حامد كاظم زاده إيرانشهر: باحث في مركز دراسات السلام والصراع بجامعة أوتاوا.

لم تعد الخطابات التي يلقيها رجب طيب أردوغان تتسم بالنحو الأنموذجي لخطاب اعتيادي يلقيه أي رئيس للجمهورية، فإنه منذ سنوات يُظهر نفسه وكأنه خليفة وسلطان يسير على خطى أسلافه السلاطين، سلطان للشباب الأتراك والتيار القومي التركي، وخليفة للإسلاميين والإخوان المسلمين من ليبيا وفلسطين إلى قيرغيزستان وكازاخستان. لقد ارتدى عباءة السلطان والخليفة وامتطى فكرة “العثمانية الجديدة” وحمل السيف. لقد أظهر خطابه الأخير بشأن اليونان شعوره بالغطرسة واتخاذه سياسة إقليمية أحادية الجانب، وقال في 30 آب: “لسنا أمة مقابل عدو واحد، إنما نحن أمة واحدة وكلنا جيش واحد وجيشنا مستعد للتضحية والاستشهاد من أجل الوطن والأمة”. إن الابتعاد عن عقيدة العمق الاستراتيجي لحزب العدالة والتنمية الحاكم  في عام 2002، والتي قدمها وسعى إلى تطبيقها داود أوغلو، أدى إلى صراع مع جميع الجيران، وتسبب في مسافة كبيرة بحجم التأريخ.

يذكر داود أوغلو في كتابه العمق الاستراتيجي، المبادئ الرئيسة الخمسة للسياسة الخارجية التركية كالآتي:

1) إنشاء دائرة نفوذ لتركيا من خلال توسيع الأمن والديمقراطية.

2) تسوية المشكلات مع دول الجوار.

3) تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية وتقويتها مع دول الجوار وأبعد منها.

4) اعتماد استراتيجية التعددية في السياسة الخارجية.

5) تبني الدبلوماسية الإيقاعية.

يعتقد جميع الخبراء تقريباً أنه في العقد الثاني من هذه السياسة، سارت جميع المحاور الخمسة في الاتجاه المعاكس، وأصبح أردوغان أكثر عزلة في المنطقة وبين جيرانه، وتدهورت حالة الاقتصاد والتجارة أيضاً. لقد كان أحياناً خليفة، إذ تبلور ذلك في محاولته الأخيرة لإعادة فتح جامع آيا صوفيا وكان أحياناً يمثل دور السلطان من طريق خطابه ضد اليونان. وهي تحركات رمزية تسعى فقط إلى إخفاء ضعف الحكومة في السياسات الاقتصادية والأمنية؛ سياسات فاشلة في الأناضول وسوريا، والعراق، وأرمينيا، وقبرص، وشمال أفريقيا، وفي الحوار مع أوروبا أيضاً.

إن ذروة التضخم وانحدار الاقتصاد بدأ يمر في ظل التبختر والإيماءات القومية والتدين المتمثل في الفردية في تركيا الكمالية. وعلى وفق منطق العمق الاستراتيجي، فإن الشرق، والغرب، والعلمانية، والإسلاموية، والحداثة، والتقاليد يجتمعان معاً في تركيا. وكان الهدف من السياسة الخارجية الخالية من الصراع هو الحفاظ على العلاقات مع الجيران والجهات الفاعلة الإقليمية والدولية. وهذا النهج السياسي، قلب تركيا رأساً على عقب في العقد الثاني من خلال معارضة الجميع، على الصعيدين العالمي والإقليمي. وفي هذا المقال، لا نريد الحديث عن الأسباب التي جعلت تركيا أن تكون بهذا الشكل.

وعد السلطان الجديد شعبه بأن تركيا ستزيد من التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط، متباهياً باكتشاف حقل نفط ضخم في البحر الأسود. إن وصول سفينة “أوروتش رئيس” التركية للأبحاث، والتي ترافقها سفن حربية تركية للتنقيب عن موارد النفط والغاز في مياه البحر الأبيض المتوسط، جعلت اليونان تقوم بإجراء مناورات عسكرية في 25 آب، وذلك بمشاركة قواتها البحرية والجوية في جنوب شرق جزيرة كريت وجنوب جزيرة كاستيلو اليونانية، وبمشاركة قوات متعددة الجنسيات حتى من العرب أيضاً، وجرت المناورات بالقرب من سفينة الأبحاث التركية. وحذر الرئيس التركي اليونان من تصعيد التوترات في الشرق الأوسط بعد هذه المناورات العسكرية، قائلاً: إننا مستعدون للحرب.

