سجاد جياد: زميل في مؤسسة القرن TCF. محلل سياسي عراقي مقيم في بغداد، وهو المدير التنفيذي السابق لمركز البيان للدراسات والتخطيط. وعمل زميلاً زائراً في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. ينصب تركيزه الرئيس على السياسة العامة والحكم في العراق، ويعمل أيضاً على بناء قدرات المؤسسات العامة ومنظمات المجتمع المدني.

لقد وضعت الفترة الانتقالية في الولايات المتحدة الشرق الأوسط على حافة الهاوية، ولاسيما إيران والعراق، اللتين تواجهان خطر الوقوع في حرب بالوكالة، فضلاً عن التأثيرات التي لا يمكن التنبؤ بها المترتبة على فرض المزيد من العقوبات. والواقع أن بعض اللاعبين الإقليميين الذين لديهم علاقات وثيقة بدونالد ترامب يحاولون -بالفعل- تعظيم مكاسبهم من خلال المناورات العنيفة، مع زيادة المخاطر في الأسابيع الأخيرة من رئاسة ترامب. وبالنسبة للعراق، فإن الفترة الانتقالية محفوفة بالمخاطر، وهو ما يعكس المخاطر التي سوف تستمر في إثارة المتاعب لبغداد حتى بعد أن يتولى جو بايدن منصبه.

إن المأزق الذي يعيشه العراق يبسط شرحه ولكن يصعب معالجته؛ لأن رفاهة البلاد تعتمد إلى حد كبير على علاقاتها المتشابكة إلى حد كبير مع إيران، جارتها من الشرق، وشريكته التجارية الأكثر أهمية، واللاعب الأجنبي الأكثر سيطرة في أمن العراق. وفي الوقت نفسه، أصبحت إيران في مرمى الولايات المتحدة، والسعودية، وإسرائيل بنحو مباشر؛ الأمر الذي يضع العراق في موقع يتعذر الدفاع عنه. إن مصالح بغداد -من حيث علاقتها بطهران- لا تنسجم ومصالح واشنطن. وإن استقرار العراق وروابطه الطيبة بإيران ليس له تأثير مباشر على الاقتصاد الأميركي أو الأمن القومي. وعلى النقيض من هذا، تشكل العلاقات الثنائية بين إيران والعراق أهمية بالغة لكل من البلدين، فهي راسخة في التأريخ وسوف تستمر على الرغم من التهديد بالمقاطعة، والعقوبات، والحرب.

ومهما كانت رغبة العراق في تقبل حسن نوايا الولايات المتحدة (والعديد من زعمائها وفصائلها)، فليس من الممكن أن تتمنى له الابتعاد عن ترابطه بإيران. لقد أثبت التأريخ الحديث أن إيران، بحكم كونها جارة للعراق، تعدّ شريكاً أكثر اتساقاً مع العراق مقارنة بالولايات المتحدة، التي على الرغم من كونها قوة عظمى في منطقة تتطلع إلى الزعامة، إلا أنها عانت لتحديد علاقتها مع العراق. وفي ظل إدارة جديدة، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تسعى إلى وضع سياسة جديدة في التعامل مع العراق لا تستند إلى علاقة أي من الدولتين بإيران، بل تسعى بدلاً من ذلك إلى تحقيق أهداف مشتركة، والاستفادة من حاجة العراق إلى المساعدة ورغبات الولايات المتحدة في رؤية ديمقراطية مستقرة في العراق.

صديقان في بعض الأحيان، ولكنهما جيران دوماً

تعد الحدود الإيرانية-العراقية التي يبلغ طولها 1000 ميل واحدة من أقدم الحدود في العالم. إن التاريخ المشترك للدولتين يمتد إلى أقدم الحضارات منذ عدة آلاف من السنين. وكلا البلدين يتقاسمان الثقافة والمجتمعات، بما في ذلك التجمعات السكانية الكردية الضخمة. إن غالبية العراقيين من الشيعة المسلمين، تماماً كما هو الحال عند أغلب الإيرانيين، والهوية الدينية الشيعية المشتركة تدفع التبادل المكثف الذي يتمحور حول الأضرحة المقدسة، التي تجتذب رجال الدين، والطلبة، والملايين من الزوار عبر الحدود كل عام. وهناك أيضاً بطبيعة الحال اختلافات ملحوظة بين البلدين: فالعراق لديه هوية عربية إلى حد كبير في حين أن إيران فارسية إلى حد كبير. وكلا البلدين لديهما ذكريات مريرة للحرب الوحشية بينهما في الفترة من 1980 إلى 1988، التي أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من الجنود والمدنيين من البلدين. يحكم الدولة الإيرانية رجال الدين، في حين يتمتع العراق بنظام ديمقراطي –ولكنه ضعيف. ولدى كلا البلدين أيضاً -لأسباب مختلفة ولكنها ذات صلة- تاريخ حديث مضطرب مع الولايات المتحدة.

