د. محمد كاظم المعيني، دكتوراه دراسات دولية واستراتيجية.

منذ ظهور الدولة الوطنية وتشكيل هويتها “الوستفالية” عام 1648، مرّ النظام الدولي بنقاط تحوّل جوهرية، تغير فيها هيكل النظام وتأسس على إثر ذلك نظام توازن قوى جديد استناداً لنوع وعدد وطبيعة القوى الصاعدة والهابطة في تراتبية ذلك النظام؛ فعالم قبل “وستفاليا” ليس هو نفسه بعدها، مروراً بالثورة الصناعية، والحربين العالميتين، والحرب الباردة، وأحداث 11 أيلول والحرب العالمية على الإرهاب، كل هذه الأحداث شكلّت نقاط تحول رئيسة في النظام، ورسمت نمطاً جديداً من العلاقات الدولية، وتراوح ما بين مبدأ توازن القوى، تارة والأمن الجماعي تارة أخرى، وأشكالاً متنوعة لطبيعة القطبية في النظام، ما بين الثنائية القطبية، إلى الهيمنة الأحادية، إلى حالة لم يتفق على الجميع اليوم، هل نحن أمام تعددية؟ أو انعدام قطبية؟ أو قطبية متخصصة أو مختلطة؟، كما يطلق عليها بعض المفكرين. شكلت تلك الأحداث وغيرها نقاط تحول كانت بمنزلة السهام التي أصابت قلب النظام ليتشكل على إثره نظاماً آخر لا يشبه الذي يسبقه، وما جائحة كورونا المستجد المسبب لمرض COVID 19 إلا واحدة من هذه الأحداث التي لم يسبق للبشرية إن عاشت وعانت من نتائجها الكارثية، ولا حتى الحرب العالمية الثانية -حسب وصف الأمين العام للامم المتحدة “أنطونيو غوتيرس”- التي ستقلب موازين القوى رأساً على عقب، فعالم قبل جائحة كورونا ليس نفسه بعدها حتماً، فالحتمية التأريخية والأحداث المترابطة والأزمات المستمرة التي ضربت وتضرب النظام العالمي، تعمل بنحو فعال ومؤثر في إعادة تصحيح صورة العلاقات الدولية وسلوك الدول وبقية الفواعل من غير الدول.

نظرية المؤامرة .. بين الجدل والوقع

سواء كانت جائحة كورونا مصنعة في مختبرات “ووهان” الصينية، أو في مختبرات “ميريلاند” العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية، أو مكان آخر بالعالم، أكان وباءً من صنع الطبيعة؛ فما تمخض من نتائج وتداعيات عكس صورة مرعبة غير متوقعه تماماً للتكيّف وإدارة الازمة الوبائية، رأينا دولاً متقدمة تتربع على قمة هرم التطور العلمي والتكنولوجي باتت عاجزة وفاقدة للسيطرة واحتواء الموقف، أين مشافي إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا؟ أين مشافي الولايات المتحدة وكندا؟ وكأنها فقاعة سرعان ما تلاشت أمام هذا الاختبار، على الرغم من كون جائحة كورونا ليست بتلك الضراوة والخطورة في الفتك وكثرة الوفيات، مثل بعض الأوبئة التي ضربت العالم سابقاً كـ(إنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، والإيبولا، والطاعون قديماً)، إذ لا تتعدى نسبة وفياته 2-4% كما إعلنت منظمة الصحة العالمية، وهذه نسبة ضئيلة قد لا تقارن بنسب الوفيات جراء حوادث المرور اليومية.

