كويرت ديبوف: باحث في جامعة بروكسل، وزميل باحث زائر في جامعة أكسفورد، ومدير معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط في أوروبا.

كتب مصطفى كمال أتاتورك في رسالة في صيف عام 1914: “هذا أمر خطير جداً. ومن غير الواضح أي طريق سنسلك”. كانت ألمانيا قد غزت بلجيكا الآن، ووجدت الإمبراطورية العثمانية، التي شكلت تحالفاً مع ألمانيا، نفسها بعد ذلك متورطة في حرب عالمية، وكان أتاتورك على حق، إذ أدت الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الإمبراطورية العثمانية البالغة من العمر 600 عام.

واليوم يبدو أن تركيا تتجه نحو الحرب مع أوروبا مرة أخرى، إذ تتحدث اليونان بلغة الحرب، بينما تقول تركيا إنها لن تساوم، وستواصل بحثها عن النفط والغاز في المياه التي تطالب بها اليونان في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهذا ليس مجرد نزاع ثنائي آخر بين دولتين متجاورتين؛ بل الأمر أكبر بكثير، وإذا لم تنتبه أوروبا، فستتورط بصراع متنام في الشرق الأوسط.

كان الوضع قبل الحرب العالمية الأولى مشابهاً لما نراه اليوم في البحر الأبيض المتوسط، فبحلول عام 1914، اتحدت القوى الأوروبية في تحالفين معاديين: شكلت ألمانيا، والنمسا، والمجر، وإيطاليا قوات المحور، بينما كانت بريطانيا العظمى، وفرنسا، وروسيا جزءاً من التحالف الثلاثي (الحلفاء)، وكانت الحرب ضد إحدى الدول تعني الحرب على التحالف بأكمله. واليوم، هناك نوعان من التحالفات أيضاً.

قد يتوقع البعض أن يكون المعسكران هما الدول السنية مقابل الشيعية؛ لكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. فمن جهة، هناك “التحالف الثوري” لتركيا، وقطر، والإخوان المسلمين، والجماعات الإقليمية، وإيران. ومن ناحية أخرى، نرى “اتفاق الوضع الراهن” بين السعودية، ومصر، والإمارات، وإسرائيل.

لم يعد التنافس بين هاتين “الكتلتين” يدور فقط في الشرق الأوسط، ولكن أيضاً في شرق البحر المتوسط، كما يظهر الصراع الأخير بين تركيا، واليونان.

ولا يتعلق الأمر بحوادث معزولة تدور حول موضوع معين -مثل الغاز أو استخراج النفط-، ولكن يتعلق بصراع معقد للحفاظ على المصالح في مسرح واسع يمتد من اليونان، وليبيا؛ وصولاً إلى إيران. وفي الوقت نفسه، نرى أن بعض الدول الأوروبية تنحاز إلى أحد التحالفات في الشرق الأوسط بوضوح. إذ تدعم فرنسا، واليونان، وقبرص اتفاق الوضع الراهن، بينما تبدو إسبانيا، ومالطا أكثر استعداداً لدعم التحالف الثوري، وتتنقل إيطاليا بين الاثنين اعتماداً على الملف.

لكن قبل أن نتعمق أكثر في هذا الارتباط الأوروبي الخطي، نحتاج إلى توضيح تحالفات الشرق الأوسط نفسها.

الثورة مقابل الوضع الراهن

تعود أصول التحالف الثوري إلى عام 1928، عندما تأسست جماعة الإخوان المسلمين لمقاومة التدخل الاستعماري الأوروبي في الشرق الأوسط، ولإعادة إقامة الخلافة الإسلامية التي ألغاها أتاتورك. ونظر هؤلاء بتعاطف كبير إلى الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. وبعد الربيع العربي في عام 2011، أصبحت جماعة الإخوان المسلمين أقرب إلى السلطة في المنطقة.