وبعيداً عن العلاقات السياسية القديمة التي تربط إيران والعراق، فإن العلاقات الاقتصادية بين البلدين بالغة الأهمية إلى الحد الذي قد يؤثر على الحياة اليومية. هناك أكثر من 10 ملايين رحلة بين إيران والعراق سنوياً، وتقدر قيمة التجارة الثنائية بمليار دولار شهرياً. ويعتمد العراق على الواردات من الغاز والكهرباء الإيرانية لقطاع الطاقة، ومجموعة من السلع والمواد التي تدعم الصناعات العراقية، بما في ذلك البناء.

هناك اعتراف بأن إيران شريك أكثر جدارة بالثقة للعراق من الولايات المتحدة

هناك اعتراف بأن إيران شريك أكثر جدارة بالثقة من الولايات المتحدة، فحينما استولى تنظيم داعش الإرهابي على أجزاء كبيرة من العراق في حزيران 2014، كانت إيران أول من قدم الدعم للحكومة العراقية، في حين امتنعت الولايات المتحدة عن تقديم المزيد من المساعدات لمدة شهرين إلى أن تم تشكيل حكومة جديدة تناسب رؤيتها، وكان اهتمامها بالسياسة العراقية متقلباً إلى حد كبير على مدى العقد الماضي. وعلى النقيض من ذلك، لم تعلن إيران عن وجودها العسكري، وكانت أكثر اتساقاً في سياستها الخارجية. والحقيقة البسيطة هنا هي أن إيران سوف تظل دوماً إلى جوار العراق، ولسوف تتدخل إلى حد كبير في الأمر؛ ولا نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن الولايات المتحدة. وكان الاعتراف بهذه الحقيقة واضحاً في الجهود التي بذلها باراك أوباما للانفصال عن العراق، وظل واضحاً خلال رئاسة ترامب. ومن غير المرجح أن يتغير اتجاه الولايات المتحدة في الانفصال أثناء رئاسة بايدن، فالولايات المتحدة تتمتع بقدر محدود من اللعبة في العراق.

من الواضح أن إيران ليست طرفاً مؤثراً في العراق. وتدعم طهران الجماعات شبه العسكرية التي تقوض الدولة العراقية، وتستنزف مواردها، وتستخدم العنف والتخويف لمعاقبة الأصوات الناقدة، وتنتهك حكم القانون بشن هجمات صاروخية ضد المنشآت الدبلوماسية والحكومية. ولقد سمح ضعف الدولة العراقية بمثل هذا التطفل، إلا أن الولايات المتحدة ارتكبت أخطاءً خطيرة منذ العام 2003؛ الأمر الذي أدى إلى خلق ذلك المأزق. ومؤخراً، نظرت إدارة ترامب إلى العراق باعتباره امتداداً لسياستها في إيران، وعلقت التهديد بفرض عقوبات ثانوية بشأن بغداد لمدة ثلاث سنوات على التوالي. وقد قام ترامب بتصعيد خطير مع اغتيال اثنين من كبار المسؤولين الأمنيين، أحدهما إيراني والآخر عراقي، في مطار بغداد في كانون الثاني من هذا العام. وقد عززت تلك الضربة -فضلاً عن انتهاك القانون الدّوليّ- فكرة أن المهمّة الأمريكيّة في العراق كانت تركز على إيران وقليل من الأمور الأخرى.