لقد أعطت هذه الأزمة الوبائية صورة سلبية للتعاون والاعتمادية بين الدول، ولاسيما المنظومة الغربية الليبرالية، إذ تخلى الحلفاء عن بعضهم وانكفأ الأصدقاء داخل حدودهم، وتركت المدن المنكوبة تلاقي مصيرها بمفردها، وكيف هو الحال مع دول الجنوب التي لا تمتلك التقنيات ولا المستلزمات ولا الملاكات ولا عدد المشافي الكافية لاحتواء الأزمة الوبائية وإدارتها، ويبدو مما ذُكر آنفاً أنه لا توجد جهة مستفيدة من هذه الأزمة؛ فالكل خاسر ولكن بنسب معينة.

مصير الغرب .. ومستقبل الشرق

تعرضت مكانة الولايات المتحدة الأمريكية لحرج شديد بعد تخليها عن حلفائها وأصدقائها وانكفائها على نفسها، وجعلتهم يواجهون مصيرهم لوحدهم؛ وكأن الحالة أشبه بسياسة العزلة التي انتهجها الرئيس الأمريكي “مونرو” عام 1823 التي وضع فيها بلاده لتتجنب مشكلات أوروبا؛ وبالتالي أن عزلة “ترامب” من شأنها أن تدق مسماراً آخر في نعش حلف الناتو الذي بات يعاني شللاً واضحاً لأسباب كثيرة، منها ما هو مرتبط بدول أوروبا، ومنها جراء انغلاق الأفق السياسي الخارجي للإدارة الأمريكية، وسوء إدارتها للعلاقات الدولية، ولاسيما بعد أن سحب “ترامب” الجزرة وأبقى فقط على العصا.

على المستوى الداخلي يبدو أن هذا الوباء سيشكل تهديداً كبيراً للرئيس “ترامب” في فرصة إعادة انتخابه مرة ثانية في تشرين الثاني 2020، إذ ستكون نتائج هذه الأزمة العامل الحاسم في تحديد الرئيس القادم لأمريكا، وربما حتى الانتخابات التشريعية المقبلة، وذلك للاعتبارات الآتية:

1- الاستجابة المتأخرة والمرتبكة لواشنطن في التعامل مع الأزمة وربما بعد 10 أيام بين ظهور أولى إصابة في 21 كانون الأول 2020، وتطبيق إجراءات السلامة والوقاية، والتحرك العملي الأول في 31 كانون الأول 2020، وظل الرئيس “ترامب” يتعامل مع الأزمة كأنه وإدارته هما الموضوعان الأهم، وواصل التقليل من حجم المخاطر التي شكلها الوباء على الأمريكيين[1].

2- انهيار البورصة وشلل الحياة الاقتصادية والركود الاقتصادي الذي ضرب العالم، مع انكشاف ضعف البنية التحتية الصحية الأمريكية، وفقدان مئات الآلاف من الأمريكيين وظائفهم، في حين بنى “ترامب” شعبيته وسياسته على تحقيق الازدهار الاقتصادي لبلاده[2].

3- زيادة أعداد المصابين بالوباء، التي قد تصل إلى الملايين، وعدد غير محدد حتى الآن من الوفيات، الذي قد يصل إلى الآلاف في ظل عجز الإدارة عن إيجاد علاج أو لقاح يحد من خطورة المرض.

4- التخبط في الاداء السياسي الخارجي للرئيس “ترامب”، فتارة يطلق على الوباء بانه جائحة صينية، متهماً الصين بانتاجه، وتارة اخرى يطلب المساعدة من الصين بعد ان تمكنت بكين بتحجيم الوباء والسيطرة عليه.

بالجانب الآخر نرى الشرق المتمثل بالصين وروسيا لم يتوانَ عن دعم دول أوروبا المتضررة بالوباء وإسناده، ولاسيما إيطاليا وإسبانيا اللتين عانتا كثيراً بسبب هذه الجائحة الغامضة بعد أن تخلى عنهما حلفاؤهما الغربيون، سواء على مستوى الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية عبر نقل معدات وأدوات ومستلزمات طبية، وملاك طبي ميداني عسكري للعلاج ومكافحة الوباء في المدن الأوروبية المنكوبة، بل حتى وصلت مساعدات طبية مستعجلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية من قبل روسيا والصين وحسب اعتراف الرئيس “ترامب” في خطابه الصحفي ليوم 3 شباط 2020، في حين لم ترسل واشنطن كمامة واحدة لتلك الدول أو غيرها[3].