الخلفية

لقد كانت تركيا واليونان على خلاف منذ اكتشاف احتياطيات النفط والغاز في شرق البحر المتوسط. إذ تزعم اليونان والاتحاد الأوروبي أن تركيا تقوم بالحفر والتنقيب في هذه المناطق بنحو غير قانوني، لكن تركيا تدعي أن المنطقة هي جزء من منطقتها الاقتصادية الخاصة. في العام الماضي، طورت تركيا عمليات الحفر والتنقيب في المياه الغربية لقبرص. لقد تم تقسيم هذه الجزيرة منذ عام 1974، وأنقرة هي الوحيدة التي اعترفت بالجزء الشمالي الخاضع للسيطرة التركية كدولة مستقلة. ولطالما طالبت تركيا بضرورة الاستفادة من الموارد الطبيعية لجزيرة قبرص بنحو مشترك. وفي تشرين الثاني من 2019، وقعت أنقرة اتفاقية مع ليبيا تقول تركيا إنها أدت إلى إنشاء منطقة اقتصادية خاصة تمتد من الساحل الجنوبي لتركيا إلى الساحل الشمالي الشرقي لليبيا. واعتبرت مصر الاتفاقية بأنها غير قانونية، وتقول اليونان إنه من الغريب أن تتجاهل الاتفاقية جزيرة كريت اليونانية الواقعة بين البلدين.

قال نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي في شهر تموز: “يجب على الجميع القبول بعدم إبعاد تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية من حصة متساوية من الطاقة في البحر المتوسط”. وفي 6 آب ردت اليونان ومصر من خلال التوقيع على اتفاقية إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة، حيث قالت اليونان إن هذه الاتفاقية ستؤدي إلى إلغاء الاتفاقية التركية الليبية. وتوسطت ألمانيا بين تركيا واليونان في تموز، ووافقت تركيا على تعليق التنقيب في المنطقة مؤقتاً. وعلى الرغم من ذلك -بعد اتفاق اليونان ومصر على حقوق التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة- استأنفت تركيا التنقيب عن الطاقة الأسبوع الماضي. هناك خلافات حول دعاوى الملكية في بعض المناطق، ويقول كلا البلدين إن هذه المناطق تعود ملكيتها إلى جرفها القاري، فالعديد من الجزر اليونانية في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط قريبة من الساحل التركي، ونتيجة لذلك، أصبحت المياه الإقليمية قضية معقدة، ودفعت في الماضي البلدين إلى حافة الحرب.

وقد أعلنت فرنسا أنها تريد تعزيز وجودها العسكري في شرق البحر المتوسط، إذ قال مكتب الرئيس ماكرون في بيان إن فرنسا تعزز وجودها العسكري مؤقتاً “لكي تقوم بمراقبة الوضع في المنطقة وتُظهر التزامها بحماية القانون الدولي”. لقد تصاعد الخلاف بين فرنسا وتركيا، ولاسيما عندما انتقد رجب طيب أردوغان نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل عام لتصريحاته بشأن الناتو. وأكد أردوغان في مخاطبته ماكرون: “عليه أن يتوجه بنفسه إلى طبيب لإجراء فحص لرأسه والسيطرة على حالة الموت السريري لديه، قبل أن يعلن عن موت دماغ حلف شمال الأطلسي”.