إن الدول العربية، ولاسيما دول الخليج، لم تبذل قدراً كبيراً من الجهد لدعم العراق منذ العام 2003، وعدّت النفوذ الإيراني في العراق سبباً لمقاطعة العراق بدلاً من التنافس مع إيران. ولقد شجعت الدول العربية ذات النفوذ والأثرياء على انتهاج سياسة صقور أمريكا في التعامل مع إيران، مدركين أن العواقب القاسية المترتبة على مثل هذه السياسة ستكون وخيمة في العراق، وسوريا، ولبنان ولن يتكلف هذه السياسة إلا أقل القليل. وبالمضي قدماً فقد يكون تصحيح المسار ممكناً، ولكن الأمر يتطلب صبراً استراتيجياً من جانب هذه الدول. وسوف تظل إيران اللاعب المهيمن في العراق، ولكن تعزيز العلاقات مع العالم العربي من شأنه أن يخفف بعض هذا النفوذ وأن يمنح الدولة العراقية المزيد من المرونة والصمود. لا شك أن الكثير يعتمد على العراق نفسه وقدرته على إدارة السياسة الداخلية والخارجية على النحو اللائق، والتغلب على الأزمات، وتنفيذ الإصلاحات.

رئيس جديد، القصة نفسها؟

إن العراق لا يستطيع أن يتحمل تكاليف العلاقات المتوترة مع إيران. وإذا أرغِم العراق على الاختيار بين الولايات المتحدة وإيران، فسوف يختار الأخير. وعلى الرغم من ذلك فإن العراق لا يرغب أن يكون في موضع الاختيار، بل إنه يفضل الحل الوسط: أن يكون جاراً طيباً لإيران، وصديقاً طيباً مع الولايات المتحدة. إن هذا التوجه العملي يعدّ ضرورة أساسية للعراق، ويتعين على الولايات المتحدة أن تحترم هذا الموقف. وقد بدأ العراق حواراً استراتيجياً مع الولايات المتحدة التي تحاول تعزيز سياسة أرضية متوسطة. يحتاج العراق أيضاً إلى حوار قوي مع إيران لدحض الآراء المتداولة بأن إيران تفضل دولة عراقية ضعيفة يسهل السيطرة عليها، فالواقع أن العراق وإيران يصبحان أقوى حينما يُحكَم العراق بنحوٍ جيد؛ وبالتالي فإنه سيسترعي قدراً أقل من الاهتمام السلبي من أعداء لإيران. ومن المنظور الأميركي فإن رغبة العراق في إقامة علاقة وثيقة مع إيران قد تكون بمثابة الدواء المر الذي سيتوجب عليها تجرعه، ولكن كلما سارعت إدارة بايدن إلى إدراك احتياجات العراق الحقيقية، وإن إرغام العراق على الاختيار يعدّ توجهاً خاطئاً، كان ذلك أفضل. وقد تتعاون بغداد مع واشنطن، ولكنها لا تستطيع أن تنكر أو تقطع علاقاتها مع طهران؛ وهذا ببساطة هو الواقع الجيوسياسي.

فيما يخص الإدارة الأمريكية القادمة، لن تكون سياسة العراق أولوية، وقد يستغرق تطويرها عدة أشهر. وقد تؤثر الفترة الانتقالية من ترامب إلى بايدن على كيفية تشكيل هذه السياسة. وقد تؤدي أحداث التصعيد الأخرى، مثل العقوبات الجديدة والهجمات الصاروخية على السفارة الأمريكية في بغداد، أو الانتقام من الأصول الإيرانية أو العناصر الموالية لإيران في العراق، أو اغتيال المسؤولين والعلماء الإيرانيين، إلى تحريك عجلة من شأنها تمكين صناع السياسات العراقيين والإيرانيين المتشددين، أو الصقور الأمريكيين، إن مثل هذه التّطوّرات بدورها أن تدفع العلاقة بين العراق والولايات المتحدة إلى موقف سلبي. وفي مثل هذه الظروف، فقد يتم دفع إدارة بايدن إلى التعجيل بالانسحاب العسكري للولايات المتحدة، فضلاً عن فك الارتباط الدبلوماسي مع العراق. وفي غضون أشهر من توليه منصب الرئيس، ربما يعود بايدن إلى حيث كان -على وجه التحديد مع السياسة التي انتهجها في العراق في عام 2011- حينما قلّصت الولايات المتحدة العلاقات مع العراق إلى الحد الأدنى؛ واتضح فيما بعد أنه كان لفترة قصيرة.