نهاية العولمة .. الانكفاء على الذات

دأبت العولمة على طمس مفهوم السيادة والتشويش على ملامح الدولة الوطنية والمناداة بالهوية العالمية ضمن إطار القرية الكونية؛ لكن جدار العولمة أصابه كثيرٌ من التصدع من قبل الراعي الرسمي والمستفيد الأكبر منه (الولايات المتحدة الأمريكية)، عبر السياسات الحمائية التي تقوم بها الإدارة الأمريكية بين مدة وأخرى على منتوجاتها الوطنية، إلى أن جاء هذا الوباء الغامض ليهز الأسس التي تقوم عليها العولمة.

إن من سيحدد مستقبل العالم وشكل النظام العالمي الجديد هو الذي سينتصر في الحرب ضد جائحة كورونا المستحدثة، وسيكتب التأريخ بطرق غير مسبوقة ويصعب التنبؤ بها عن تلك الأحداث، إذ سيتعرض النظام العالمي إلى حالة من التشوش، وعدم الاستقرار الداخلي على مستوى العلاقات الدولية، وسيكون العالم أقل انفتاحاً، وأقل حرية، وأكثر فقراً، وأن التداعيات والنتائج السلبية ستكون على جميع المستويات، والكساد الاقتصادي العالمي لم يسبق له مثيل، ولا حتى أزمتي الاقتصاد العالمي في 1938 و2008، ويبدو أن هذه الجائحة القشة التي قسمت ظهر العولمة، وستغيّر وجه العالم وترجعه إلى ما قبل الاعتمادية المتبادلة، أو إلى نمط جديد من العلاقات الاقتصادية لم نشهده سابقاً.

لقد برز دور الدولة الوطنية وتعززت قبضة الحكومات التي فرضت أحكاماً وإجراءات غير مسبوقة، من أجل أحكام السيطرة والقضاء على الوباء، ولاسيما في الشرق بعد نجاح إدارته بنحوٍ فعال، كما حصل في الصين، وروسيا ذواتا الأنظمة المتشددة، أو سنغافورة وتايوان وبعض دول جنوب شرق آسيا، في حين نرى الأنظمة الليبرالية الغربية ما تزال تتخبط، وتعرض قادتها وحكوماتها لحرج شديد؛ مما يعطي مؤشراً جديداً آخر لانتقال القوة نحو الشرق، ومن عولمة تتمحور حول الولايات المتحدة الأمريكية، إلى نمط جديد من العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية تتجه نحو أورآسيا وتتمحور حول الصين، فالشعب الأمريكي فقد ثقته بإدارته وتزعزع إيمانه بالرأسمالية المتوحشة، وهذا ما أكده أستاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون “جون إيكينبري” بأن “الديمقراطيات الغربية ستخرج من قوقعتها وتحاول البحث عن نماذج أكثر أماناً للتعاون المشترك”[4].

عجّل الوباء من تدهور مبادئ الديمقراطية الليبرالية ودق أسفين في هيكل الرأسمالية، إذ بلغ حجم الخسائر العالمية أكثر من 3 ترليونات دولار، وهي مستمرة بالتصاعد ما دامت الأزمة قائمة، مهددة بكارثة عالمية لم يسبق لها مثيل، عجزت المؤسسات العالمية والمنظمات الدولية عن القيام بواجبها القانوني والأخلاقي والإنساني لدعم الدول المنكوبة؛ الأمر الذي ينذر بتراجعها أو حتى انهيارها في المستقبل، وهذه المقاربة تتسق تماماً مع واقع الاتحاد الأوروبي، وعجزه عن ايجاد سياسة مشتركة لمواجهة الأزمة الوبائية، إذ اعتمدت بعض دول الاتحاد باتباع سياسة صحية خاصة بها لاحتواء الأزمة بعد أن فقدت الأمل بالتدابير أو الإجراءات المشتركة التي من المفترض أن يقوم بها الاتحاد، وهذا يبدو المسمار الثاني في نعش الاتحاد بعد خروج بريطانيا منه.

