د. خطاب عمران صالح: دكتوراه اقتصاد كلي، جامعه تكريت.

في إطار البحث عن حلول لأزمة تمويل الرواتب التي يعاني منها العراق منذ آذار 2020، وحتى الآن بسبب انخفاض أسعار النفط، رصدنا دعوة عضو اللجنة المالية البرلمانية النائب محمد صاحب الدراجي وغيره من المختصين لخفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي، وقد سوقوا دعواتهم هذه على أنها حلٌّ للأزمة المالية الحالية، ووسيلة للنهوض بالقطاعات الإنتاجية، وتنمية الاقتصاد العراقي([1]).

نورد لكم في ما يأتي تحليلنا لمبررات ومخاطر خفض قيمة الدينار العراقي:

أولاً: في مجال مواجهة أزمة دفع الرواتب:

خفض قيمة الدينار العراقي تعني قيام البنك المركزي العراقي برفع أسعار بيع الدولار في نافذة بيع العملة؛ بهدف زيادة إيرادات الدولة بالدينار، وتوفير موارد مالية إضافية للخزينة، للتخفيف من أزمة دفع الرواتب، ولو فرضنا اتخاذ القرار برفع سعر الدولار أمام الدينار بنسبة (25%)، سوف يؤدي ذلك إلى رفع سعر صرف الدولار من (100 دولار = 119000 دينار “السعر الرسمي الحالي”) إلى (100 دولار = 148750 ديناراً “زيادة 25%”)؛ الأمر الذي سيزيد إيرادات الدولة من بيع الدولار بنسبة (25%).

وعلى وفق بيانات البنك المركزي العراقي في الأول من تموز 2020، فقد باع البنك المركزي العراقي (249.5) مليون دولار بسعر (1 دولار = 1190 دينار) بإيرادات بلغت (296.310) مليار دينار([2]).

وفي حال رفع سعر صرف الدولار بنسبة (25%) فسترتفع الإيرادات الشهرية بواقع (296.5 مليار دينار مضروبة بـ25% مضروبة بـ22 يوماً) = 1.630 ترليون دينار شهرياً، وهو مبلغ قليل نسبياً قياساً بحجم الرواتب الشهرية والنفقات التشغيلية الضرورية الذي يتجاوز 7.5 ترليون دينار شهرياً، ويبلغ نسبة (21.7%) من حجم الرواتب والنفقات التشغيلية الضرورية الشهرية([3]).

إن تطبيق مثل هذا الإجراء سوف يقضي على حالة الاستقرار الاقتصادي العام التي نجح البنك المركزي العراقي في بنائها والحفاظ عليها منذ عام 2004، وسوف يحدث موجات تضخمية كبيرة (ارتفاع المستوى العام للأسعار) تفوق نسبة خفض قيمة الدينار المفترضة (25%)، تحت تأثيرات انهيار الثقة بالدينار العراقي والنظامين النقدي المالي برمتهما، واتجاه الأفراد والشركات للتخلي عن الدينار وشراء الدولار للاستخدامات المختلفة.

بلغت قيمة واردات العراق من السلع الأجنبية (45.736) مليار دولار عام 2018([4])، وإذا ما علمنا أن معظم السلع الاستهلاكية والمعمرة في الأسواق العراقية هي سلع أجنبية مستوردة بالدولار الأمريكي، فلنا أن نتوقع ارتفاع أسعارها بعد رفع سعر صرف الدولار أمام الدينار بنسب مرتفعة؛ بسبب توقعات المستهلكين وأدوار المضاربين والتجار، ومنها الأغذية، والأدوية، والملابس، والمواد الإنشائية، والوقود، والمواد الكيمياوية، وغيرها من السلع الضرورية.

ارتفاع أسعار السلع الأجنبية سوف يؤدي إلى رفع أسعار السلع والخدمات المنتجة محلياً كجزء من حالة التضخم العامة في الأسواق؛ بالتالي نتوقع ارتفاع تكاليف إيجارات المنازل والمحال التجارية، وخدمات البيع بالجملة والمفرد، والنقل، والبناء، والخدمات كافة التي يقدمها القطاع الخاص بنسب تتجاوز (25%)، ووحدها الدولة سوف تتمكن من الإبقاء على أسعار منتجاتها دون ارتفاع، ومنها أسعار المنتوجات النفطية والضرائب والرسوم.

يتضح مما تقدم أن رفع سعر صرف الدولار الأمريكي المفترض بنسبة (25%) سوف يؤدي إلى انخفاض القيمة الشرائية للدينار العراقي بنسبة قد تتجاوز (25%)؛ وبالتالي سوف تنخفض كمية السلع والخدمات التي يشتريها الموظف الحكومي والعامل في القطاع الخاص؛ بسبب ارتفاع أسعار السلع والخدمات الناجم عن ارتفاع قيمة الدولار وانخفاض القدرة الشرائية للدينار.

