مریم جعفر زاده، محلل اقتصادي

تعدّ منطقة الشرق الأوسط أكثر عرضة للأزمات الاجتماعية من أي منطقة أخرى في العالم، ويرى الخبراء الاقتصاديون أن جذور الأزمات الاجتماعية في المنطقة هي اقتصادية في الأغلب.

يطلق مفهوم “الربيع العربي” على أحداث الانتفاضة الشعبية والاحتجاجات التي اجتاحت العديد من البلدان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ عام 2010؛ ولأن هذه الأحداث أثرت على الدول العربية أكثر من غيرها؛ فيطلق عليها عنوان “الربيع العربي”.

لقد تسببت بعض هذه الاحتجاجات في إسقاط أنظمة في أربع دول عربية هي: تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وقد واجهت إثر ذلك الحكومات الثلاث في البحرين والأردن وإلى حد ما السعودية أيضاً مشكلات خطيرة. وتعرضت الحكومة السورية أيضاً إلى حرب أهلية، لكن الدول العربية الأخرى شهدت أوضاعاً أكثر هدوءاً.

ونشر البنك الدولي مؤخراً تقريراً يستكشف فيه أسباب أحداث الربيع العربي. ومن بين العوامل العديدة التي نوقشت في هذا التقرير، كانت هناك أربعة ذات تأثير أكبر على رضا الناس عن الحياة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عشية اندلاع أحداث الربيع العربي، وهذه العوامل كالآتي: الحريات المحدودة، ومعايير المعيشة البالية، وظروف سوق العمل السيئة، وسوء إدارة البلاد.

وفي هذا التقرير -إلى جانب بعض العوامل المذكورة آنفاً- سندرس رد الحكومات على الاحتجاجات الشعبية، وأهم نتائج الربيع العربي في دول الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا.

اللامساواة

لقد جاء الربيع العربي إلى الشرق الأوسط بقضايا مثل (المساواة)، وأصبح في طليعة اهتمام الرأي العام، إذ إن الفكرة التي تقول إن اللامساواة في الدخل مرتبطة بالاضطرابات السياسية ليست قضية جديدة، وتعود إلى العصور القديمة حينما ظنَّ الفلاسفة الاجتماعيون أن اللامساواة هي السبب الرئيس للاضطرابات الاجتماعية والاستياء المدني. واليوم، تُعرف اللامساواة المرتفعة في الدخول على أنها عامل سيّئ للتماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي، التي بدورها يمكن أن يكون لها تأثير سلبي على الاستثمار، والنمو المستدام، وتطور المجتمع البشري. وفضلاً عن ذلك، قد تتباين القدرة على تحمل اللامساواة في الدخل باختلاف البلدان وفي أوقات مختلفة. وتُظهر الأدلة التجريبية الواردة في تقرير البنك الدولي أن الطبقة الوسطى تتعرض للضغوط في العديد من الدول العربية النامية، وكان هذا الأمر أكثر حدة في مصر واليمن، إذ كانت ديناميات الرفاهية والرعاية الاجتماعية سلبية جداً.

لقد نمت مرتبة الطبقة الوسطى في البلدان الأخرى لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولكن انخفض دخل هذه الطبقة أو نما بمعدل أقل من دخل الفقراء، أو أنه لم ينم بالقدر والسرعة نفسيهما التي ينمو فيها معدل الفئة الثرية. وقد أصيب معظم الناس في البلدان النامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باليأس والإحباط، وزاد الاستياء خلال أيام الربيع العربي ولاسيما منذ نهاية سنة 2000 الميلادية.

متلازمة التنمية غير المرغوب فيها

تشير البيانات إلى أن الرضا عن الحياة في معظم البلدان النامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل الربيع العربي، كان أقل من المستوى المتوسط في البلدان ذات مستويات التنمية المماثلة. وبفحص أعمق للبيانات، نجد أن هذا المستوى المنخفض من الرضا عن الحياة في معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تراجع بنحو ملحوظ خلال السنوات التي تلتها بداية الربيع العربي، وعموماً لقد كان مستوى اللامساواة في الرفاهية مرتفعاً نسبياً.

في الواقع، كانت مستويات اللامساواة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المرتبة الثانية بعد أمريكا اللاتينية وجزر منطقة البحر الكاريبي (في ترتيب المناطق من حيث اللامساواة في الرعاية الاجتماعية) قبل الربيع العربي. وكان هذا في حال أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث اللامساواة النقدية البحتة، فلم يكونا في وضع سيئ جداً، وكانت مستويات اللامساواة النقدية منخفضة في هذه المنطقة.