المدرسة الواقعية بين التفاهة والشعبوية

ما تزال الواقعية “المورنغثاوية” المدرسة الرائجة في رسم مسار العلاقات الدولية وتحديد المصالح الوطنية التي تعد الأساس في التعامل والسلوك السياسي الدولي، وبصرف النظر فيما إذا أضرت مصلحة دولة ما، أاو تقاطعت مع مصلحة دولة أخرى؛ فلا مجال للأخلاق والمثالية في عالم الواقعية المستند إلى القوة كغاية ووسيلة كما روج لها “والتز”.

قد لا نبتعد كثيراً عن الحقيقة إذا افترضنا أن العالم سيخرج من أزمة جائحة كورونا المستجد معافياً وسليماً؛ ولكن بالتأكيد سيكون عالماً مختلفاً عن سابقه، عالماً سيعيد ترتيب الأولويات، عالم يعيد تنظيم العلاقات الدولية التي تراعي الأمن الإنساني وحقوق الإنسان[5]، عالم بلا قائد وفق مفهوم القيادة الجماعية، أو الكل قائد، ولا يوجد من يتولى زمام المبادرة من منطلق الحتمية الدولية على وفق مبدأ “اعتن بنفسك”.

قد نقف اليوم أو غداً أمام نظام جديد، ينتقد التخصص وتسطيح العلم، ويتنبأ بصعود أشخاص تافهين غير مؤهلين معرفياً للقيادة، أشخاص يمتلكون فن الخطابة والقدرة على التحشيد وإثارة المشاعر الوطنية الشعبوية للناس، نظام يعزز الحكم الأوتوقراطي ويبتعد عن مبادئ الديمقراطية، نظام يركز السلطات والتوجهات القومية، ويقلل من شأن الفواعل من غير الدول ويعيد للدولة الوطنية أهميتها، أنه نظام التفاهة الذي روج له المفكر الكندي “الآن دونو”[6]، نظام يدعم الهوية المحلية المتلونة بالتيارات الشعبوية التي باتت تلاقي رواجاً متزايداً في أوروبا والغرب عموماً، ولاسيما بعد صعود حكومات يمينية شعبوية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهناك حركات وأحزاب متطرفة في دول أخرى قد تصل إلى سدة الحكم بالمستقبل، بحجة منع الهجرة وغلق الحدود أمام المهاجرين من دول الجنوب، كونهم السبب وراء الأزمات والمشكلات التي تضرب بالغرب، بما فيها أزمة جائحة كورونا.


المصادر :

[1]– David Leonhardt, A Complete List of Trump`s Attempts to Play Down Coronavirus, The New York Times, 15/3/2020, accesses on 23/3/2020, At: https://nyti.ms/2Utthw5

[2] -Zachary B. Wolf, Trump will be Judged on one think now … and it won`t be Impeachment, CNN, 21/3/2020, accessed on 23/3/2020, At: https://cnn.it/2QESdZx

[3]– قناة روسيا اليوم RT، 31/3/2020، ينظر أيضاً: قناة الجزيرة مباشر، 3/4/2020.

[4] G. John Ikenberry, How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic, Predictions paper, Foreign Policy, 20 March 2020.

[5]– أحمد ناجي قمحة، كورونا .. إعادة الاعتبار للأمن الإنساني، السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، العدد 220، كانون الثاني 2020.

[6] الآن دونو، نظام التفاهة، ترجمة: مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، بيروت، 2020.