نستنتج مما تقدم أن قرار خفض قيمة الدينار العراقي ينطوي على مخاطر اقتصادية واجتماعية خطيرة، منها: إنهاء حالة الاستقرار الاقتصادي، والدخول في موجات تضخمية عميقة، وانخفاض مستويات المعيشة، ودخول شرائح واسعة من السكان تحت مستوى خط الفقر الذي بلغت نسبته في العراق (23.5%) عام 2019([5])؛ بسبب انخفاض كمية السلع والخدمات التي يمكنهم الحصول عليها مقابل القيمة الشرائية لمرتباتهم وأجورهم، وهو قرار يحمل السكان ثمن فشل الحكومات في بناء الاقتصاد، وتنميته إبّان السنوات السابقة من طريق إفقارهم، وخفض ومستويات معيشتهم.

ثانياً: في مجال النهوض بالقطاعات الإنتاجية:

يعوّل دعاة رفع أسعار صرف الدولار وخفض قيمة الدينار العراقي على إمكانية إنتاج العديد من السلع الأجنبية محلياً، عبر رفع أسعارها في الأسواق العراقية؛ بهدف مساعدة المنتجين العراقي على إنتاجها، متناسين حالة الانهيار الكبير في قطاعات الإنتاج الحقيقي العراقي؛ بسبب ظاهرة الإغراق السلعي التي يتعرّض لها العراق منذ عام 2003 من أكبر مصدري العالم، ومنهم الصين، وتركيا، وإيران، حيث تتمتع هذه الدول بميزات تنافسية كبيرة تستند إلى قواعد إنتاجية واسعة خفّضت كلف الإنتاج بفضل الدعم الحكومي، وانخفاض عملاتها وتكاليفها الإنتاجية؛ الأمر الذي سشكل حاجزاً أمام أي محاولة للنهوض بالإنتاج الزراعي والصناعي في العراق، ما لم يُسيطر على المنافذ الحدودية، ويُنفّذ قانون تعرفة كمركية عراقي يوفر الحماية للإنتاج الوطني، بفرض قيود ضريبية وكمركية تمنع دخول السلع التي يمكن إنتاجها محلياً، أو ترفع أسعارها فوق تكاليف إنتاجها في العراق، ولا بدّ من الإشارة إلى أن خفض قيمة العملة العراقية -بهدف التصدير- يمكن أن يكون من خيارات التنمية الاقتصادية بعد إنعاش القطاعات الاقتصادية المذكورة، وتمكينها من الإنتاج؛ بهدف إحلال الواردات، من ثم تأهيلها لمرحلة الإنتاج بهدف التصدير.

وأخيراً لا بدّ من التأكيد على أن نهج الحكومة العراقية الحالية في خفض النفقات العامة غير الضرورية، من مثل: إلغاء الرواتب المزدوجة، واللجوء للاقتراض الداخلي والخارجي المقنن، والادخار الإجباري للرواتب المرتفعة، يعدُّ من أفضل الحلول الواقعية لعبور الأزمة الحالية، على أن تنفذ بالتزامن معهُ حملات حكومية جاده لمكافحة ظاهرة الفساد، وضبط المنافذ الحدودية، وتنفيذ الاتفاق السابق مع إقليم كردستان بتسليم قيمة تصدير (250) ألف برميل يومياً للحكومة المركزية من صادرات نفط الإقليم.


[1]مقابلة تلفزيونية أجراها عضو اللجنة المالية النيابية النائب محمد صاحب الدراجي على قناة آفاق الفضائية بتأريخ 21/5/2020، متاحة على شبكة الإنترنت:

 https://www.youtube.com/watch?v=C3U55lfQ4Jo.

[2] نتائج نافذة بيع العملة الأجنبية ليوم الأربعاء 1 تموز 2020، موقع البنك المركزي العراقي: https://www.cbi.iq/currency_auction .

[3] اللقاء التلفزيوني الذي أجراه المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي مظهر محمد صالح مع قناة العراقية الفضائية بشأن الأزمة المالية وتداعياتها بتأريخ 3/5/2020، متاح على شبكة الإنترنت: https://www.youtube.com/watch?v=WXgfXF3Fx0M.

[4] التقرير الاقتصادي السنوي للبنك المركزي العراقي، البنك المركزي العراقي، ص: 46، بغداد، 2019.

[5] العراق: الآفاق الاقتصادية – تشرين الأول 2019، منشورات البنك الدولي، متاح على شبكة الإنترنت: https://www.albankaldawli.org/ar/country/iraq/publication/economic-update-october-2019.