهم استخدام العمليات التي وضعتها الولايات المتحدة لتأمين بقائهم، بدلاً من قبول دور خاضع كمجتمعات دينية رمزية.
انسحبت البيشمركة -في أغسطس 2014- بعد أن صادرت أسلحة السكان المحليين قبل تقدُّم داعش، فعلت ذلك بطريقة مفاجئة ومنظَّمة، ولم تطلق رصاصة واحدة صوب داعش حينما غزت سنجار وسهل نينوى. أمَّا الإيزيديون والآشوريون فكان هذا الانسحاب تأكيداً لأسوأ مخاوفهم، والتي تراكمت على مدى سنوات من التمييز والقمع، لا سيَّما على أيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني. مع تشتُّت سكانها السابقين وتدمير مناطقهم، بدت حالة الضعف السياسي بالفعل بين هذه الجماعات، وجعلتها أكثر هشاشة من أي وقت مضى. لكن تمكين الولايات المتحدة لقوات البيشمركة كجزء من الجهود اللاحقة ضد داعش، شجَّع مطامع حكومة إقليم كردستان لتوسيع أراضيها. بعد تطهير شمال العراق من داعش، عاد الوضع لسابق عهده للصراع الأمني والسياسي. لم تُجرَ أي مراجعة، ولم تمارس أية مساءلة.
بقاء الإيزيديين والآشوريين على قيد الحياة بحاجة إلى الدعم المباشر أكثر من أي وقت مضى، إلا أنَّ هذا الأمر أمسى بعيد منال. لم تجدِّد سياسة إدارة بايدن التزام الولايات المتحدة بالوضع الراهن الراسخ والمتكرِّر بصورة كارثية فحسب، بل تحرَّكت نحو إضفاء الطابع الرسمي على جوانبه الأكثر تدميراً.

لقراءة المزيد اضغط هنا