وحتى لو تجنّب العراق هذا السيناريو، وإذا ما تحسنت الأوضاع فيه في عهد بايدن، فلسوف يظل هناك خلاف بين ما تريده الولايات المتحدة من العراق فيما يتعلق بإيران، وبين ما ترغب بغداد في فعله وما تستطيع فعله. إن التفاوض على أرض محايدة مَهَمةٌ بالغة الصعوبة بالنسبة للعراق، الذي لا يمتلك سوى نفوذ قليلة مع أي من البلدين. لقد حقق العراق في الماضي -وبالتحديد في 2015-2016 أثناء ذروة الحملة ضد تنظيم داعش الإرهابي- توازنا، إذ كان يحصل على الدعم والمساعدة من طهران وواشنطن مع تجنب الانجرار إلى الصراع الإقليمي الذي يميل إلى تعريف كل دولة في الشرق الأوسط بأنها جزء من محور موالي أو مناهض لإيران. قبل خمس سنوات، كان العراق في وضع أفضل يسمح له بالسعي إلى تحقيق هذا التوازن بسبب الوفاق الذي نتج عن خطة العمل الشاملة المشتركة (الصفقة النووية الإيرانية)، ولأن كلاً من إيران والولايات المتحدة أرادتا دعم الحملة ضد تنظيم داعش الإرهابي. والآن، يتعيّن على العراق أن يعتمد بنحوٍ أكبر على نفسه للحصول على اعتراف من إيران والولايات المتحدة بأن بغداد تحتاج في الوقت نفسه إلى علاقات مستقرة مع كليهما. وبينما يعمل العراق على تحقيق هذا الاعتراف، فإن الخلاف بين الدول الثلاث سيكون حتميا.

إن توقعات العراق متراجعة فيما يتعلق بالتأثير الإيجابي الفوري الذي قد تخلفه رئاسة بايدن. ويرجع جزء من هذا إلى الدور الذي لعبه بايدن في قيادة السياسة الأمريكية في العراق في أثناء ولاية أوباما، حينما انهت الولايات المتحدة تعاملها مع العراق. إلا أن ظهور تنظيم داعش الإرهابي أدى إلى تراجع الولايات المتحدة عن قرارها ولو على مضض. إلا أن أغلب هذه التوقعات المتراجعة تعدّ اعترافاً بمدى تعقيد الأوضاع في المنطقة في عهد ترامب، ولاسيما انعدام الثقة الحاد بين إيران والولايات المتحدة، وتحول العراق إلى ساحة لتسوية الحسابات. قد يكون بايدن براغماتياً في نظر قادة العراق، ولكن هذه النوعية تخدم المصالح الأميركية في المقام الأول، ولن تساعد العراق بالضرورة في المواقف الصعبة. ويشير التأريخ إلى أن بايدن قد لا يكون حريصاً على بذل المزيد من الجهد في العراق، وهناك رغبة ضئيلة في السياسات الأمريكية في المشاركة في شؤون العراق. وفضلاً عن ذلك، فإن المسار الذي حدده ترامب قد يكون من المستحيل بالنسبة لبايدن أن يغيره.

وفي نهاية المطاف، يتعيّن على بغداد أن تدير علاقاتها مع جيرانها، بصرف النظر عن مصالح الولايات المتحدة في العراق أو المنطقة. ويتعين على العراق أن يزيد من نفوذه مع الدول المجاورة مثل تركيا والمملكة العربية السعودية، لتعميق علاقاتها مع العراق، وهي علاقات سطحية الآن وغير مباشرة. ويتعين على العراق أن يحافظ على علاقات صحية مع إيران، ولا ينبغي له أن يدفع ثمناً لذلك. ولا تستطيع دول أخرى أن تطالب العراق بقطع علاقاته مع إيران، تماماً كما لا تستطيع إيران أن تصر على أن يرفض العراق جميع العلاقات الخارجية الأخرى. ويتعين على الولايات المتحدة أيضاً أن تواجه مسألة مماثلة. ولكن هل ستتمكن من إيجاد وسيلة لإقامة شراكة قوية مع العراق، في حين تقبلها علاقة العراق المتزامنة مع إيران؟

المصدر:

https://tcf.org/content/commentary/iraqs-impossible-choice-iran-america/