يسار المالكي: باحث غير مقيم في مؤسسة الشرق الأوسط MEI، وخبير اقتصادي في مجال الطاقة.

جو بايدن ليس غريباً على العراق وهذا واضح لكيفية استجابة الساسة العراقيين لفوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. رحب البعض بالأنباء، في حين أن البعض الآخر كان أكثر حذراً بالنظر إلى المخاوف من أن رئاسة بايدن قد تؤدي إلى زيادة النفوذ الإيراني في البلاد. في الواقع، لدى بايدن سجل متنوّع في العراق. فعلى الرغم من كونه ديمقراطياً، فقد صوت لصالح حرب العراق عام 2003. لكن فيما بعد -كنائب للرئيس- كان اليد اليمنى للرئيس باراك أوباما، وقام بتسريع تنفيذ الوعد الذي قطعه أوباما في حملته بسحب القوات الأمريكية في عام 2011. إن محاولة معرفة الأجندات المستقبلية لجو بايدن، ومدى اطلاعه على الطبقة السياسية في بغداد، والمقترحات الصريحة حول وحدة أراضي العراق، جميعها قد تؤدي إلى استنتاج خاطئ بأن العراق سيكون محور تركيزه في إدارته المقبلة؛ إلا أن الواقع مختلف بنحوٍ كبير.

وضع العلاقات الأمريكية-العراقية

إن وضع العراق السياسي حرج، فبعد أكثر من عام من الاضطرابات، تستعد البلاد أخيراً لإجراء انتخابات برلمانية العام المقبل الذي قد يولد جيلاً شاباً وشجاعاً من السياسيين ذوي عقلية إصلاحية. أما من الناحية المالية، فإن الاقتصاد الريعي في العراق على وشك الانهيار بسبب تناقص عائدات النفط على الرغم من المساعدة المؤقتة من الاقتراض المحلي غير المسبوق وإصلاح الميزانية. ومع استمرار تدهور الوضع، يتجه العراق ببطء نحو المصير نفسه الذي يعاني منه لبنان. إن عدم قدرة الحكومة على توفير بيئة ترحيبية لجذب الاستثمار الأجنبي واعتماد اقتصاديات السوق الحرة يعني أن العراق ليس لديه مجال كبير للتنافس على رأس المال على المستوى الإقليمي.

كادت العلاقات الأمريكية العراقية أن تصل إلى أدنى مستوياتها في أيلول، إذ هددت واشنطن بإغلاق سفارتها احتجاجاً على فشل الحكومة العراقية المتكرر في وقف الهجمات الصاروخية اليومية التي شنتها الجماعات الموالية لإيران. وعلى الرغم من قصر أمد هذه الأزمة، إلا أن التهديد جعل الخبراء العراقيين في حالة فوضى. كان التوقيت غير متوقع بنحوٍ خاص بالنظر إلى أنه جاء بعد شهر واحد فقط من اجتماع ثنائي جيد التنسيق بين الرئيس دونالد ترامب ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وتوقيع اتفاقيات بقيمة 8 مليارات دولار في قطاع الطاقة بين البلدين، بعد أن شارك كلا الجانبين في الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق لأشهر.

يرى المراقبون العراقيون -على الرغم من الخطاب بشأن علاقة ثنائية وثيقة- أن الولايات المتحدة ما تزال تنظر إلى العراق على أنه بيدق في لعبة جيوسياسية أكبر مع إيران. ولكن مع تغير الإدارة الأمريكية، يعتقد الكثيرون أن بايدن قد يرفع الحمل الناتج من توقعات ترامب غير الواقعية لحملة “الضغط الأقصى” ضد إيران من أكتاف العراق. فشل العراق في موازنة النفوذ الأميركي والإيراني طيلة سبعة عشر عاماً، بل لقد عمدت بدلاً من ذلك إلى تهميش سيادتها وجعل نفسها ساحة معركة للقوى الخارجية. أما واشنطن فقد تحولت سياستها تجاه العراق من إدارة إلى أخرى بما يتفق مع أولوياتها الإقليمية الأوسع. إن التوجه الذي تتبناه واشنطن الذي يتسم بالتغير المستمر يشكّل تناقضاً صارخاً مع الاستراتيجية الثابتة واضحة المعالم التي تتبناها طهران في البلاد، ولاسيما في الجنوب الشيعي.