النتيجة

أعتقد أنه مع كل هذه التحديات والتوترات، لن يحدث أي عمل عسكري في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وسيحاول الاتحاد الأوروبي إرضاء تركيا، وستواصل تركيا ركوب خيولها السلجوقية والعثمانية. قد تكون تغريدة متين جلونك، النائب عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، ملخصاً لسياسة تركيا على مدى السنوات القليلة الماضية، إذ دعا أردوغان لإحياء “تركيا الكبرى”. وتُظهر الخريطة التي نشرها قبرص وأرمينيا ونصف بلغاريا ومناطق واسعة من جورجيا وسوريا والعراق وشمال اليونان وجزر بحر إيجة الشرقية، وحتى أجزاء من إيران كجزء من تركيا. وواصل كذلك مشيراً إلى انتصار السلاجقة على الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وكتب في تغريدة أخرى: “أحفاد أولئك الذين يعتقدون أنهم سيخرجوننا من الأناضول يحاولون اليوم إخراجنا من البحر الأبيض المتوسط، ليس لدي شك في أنهم سينهزمون في البحر الأبيض المتوسط… (إن روح الانتصار في معركة ملاذكرد[1] ما تزال حية)… ستبقى الحكومة التركية وضرورة الاستجابة لروح الأمة قائمة ونشطة في جميع المجالات.”

إن العمليات العسكرية في ليبيا، والضربات الجوية في العراق وسوريا، والتوترات مع اليونان في بحر إيجة، وإنشاء قواعد عسكرية جديدة، وزيادة الاستثمار في الدفاع، كلها تأتي ضمن عسكرة تركيا على مدى العقد الماضي. إن تبني استراتيجية بحرية تسمى “الوطن الأزرق” -التي تعطي الأولوية للقضايا الأمنية في شرق البحر الأبيض المتوسط- تعد أحد إنجازات السياسة الخارجية للعقد الثاني من حياة أردوغان السياسية. لم تعد سلطة أردوغان مقتصرة على الإسلاميين الأتراك. إن القوات العسكرية القومية التركية تصول وتجول اليوم في العراق وسوريا وأفغانستان وقبرص وليبيا. فلم يعد الجيش يهدد سلطة أردوغان فحسب، بل يسعى أيضاً إلى تحقيق أهداف سلطته في الداخل والخارج، ويمتلك قواعد عسكرية في ألبانيا وجمهورية أذربيجان وقطر والصومال. لقد كان أردوغان ذات يوم السلطان عبد الحميد الثاني الجديد، والذي اتبع سياسة القومية الإسلامية في غرب آسيا وأوروبا الشرقية، ولكنه الآن يعتبر نفسه ألب أرسلان السلجوقي، الذي أخذ يقارع المسيحيين.

أصدر مكتب الاتصالات التابع للرئاسة التركية في 24 أغسطس، فيلماً دعائياً كان عبارة عن مزيج من القومية والإسلاموية. ويربط هذا الفيلم الذي تبلغ مدته أربع دقائق والمعروف باسم نشيد التفاح الأحمر، المعارك التأريخية بالأحداث السياسية المعاصرة. لقد تم إصدار هذا الفيلم القصير في ذكرى معركة ملاذكرد التي وقعت عام 1071م. وينتهي الفيلم بلقطات جوية من المسجد الأقصى في القدس، ومن الواضح أن هذه إشارة إلى تصريحات أردوغان، الذي قال إن عملية تحويل آيا صوفيا إلى مسجد تبشر بتحرير القدس.

لقد عاد الخلاف التركي مع اليونان إلى الظهور قبل بضعة أشهر، حيث استخدمت تركيا اللاجئين السوريين كسلاح إنساني على الحدود اليونانية، ثم تحول متحف آيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد دائم. وعلى أي حال، تحاول اليونان استخدام نفوذ الاتحاد الأوروبي لممارسة المزيد من الضغط على تركيا وحل أمن الطاقة لديها من خلال المساومة الأوروبية. ومن ناحية أخرى، ستستغل تركيا الناتو أكثر من ذي قبل لحل خلافاتها مع اليونان، وستحاول أن تنفذ سياستها عن طريق العسكرة.


المصدر:

https://b2n.ir/768798

[1]– معركة ملاذكرد (بالتركية: Malazgirt Meydan Muharebesi) هي معركة دارت بين الإمبراطورية البيزنطية والسلاجقة الأتراك في 26 آب 1071 بالقرب من ملاذكرد (ملازغرد حاليا في محافظة موش، تركيا). لعبت الخسارة الحاسمة للجيش البيزنطي وأسر الإمبراطور رومانوس الرابع ديوجينيس دورا مهما في ضعضعة الحكم البيزنطي في الأناضول وأرمينيا، وسمحت بالتتريك التدريجي للأناضول.