دعمت قطر هذا الاتجاه، في حين أصبح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المثال الرائد لكيفية الجمع بنجاح بين الإسلام والديمقراطية؛ وقد أدى ذلك إلى دخول تركيا، وقطر، والإخوان المسلمين، وإيران إلى المعسكر نفسه. وبالنسبة للسعودية، فقد مثّل الربيع العربي كابوساً، فالسعوديون مرعوبون من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط لأسباب اقتصادية ولخوفهم من حدوث ثورة في بلدهم، والشيء نفسه ينطبق على الإمارات، فحينما عزل الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي أول رئيس منتخب للبلاد (الإخوان المسلمين) محمد مرسي، ولد اتفاق الوضع الراهن. وجعل استمرار أردوغان في دعم الإخوان المسلمين من السيسي عدواً لدوداً له.

أما إسرائيل فتفضل الاستقرار، إذ ابرمت اتفاق سلام مع مصر منذ عام 1979، وأبرمت اتفاقية سلام مع الإمارات في 13 آب من هذا العام؛ وبهذه الطريقة، أصبحت العلاقة بين السعودية، ومصر، والإمارات، وإسرائيل أكثر وضوحاً، قد يجادل البعض بأن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك ففي حرب سوريا تتخذ إيران وتركيا جانبين متعارضين. وتتقاطع تركيا ومصر في ليبيا، حيث تقدم كل منهما الدعم العسكري لأطراف النزاع.

ومثال آخر هو قطر، فعندما فرضت السعودية، والإمارات، ومصر حصاراً عليها في عام 2017، أرسلت تركيا على الفور 3000 جندي إضافي إلى شبه الجزيرة، بينما فتحت إيران مجالها الجوي لجميع رحلات الخطوط الجوية القطرية، ونرى التحالفات نفسها تضيف إلى التصعيد الحالي في شرق البحر الأبيض المتوسط.

انحياز الأوروبيين

تنخرط الدول الأوروبية أيضاً في هذه التحالفات؛ فمن أجل تسهيل التنقيب عن النفط، أبرمت مصر اتفاقيات بحرية مع اليونان، وقبرص، وإسرائيل، في حين توصلت تركيا إلى اتفاق منافس مع الحكومة الرسمية في ليبيا، وكلتا الصفقتين البحريتين متنازع عليهما من قبل الجانب الآخر. وتعتقد تركيا أن ليس لمصر أي نشاط في المياه المحيطة بقبرص، بينما لا تود مصر رؤية السفن العسكرية التركية قبالة سواحل ليبيا. ومع تصاعد التوترات بين اليونان وتركيا -وهما عضوان زميلان في الناتو- تطلب فرنسا من الناتو، والاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على تركيا.

ومن ناحية أخرى، أبرمت إسبانيا اتفاقية تجارية ثنائية مع تركيا في 27 تموز الماضي، وتجري محادثات تجارية مع إيطاليا. وقررت كل من ليبيا وإيطاليا ومالطا وتركيا تعزيز التعاون بينهم. وبينما انحازت دول الشرق الأوسط إلى أحد التحالفين الأوروبيين في الحرب العالمية الأولى، تميل الدول الأوروبية الآن نحو معسكرين مختلفين في الشرق الأوسط؛ إذ تدعم فرنسا واليونان وقبرص اتفاق الوضع الراهن، في حين أن إسبانيا ومالطا تتفقان مع التحالف الثوري، وتترنح إيطاليا بين التحالفين.

المخاطر أكبر بكثير

استهدفت سفينة تابعة للبحرية التركية فرقاطة فرنسية في تموز حينما كانت الأخيرة تحمي شحنة متجهة إلى ليبيا. واصطدمت سفينتان عسكريتان يونانية وتركية في 12 آب الماضي. وقد أرسلت فرنسا فرقاطات وطائرات مقاتلة إلى اليونان، بينما أرسلت الإمارات طائرتي إف-16، وهددت مصر بعمل عسكري ضد تركيا في ليبيا.

لا تريد أي دولة حرباً عظمى، فالدول تريد فقط حماية المصالح الوطنية، تماماً كما فعلت في عام 1914. لكن إذا كسرت الدول الأوروبية وحدتها ووقعت في صراع محتدم، فإن كل شيء ممكن مرة أخرى؛ وحينها سيتضح ما قاله أتاتورك: “هذا أمر خطير جداً. ومن غير الواضح أي طريق سنسلك”.

المصدر:

https://euobserver.com/foreign/149254