التفضيلات والتوقعات

يرى الأكراد بايدن على أنه “صديق قديم” يمكنه مساعدتهم في الحصول على تنازلات من بغداد. إن المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها أربيل أسوأ كثيراً من تلك التي تعاني منها بقية البلاد. ولا تستطيع حكومة إقليم كردستان تغطية الرواتب في القطاع العام، وهي مثقلة بالديون، على الرغم من اتفاقها مع رئيس الوزراء الكاظمي بشأن المعابر الحدودية، ومخصصات الميزانية، والترتيبات الأمنية في سنجار. وعلاوة على ذلك، من المتوقع أن تتدهور العلاقات بين أربيل وبغداد بعد أن أقر مجلس النواب العراقي حزمة تخفيف عبء الديون في الميزانية بقيمة 10 مليار دولار أميركي من دون مشاركة كردية، الأمر الذي يلزم حكومة إقليم كردستان بتسليم كمية غير محددة من إنتاج النفط المتنازع عليه تأريخياً إلى بغداد في مقابل حصة من الميزانية الفيدرالية.  وفي حين أن حكومة إقليم كردستان قد تعود إلى استخدام ممارسات ضغط فعّالة في واشنطن التي قد يكون لها آذان صاغية في مجلس الشيوخ والبيت الأبيض -كما يتصور البعض- فمن غير المرجح أن تذهب إدارة بايدن إلى ما هو أبعد من دعم استقلال الأكراد. وفي نهاية المطاف، سوف تكون هناك عواقب جيوسياسية كبرى لأنقرة وطهران؛ إذا تعرضت سلامة أراضي العراق للخطر، ومن غير المرجح أن يخاطر بايدن في هذه المخاطرة.

أما ما يخص بقية العراق، فقد عمل السُنة على ترسيخ المكاسب السياسية ومكاسب الحكم الذاتي في العامين الماضيين. تمر الأنبار الآن بحملة طموحة لإعادة الإعمار، وتعود الحياة ببطء إلى طبيعتها في الموصل، وعلى الرغم من الصعوبات. لا يريد الأمريكيون تهديد هذا التقدم في مناطق غرب وشمال العراق الهشة والمعرضة للصراع، ولاسيما وأن تهديد تنظيم داعش والتطرف ما يزال يلوح في الأفق. فضلاً عن ذلك، يرى العرب السنة في العراق واشنطن كونها حليفاً طويل الأمد ضد النفوذ الإيراني في أراضيهم. ومع ذلك، فإن السنة منقسمون بين العديد من مراكز القوة. حتى وقت قريب كان أقوى مركز قوة يمثله محمد الحلبوسي الذي يشغل رئاسة مجلس النواب، لكنه يواجه أيضاً منافسة من الكتلة السنية المشكلة حديثًا بقيادة رئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي والنائب أحمد الجبوري مع شائعات حصولهم على الدعم الإيراني والتركي. وبما أن الأموال تخلق ولاءات في المناطق القبلية السنية، فإن التدخل الأجنبي في شؤون السنة يعدّ مصدراً للقلق المستمر. في عهد رئاسة بايدن، ما يزال من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة للانخراط في هذه المنافسات المحلية.

