هاري استيبانيان: زميل أقدم في معهد الطاقة العراقي. لديه خبرة لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً في صناعات الطاقة والمياه في البلدان النامية، بما في ذلك جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط ونيوزيلندا وأستراليا.

في العاشر من تشرين الأول 2020، أصدرت حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الورقة البيضاء لإصلاح اقتصاد العراق.

لقد اتخذ مستقبل قطاع الطاقة مساحة كبيرة في الورقة جنباً إلى جنب مع الطلب المتزايد على الكهرباء في البلاد.ة، وتتضمن الورقة أيضاً خطة الحكومة العراقية للسنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة، في إطار الجهود الرامية إلى سد الفجوة بين الطلب والعرض التي تضخمت لتصل إلى 10.1 غيغاواط في عام 2019؛ أي أكثر من ثلث إمدادات البلاد من الكهرباء.

إن النقاط السبع للتدابير التقنية والإدارية التي يتعين على الحكومة أن تتخذها تهدف في المقام الأول إلى تحسين كفاءة إنتاج قطاع الكهرباء ونقله وتوزيعه، بما في ذلك إنشاء آلية تنظيمية لمراقبة أدائه.

منذ التظاهرات الشعبية في تشرين الأول 2019، والانخفاض المذهل في أسعار النفط، وانتشار فايروس كورونا تدهورت إمدادات الكهرباء بنحوٍ كبير في أشهر الصيف؛ وأدى انعدام الاستقرار السياسي في أعقاب استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي إلى توقف أغلب المشاريع وانحدار كبير في قدرة وزارة الكهرباء على تنفيذ أعمال الصيانة. وكانت النتائج قد وصلت إلى حد انقطاع طويل في الطاقة الكهربائية في العديد من أجزاء البلاد، ولاسيما في شهر تموز، حينما بلغ الطلب ذروته بسبب حرارة الصيف؛ ولقد أدى هذا بدوره إلى اندلاع احتجاجات ضخمة في العديد من المحافظات، ولاسيما في الجنوب، حيث ترتفع درجات الحرارة إلى ما يزيد على 54 درجة مئوية.

إن الزيادة السريعة في تعداد سكان العراق الذي يقدر بمليون نسمة سنوياً تتحمل المسؤولية عن ارتفاع الطلب على الطاقة الكهربية. وعلى الرغم من الاستثمارات الضخمة في المعدات والشبكات، إلا أن العراق لم يتمكن من مواكبة الطلب على الإمدادات الجديدة وتحسين البنية التحتية الحالية. وعلى وفق تقديرات معهد الطاقة في العراق فإن العراق سوف يحتاج إلى 40 مليار دولار من الاستثمار في قطاع الكهرباء لتحقيق الهدف المعلن المتمثل في توصيل الطاقة الكهربية بالكامل على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع بحلول عام 2030. وتشكل القدرات المؤسسية القوية للحكومة والمناخ الاستثماري المواتي من الشروط المسبقة المحتملة لتدخل الاستثمار الخاص.

في حين أن الورقة البيضاء تقدم خطة مفصلة لتطوير قطاع الكهرباء، مع التركيز على توليد المزيد من الكهرباء وتحسين الفواتير وتحصيلها، فإن المشكلة الأساسية الخاصة بنقص الكهرباء تكمن في قطاع التوزيع، إذ توجد عدة عوامل -من بينها الخسائر في خطوط النقل والتوزيع، والسرقة، والتلاعب- تسببت بفقدان أكثر من 58% من قدرة التوليد. وقد تمتعت شركات التوزيع المملوكة للحكومة باحتكار طبيعي جغرافي محلي، يشمل الشمال والجنوب والفرات الأوسط وبغداد، منذ البداية. ولكي يصبح قطاع الكهرباء قيد التشغيل ككيان تجاري -وهو مفقود حالياً في بنية شبكة الكهرباء- فلا بدّ من إنشاء شركة تنافسية للبيع بالتجزئة.