تخلق ظاهرة متلازمة التنمية غير المرغوب فيها خلال مدة الانتقال من التنمية بسرعة معتدلة إلى التنمية السريعة مفارقة في الأذهان. وهي الحالة التي أطلقوا عليها عنوان (مفارقة التنمية غير المرغوب فيها) .(unhappy development paradox)، وإن مفارقة التنمية غير المرغوب فيهاتشير إلى مفارقة النمو التي لا تؤدي إلى زيادة مستويات السعادة.

ويعدّ البنك الدولي ظاهرة متلازمة التنمية غير المرغوب فيها باعتبارها إحدى أسباب حدوث الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بأنها انعكاس لنهاية مدة (social contract)العقد الاجتماعي.

انتهاء العقد الاجتماعي والمؤشرات التي تدلّ على ذلك

إن التحليل الذي يقدمه البنك الدولي يمنحنا إمكانية ربط زيادة معدل عدم الرضا في هذه البلدان بالتعبير عن المطالبات الشعبية لتغيير الأنظمة الحاكمة. وهو الارتباط الذي كان قوياً في بلدان الربيع العربي على وجه الخصوص. وقد حُلّت مشكلة اللامساواة في الدول العربية، وذلك عبر إظهار هذا الموضوع أن العقد الاجتماعي القديم في هذه البلدان انتهى. فيما يخص مشكلة اللامساواة في بلدان الربيع العربي، فإن الأمر يتعلق بموضوع انتهاء العقد الاجتماعي، أما المستويات العالية لللامساواة والآخذة بالارتفاع، كانت بمنزلة شرارة الانتفاضة.

ومن الجدير بالذكر -على وفق تقرير البنك الدولي- لقد كانت لقضية انتهاء العقد الاجتماعي آثار سلبية على العديد من جوانب الحياة. وبعض الدلائل التي تشير إلى انتهاء العقد الاجتماعي قبل اندلاع أحداث الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هي كالآتي: الحريات المحدودة والمساحة الإعلامية المغلقة، وعدم رضا الناس من مستويات المعيشة، واستياء الناس من ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الوظائف الجيدة بسبب نمو القطاع غير الرسمي في القطاع الخاص. وفي النهاية، استياء الناس من الفساد والمحاباة والمحسوبية التي جعلت من الصعب العثور على فرص عمل للأشخاص الجادين والطموحين. ولقد أثبتت العلاقة السلبية بين السعادة والبطالة بأنها تتأثر بعوامل مختلفة مثل انخفاض مستوى الدخل والتكاليف النفسية مثل القلق النفسي، وفقدان الهوية واحترام الذات.

إن تأثير البطالة المدمر على سعادة العاطلين عن العمل لمدة طويلة، وكذلك الأشخاص الذين لديهم فرص عمل محدودة، يصبح أكثر خطورة. وكان عدم الرضا عن ظروف سوق العمل في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المتقدمة قبل أن يبدأ الربيع العربي مرتفعاً جداً.

إن التوظيف في القطاع غير الحكومي له فوائد وأمن أقل لكبار السن، ولقد خلق عدم التوافق بين التعليم والفرص الاقتصادية فجوة بين الواقع والتوقعات؛ مما يقلل من الرضا عن الحياة لدى الشباب، ويعزز حماية الظلم؛ وبالتالي يؤدي إلى زيادة نسبة المشاركة في الاضطرابات الاجتماعية.

ما رد الحكومات على الربيع العربي؟

على وفق تقرير التنمية العالمية الصادر عن البنك الدولي، تستخدم الدول أربعة أنواع من المؤسسات الحكومية لإرساء الأمن والاستقرار في أراضيها، وهي كالآتي:

  • مؤسسات العقوبات والردع التي تقلل من دوافع السلوك العنيف أو توصله إلى الصفر.
  • مؤسسات إعادة التوزيع التي توزع الموارد بإنصاف بين المواطنين مرة أخرى.
  • مؤسسات تقاسم السلطة من أجل خلق عملية الشرعنة الشاملة، وتوفير إمكانية المشاركة العامة في مؤسسات السلطة.
  • مؤسسات تسوية المنازعات.

وإذا تصرفت هذه المؤسسات بإنصاف وعدالة، فستقلل من دوافع الاستخدام المباشر للعنف من قبل المواطنين.

لقد أنشأت الدول العربية أساساً النوعين الأولين من هذه المؤسسات التي ذكرت آنفاً، وكانت ضرورية للهيكل الاجتماعي القديم. لقد ردت معظم هذه الحكومات على الاضطرابات عبر تنفيذ سياسات إعادة التوزيع، التي كان هدفها تهدئة الغضب الشعبي. لقد نجحت هذه السياسة في بعض الحالات وحافظت على الهيكل الاجتماعي للبلدان.