وفي جنوب العراق ذي الأغلبية الشيعية، نجحت واشنطن في إبعاد نفسها. من الناحية العملية، تنازل الأمريكيون عن السكان العرب في العراق وتسليم موارد البلاد للنفوذ الإيراني. حتى أعضاء المظاهرات الاحتجاجية النشطة في البصرة وذي قار ضد النخب الشيعية الحاكمة وداعميهم يشعرون بالإحباط بسبب إرث واشنطن الفاشل وهم قلقون من أي مشاركة أمريكية مستقبلية في الجنوب. فهم يرون أن واشنطن وطهران تتحملان القدر نفسه من المسؤولية عن وضع البلاد المزري الناتج عن عدة سنوات من سوء الإدارة من المسؤولين العراقيين الذين وصلوا إلى السلطة على خلفية الاتفاقات والتنازلات بين البلدين. يشير سجل بايدن في العراق إلى أنه من غير المرجح أن تُغَير الولايات المتحدة مسارها في الجنوب.

خطة بايدن الاستراتيجية (أو عدمها) للعراق

الحقيقة هي أن إدارة بايدن الجديدة سوف تكون لديها مخاوف أكثر إلحاحاً فيما يتعلق بالتعامل مع الشرق الأوسط. وفي المقام الأول من المرجح أن تحاول هذه الإدارة إصلاح علاقاتها مع إيران، بما في ذلك العودة المحتملة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، مع الأمل اليائس في كبح طموحات طهران الإقليمية الراسخة. وفضلاً عن ذلك، سيتعين عليهم أيضاً أن يتعاملوا مع أنقرة التي تتمتع بمصالحها ونفوذها الإقليمي والسياسي والاقتصادي. فضلاً عن التعقيدات الأخرى المتمثلة بزعماء مجلس التعاون الخليجي الشباب بأنهم لن يخجلوا من تأكيد سلطتهم، حتى ولو كانت هذه القوة بالسبل العسكرية، كما أظهرت الصراعات في اليمن وليبيا. ومع بقاء بغداد على الهامش، فمن المحتم أن يظل العراق مجرد جزء من لعبة أوسع وأكثر تعقيداً، ولاسيما مع طهران.

غالباً ما دافع بايدن عن موقفه وضلوعه السابق في العراق. إلا أن هذا أضاف إلى نظرة أوباما السابقة التي ترى العراق باعتبارها “خطأ بوش”، التي قد يجعل الرئيس الجديد غير مبالٍ بالديناميكيات العراقية، وهو ما قد يؤدي إلى عواقب خطيرة فيما يتعلق بالأمن العالمي. ولكن هناك أيضاً سؤال أكثر إلحاحاً يلوح في الأفق. وحتى إذا كان للولايات المتحدة أن تقدم تنازلات أكبر بشأن العراق لإيران أو حتى تركيا، فهل سيتبقى لها أي نفوذ لتتنازل عنها في هذه المرحلة؟

فضلاً عن ذلك، فإن موقف العراق لدى سياسة بايدن تجاه الشرق الأوسط سوف يتحدد إلى حد كبير من خلال خيارات التوظيف في وزارة الخارجية والبيت الأبيض. ورغم أن بايدن نفسه قد تجاوز وزارة الخارجية من قبل فيما يتعلق بالشؤون العراقية، إلا أنه نظراً إلى العدد الهائل من التحديات التي سيواجهها في الداخل والخارج، فمن المرجح أن قراراته بشأن العراق سيوجهها إلى حد كبير البيروقراطيون. تخلق هذه الديناميكية فرصة لبغداد للعب دور استباقي في إعادة تشكيل سياسة الولايات المتحدة تجاه البلاد، ولاسيما إذا كانت الإدارة الجديدة تجلب دبلوماسيين متمرسين على دراية بالمشهد العراقي. وسوف تتشكل هذه الديناميكيات أيضاً من خلال العناصر الفاعلة الجديدة الذين سيخرجون من الانتخابات البرلمانية العراقية العام المقبل، إذا تم انتخاب أي منهم بالفعل. والأهم من ذلك، أن رئاسة بايدن هي فرصة لإصلاح الأخطاء الأمريكية السابقة في العراق، ومراجعة إرثه هناك، وفرصة بأن تكون لبغداد آذان صاغية في واشنطن.

المصدر:

https://www.mei.edu/publications/between-trumps-iranian-lens-and-obamas-indifference-what-might-biden-presidency-mean