ميرا جاسم بكر- باحثة
حينما كنت في بغداد في أيلول الماضي، اتصلَ بي صديق كردي وسألني: «ميرا، هل يمكنك -من فضلك- زيارة وكالة سفر هناك لتسأل كم تبلغ رسوم تأشيرة بيلاروسيا؟ لقد قيل لي إنَّ الرسوم أرخص هناك». عدتُ -بعد يومين- إلى السليمانية، وزرتُ مقهى أرتاده للقيام ببعص الأعمال. كنتُ أبحث في المقهى عن (هيفار) -وهو نادل-، كنتُ دائماً ما أتحدث معه قليلاً قبل البدء في العمل. سألتُ أحد زملائه «أين هيفار؟»، «ألَا تعرف؟» أجاب الزميل: «إنَّه في بيلاروسيا». التقيتُ -في وقت لاحق من المساء- بأحد أعز أصدقائي، قال: «آه، لا أستطيع الانتظار للحصول على تأشيرتي.. لقد غادر كل مَن أعرفه»، اثنان من هؤلاء الثلاثة موجودان الآن في أوروبا والشخص الذي سألني عن رسوم التأشيرة كسر ساقه، ولم يتمكن من الرحيل.
يمثِّل هؤلاء الأشخاص الثلاثة -الذين رغبوا في الهجرة- مجموعةً متنوعةً من الطبقات الاجتماعية في إقليم كوردستان العراق، ابتداءً من الطبقة العاملة إلى الطبقات المتوسطة والعليا وكذلك الخلفيات التعليمية المختلفة. الأول، الذي حصل على مبلغ من المال لتمويل رحلته من والده، لم يكمل دراسته وتنقَّل من وظيفة غير دائمية إلى أخرى، مع وظيفته الحالية كسائق شاحنة، ويتلقى أجراً شهرياً يزيد تقريباً على (200) دولار. تخرَّج الثاني في جامعة حكومية، لكنَّه، مثَّل الغالبية العظمى من الشباب، فشل في العثور على وظيفة في مجال دراسته وحصل على وظيفة في مقهى بأجر شهري قدره (450) دولاراً. لقد استخدم مدخراته على مدار سنوات لتمويل الرحلة. أنهى الثالث دراسته في واحدة من أفضل الجامعات الخاصة المعروفة في جميع أنحاء البلاد، مع وظيفة مستقرة توفر له دخلاً شهرياً يزيد على (2000) دولار، وهو ما يجنيه نسبياً نخبة صغيرة في القطاع الخاص، لكنَّهم ما زالوا يهاجرون.
يجسِّد هذا المدخل الافتتاحي الخلفيات الاجتماعية المعقَّدة لبعض أكراد العراق الذين حاولوا مؤخراً الهجرة إلى أوروبا. فضلاً عن أنَّه يُشير إلى تفشِّي فكرة الهجرة التي ظهرت منذ عام 2014. منذ ذلك الحين، يمر إقليم كوردستان بوضع اقتصادي وسياسي متدهور، ممَّا أدَّى إلى تأجيج الرغبة في الهجرة. أصبحت المنطقة أكثر استقطاباً من أي وقت مضى منذ عام 2003، والاقتصاد بالكاد يوفِّر فرص عمل لتدفق الشباب الذين ينضمون إلى القوى العاملة. هيمن الحزبان الحاكمان -الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني- على المنطقة منذ إنشاء حكومة إقليم كردستان عام 1992 وحافظاً على «الاحتكار الثنائي» للنظام السياسي والاقتصاد في المنطقة. سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني على دهوك وأربيل بِلا منازع تقريباً، في حين أثبت الاتحاد الوطني الكردستاني مع التحديات الانتخابية، تفوقه العسكري والاقتصادي على السليمانية.
مع تدهور الاستقرار السياسي والاقتصادي في إقليم كوردستان منذ عام 2014 فقدِ ازدادت رغبة أكراد العراق في الهجرة إلى أوروبا، مع العوائق القانونية والرحلة الغادرة التي يواجهها عديد من المهاجرين. ويرجع ذلك إلى أنَّ دوافع الهجرة الجماعية الموجودة في عام 2014 تزداد سوءاً منذ ذلك الوقت. ومن ثَمَّ، ما أن يجد الناس فرصة للرحيل، فإنَّ تدفق المهاجرين الأكراد يبلغ الحدود الأوروبية. ينتاب هذا اليأس الأكراد العاديين ليس مجرد أزمة إنسانية، بل أصبح أيضاً سلاحاً من أسلحة السياسة الخارجية لدول مثل بيلاروسيا التي تستغل المظالم الكردية لمتابعة منافسات القوة الأوروبية. لذا، تتجاوز مشكلة الهجرة الجماعية للأكراد السياسات الإقليمية في الشرق الأوسط، وأصبحت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشاكل التي تواجهها الحكومات المضيفة القريبة من الوطن.
هاجر الأكراد من العراق في موجات عديدة في القرن العشرين. مع ذلك، فإنَّ موجة الهجرة الحالية فريدة من نوعها من حيث إنَّ معظم المهاجرين الأكراد لا يفرُّون من حرب أو اضطهاد حكومة غير كردية. في السبعينيات هاجر أكراد العراق إلى أوروبا وإيران والاتحاد السوفيتي؛ بسبب انهيار «ثورة «أيلول»، في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، فرَّ عديد من الاضطهاد السياسي والإبادة الجماعية والتهجير القسري على يد النظام البعثي. في التسعينيات من القرن الماضي ، أدَّى الفقر المدقع نتيجة العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة والعراق على حكومة إقليم كردستان المتشكلة حديثاً، والحرب الأهلية بين الأحزاب السياسية الكردية إلى نزوح أعداد أخرى كثيرة، ودفعهم إلى البحث عن ملاذ خارج العراق. مع ذلك، تُشير موجة المهاجرين منذ عام 2014 إلى فشل النظام السياسي الذي حلم به معظم أكراد العراق وحارب كثيرون من أجل تحقيقه، والأهم من ذلك أنَّه كان من المفترض أن يصون كرامة الأكراد، وهم مجموعة عرقية عديمة الجنسية. لقدِ استقتلتِ الأكراد لإنشاء مثل هذه الدولة، منذ تشكيل العراق الحديث في عام 1921.

لقراءة المزيد اضغط هنا