وتظهر وثائق البنك الدولي أن سياسات إعادة التوزيع هذه تتضمن مجموعة متنوعة من الأمور، بما في ذلك زيادة الرواتب، والإعانات والمعاشات التقاعدية، وتغيير شكل المساعدات النقدية المقدمة للناس وخلق الآلاف من فرص العمل في القطاع العام، وفي بعض الحالات كانت تشمل خططاً لتغيير البنية التحتية أيضاً.

وکانت تكلفة هذه الدراسات لهذه التدابير في الجزائر والدول الغنية بالنفط في مجلس التعاون الخليجي حمرتفعة جداً، بحيث في السعودية -على سبيل المثال- بلغت تكلفة التغييرات لاسترضاء الرأي العام بنحو يعادل نسبة 20%؜من الناتج المحلي لهذا البلد، ولكن هل هذا العمل يكفي لتهدئة غضب الشعب؟

أهم رسالة للربيع العربي

تُظهر البيانات الواردة في تقرير البنك الدولي أن أموراً مثل فقدان التضامن والعقود الاجتماعية هي التي أدت إلى حدوث الربيع العربي بنحو أکبر مقارنة باللامساواة الاقتصادية. وإن التنمیة التي حدثت في الوقت الذي جری فیه العقد الاجتماعي القديم ولمدة 50 عاماً متتالیة في هذه البلدان لم تكن مستدامة.وكان هناك قطاع حكومي كبير وغير كفء، وفیه درجة منخفضة جداً من المساءلة أو الاستماع لأصوات المعارضة. إن القطاع الخاص نما ببطء شديد؛وإن الجزء الأهم من القضية التي أدت إلى الربيع العربي، هيأن الناس كانوا يشعرون “بالحرمان النسبي” مقارنة بالأشخاص الذين كانوا مرتبطين بطريقة أو بأخرى بالسلطة الحاكمة. لقد كان النمو الاقتصادي منخفضاً في العديد من البلدان العربية النامية، وكانت الحكومات غير قادرة على خلق فرص للعمل ودفع تکالیف الخدمات العامة، إذ تسببت هذه العوامل في استياء واسع النطاق بين الطبقة الوسطى التی تقطن في المدن وجعلت الشباب یشعرون بالیأس والإحباط نحو مستقبلهم؛ولذلك أراد الناس تغيير الوضع إلى حالة من الاستقرار النسبي والظروف الاقتصادية والاجتماعية المقبولة، ومن أجل تحقیق هذه الغاية، كان هناك حديث عن خلق عقد اجتماعي جديد يحل محل أنموذج العقد السابق الذي فقد تأثیره علی المجتمع.إن العقد الاجتماعي الجديد الذي من المقرر تطبیقه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يرى أن القطاع الخاص قوي ویتمتع بالدعم من قبل حكومة صغيرة وکفوءة في الوقت نفسه.ويجب علی الحكومة أيضاً أن تكون مسؤولة أمام الناس، ولاسيما فيما یتعلق بأداء واجبها تجاه تقدیم الخدمات المطلوبة للشعب.

وينبغي للدول الغنية بالنفط إيلاء المزید من الاهتمام لزيادة الإنتاجية. ويجب أن تكون إدارة ثروة النفط فعالة وسليمة وأن تحوّل إلى رأس مال مادي أو بشري. وإن القاعدة الإجرائية السابقة للحكومة، والمتمثلة في حکومة ذات سيادة لم تكن مسؤولة أمام المواطنين فقط ولكنها لم تشاركهم أیضاً في عملية حكم البلاد، يجب تغييرها بالكامل، وأن توفر الفرصة للمواطنين من أجل المشاركة في مختلف المناصب السياسية والحكومية.

وفيما يخصّ المجال الاقتصادي، يجب أن تؤدي الحكومة دوراً داعماً في توفير الظروف المناسبة لمستثمري القطاع الخاص، ولا تقوم بأي حال من الأحوال بأداء دور المتنافس للقطاع الخاص في ساحات النشاط الاقتصادي.وتُظهر الدراسات التجريبية أن جميع البلدان في هذا المجال مستعدة لتکون عرضة للاضطرابات المدنية، وقد يختلف حدوث هذه الاضطرابات وشدتها باختلاف البلدان في المنطقة. ولمنع حدوث هذا الأمر، يجب تعزيز المؤسسات الحكومیةوینبغي أن تعمل هذه المؤسسات بنحو صحيح وفي إطار توفیر إمکانیة المشاركة الكاملة لجميع المواطنين، بغض النظر عن الاستقطاب العرقي والإثني والديني.

المصدر: موقع سازندكي

http://sazandeginews.com/News/6541