إن الإطار التنظيمي الحالي في العراق غير كافٍ لدعم تطوير تجارة التجزئة في مجال الكهرباء وتحريرها. فضلاً عن ذلك، فإن هذا القطاع يحتاج إلى البرلمان العراقي؛ من أجل تشريع العديد من القوانين الجديدة الخاصة بإدخال الطاقة الشمسية على الأسطح، وكفاءة الطاقة للأسر، وحساب صافي القيمة للسماح لعملاء التوليد الموزعين ببيع الكهرباء الفائض بسعر التجزئة وتلقي الائتمان على فاتورة الكهرباء؛ إذ سيعوض هذا الائتمان استهلاك العميل للكهرباء خلال الموسم المنخفض، ويقلل من كمية الكهرباء التي يشتريها المستهلكون حالياً من شركات التوزيع.

وقد عملت الحكومة بالفعل على تخصيص كيانات الإنتاج والنقل والتوزيع التابعة لها بعد تمرير قانون الكهرباء في عام 2017. ولكن الشركات في واقع الأمر موجودة بالاسم فقط، ولم يتم تشغيلها. وعلى الرغم من تحويل الموظفين إلى هذه الشركات، فإن عمليات الشركة الأنموذجية لم تنفذ بعد؛ بل إنهم لم يؤدوا سوى وظائف إدارية بدائية، مثل تقديم ملخصات شهرية للإنفاق إلى وزارة الكهرباء من دون إنتاج حسابات الشركات أو زيادة رأس المال للاستثمار. ومن هنا فإن الحكومة العراقية لا بدّ من أن تبدأ على الفور في تقييم الشركات المملوكة للدولة، وتسجيل التزاماتها، والتخطيط لإعادة جدولة ديونها، وتنفيذ معايير التمويل بما في ذلك نسبة التمويل الذاتي، وتحويل الوظائف المالية والتخطيطية والإدارية إلى الدوائر الحكومية. وكانت هناك تأخيرات في عملية تنفيذ الخصخصة؛ لعدم التيقن في السياسات العامة والحساسية السياسية بشأن مسألة الخصخصة. وسوف تتطلب أي خريطة طريق خاصة بإنشاء الشركات في المستقبل ضمان فصل حوكمة الشركات والخصخصة.

وفي الوقت نفسه، يتعيّن على الحكومة العراقية أن تعمل على إنشاء هيئة تنظيمية للكهرباء من أجل تيسير المعاملات المالية بين شركات التوليد والتوزيع (البيع بالتجزئة). إن أي إصلاح لقطاع الكهرباء سوف يشهد في نهاية المطاف تغييراً في ملكية الأصول والتحول نحو الفصل بين الاحتكار الطبيعي للحكومة العراقية والأصول والخدمات القابلة للمنافسة في كل أجزاء سلسلة إمداد الطاقة. ومن المتوقع أن يسمح الإصلاح للحكومة العراقية بالاحتفاظ بالملكية الحالية لخدمات النقل وتوليد الطاقة، في حين سيتم فصل أنشطة التوزيع وتجارة التجزئة تحت ملكية المؤسسة المستقلة المملوكة للدولة، أو الحكومات المحلية، أو الشركات الخاصة، أو الصناديق المملوكة للمجتمع التي تعمل ضمن امتياز جغرافي قانوني.

وبحلول نهاية عملية الإصلاح سوف يتم فصل قطاع الكهرباء إلى جزأين منفصلين. سيتضمن الأول دعم الطاقة الكهربائية الناتجة عن انخفاض أسعار التكلفة، مع قياس التكلفة باعتبارها تكاليف محاسبية. أما الجزء الآخر فسوف يكون الجزء القابل للنزاع ـالتوليد، والبيع بالتجزئة- حيث يمتزج بين الملكية الحكومية والخاصة. وستقدم الحكومة الدعم لقطاع الطاقة لأكثر من 5.6 مليون دولار يومياً. وهذا مبلغ استثنائي في ضوء الاحتياجات التمويلية لقطاعات أساسية أخرى مثل التعليم والرعاية الصحية. وتقدم وزارة المالية إعانات الكهرباء لتسديد المبالغ اللازمة عن وزارة الكهرباء مقابل تقديم الدعم لعملائها. فمنذ عام 2008، تجاوز حجم إعانات الدعم والإهدار الناتج عن ضعف تحصيل العائدات المبلغ النظري الذي بلغ 55.7 مليار دولار، وبدأ في إضعاف القاعدة الرأسمالية للحكومة العراقية خلال الضائقة الاقتصادية الحالية.

وتشير الورقة البيضاء إلى أن التعريفات الحالية للكهرباء بعيدة كل البعد عن تحقيق أهداف الحكومة في خفض الدعم. ولابد من تحديد مبلغ الدعم والنسب المئوية استناداً إلى معايير إعادة التوزيع التي لا بد من أن تميز السكان ذوي الدخل المنخفض -نحو 20% من إجمالي سكان العراق- بدلاً من 36% من المستهلكين الذين يستفيدون حالياً من التيار الكهربائي الرئيسي الذي يصل لـــ  1500 كيلو واط/ساعة شهرياً. لقد كان العراقيون مهتمين في المقام الأول بمسألة القدرة على تحمل التكاليف، وموثوقية الإمدادات، والشفافية، وقضايا المساءلة. ولكي يكون إصلاح الكهرباء مقبولاً على المستوى السياسي فيجب أن يعالج كل من هذه القضايا بالاستعانة بخطة عمل واضحة وجدول زمني للتنفيذ الناجح. ومن الممكن معالجة القدرة على تحمل التكاليف في الأمد القريب بإدخال آليات دعم أكثر فعالية للأسر ذات الدخل المنخفض. وفضلاً عن ذلك، ينبغي اتخاذ إجراءات ملموسة لتحسين الشفافية والمساءلة، ولاسيما فيما يتعلق بنظام الفوترة، عبر تدريب الموظفين، وآليات معالجة المظالم، وذلك في محاولة لبناء الثقة.

والواقع أن إعادة الهيكلة التدريجية وزيادة التعريفة الحالية وإلغاء الدعم لصالح الفئات الأكثر ضعفاً من شأنها أن تعمل في نهاية المطاف على إزالة العجز المالي الذي يعاني منه القطاع وإنشاء ميزانية متوازنة. وهذا بدوره من شأنه أن يقلل من العبء المالي الذي يتحمله المواطنون العراقيون نتيجة لاستخدام المولدات الخاصة المكلفة؛ وبالتالي فإن السياسة التي تنتهجها الحكومة في الفترة المقبلة لابد أن تتضمن زيادة تدريجية في تعريفة الكهرباء، إذ تقترب معدلات الكهرباء ببطء من مستويات استرداد التكاليف، وهذا يتطلب وقتاً طويلاً لبلوغ المستوى الحالي لتغطية التكاليف.

ولا بدّ من أن تكون الزيادة التدريجية في التعريفة مقترنة بتحسينات قابلة للقياس في مجال توفير خدمات الكهرباء؛ بهدف تحقيق هدف الحكومة الذي وعدت به لمدة طويلة والذي يتلخص في توفير خدمة كهربائية مستدامة على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع. ومن المؤكد أن إدخال إعدادات بديلة لأسعار التعريفة، إلى جانب تنفيذ خطط القياس المتقدمة، من شأنه أن يعمل على تيسير أنماط الاستهلاك على مدار اليوم. يجب مراجعة وضع التعريفة باستمرار لتظل متماشية مع الميزانية المالية، مع مراعاة التنوع في الموارد التقليدية والمتجددة. ولا ينبغي لهذا أن يشكل عبئاً على المستهلكين أو المال العام. بل سيتم استخدامه كأداة مرنة لتعزيز المساواة بين مختلف مجموعات العملاء وتوفير الإيرادات اللازمة لوزارة الكهرباء.

إن الطريق نحو إمدادات الطاقة الكهربائية المستدامة في العراق ليس يسيراً بأي حال من الأحوال، ولكن الحل موجود بكل تأكيد. وعلى الرغم من أن الورقة البيضاء قدمت عدداً من التوجهات في التعامل مع القضايا الحالية، فإن كل هذه الإصلاحات سوف تتطلب -بلا أدنى شك- قدراً كبيراً من الجهد والتفاني بالنيابة عن الحكومة. ويتعين على العراق أن ينظر في الفوائد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الطويلة الأجل التي قد تعود على شعبه من قطاع الطاقة. إن الاستثمار في إصلاح قطاع الطاقة اليوم من شأنه أن يمهد الطريق نحو مستقبل آمن للطاقة في المستقبل.

المصدر:

https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/iraqs-economic-white-paper-misses-a-key-issue-for-the-energy-sector/