لا يخفى على المتتبع للشأن السياسي التحركات الألمانية الواضحة تجاه منطقة الشرق الأوسط، التي ازدادت وتيرتها في السنوات الأخيرة، ولاسيما في جمهورتي العراق وسوريا، فعلى وفق ما تقتضيه المصلحة الألمانية والأحداث التي تزامنت مع ذلك جاءت هذه التحركات على ثلاث مراحل، هي:

المرحلة الأولى:

بدأت في العام 2014؛ وكانت هذه المرحلة نتيجة للحرب في سوريا التي أدت إلى دخول حوالي مليون لاجئ إلى ألمانيا من جهة، وعمليات التحرير العراقية من سطوة داعش التي تشكل على إثرها التحالف الدولي من جهة أخرى. فألمانيا -التي كانت تبتعد من الدور القيادي في العقود السابقة في المشهد الدولي التي عارضت فيه الحرب على العراق في 2003- أصبحت الآن ثاني أهم عنصر في التحالف الدولي بعد الولايات المتحدة؛ فالسبب وراء تحركها في هذه المرحلة كان لإيقاف السيول البشرية المتوجهة نحو أراضيها؛ وللقضاء على العناصر الألمانية في داعش، والخلايا التي تستهدف بلادها أيضاً. فهذه المرحلة ركزت في تقديم الدعم العسكري لحكومة إقليم كردستان من طريق التحالف الدولي، إذ كانت تتخذ القوات الألمانية من أربيل مقراً لها، وأعطت الكثير من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة إلى البيشمركة، فضلاً عن التدريب والدعم اللوجيستي.

المرحلة الثانية:

في العام 2016 شهد التوجّه الألماني في العراق تغيّراً، إذ زادت هذه الدولة من حراكها المدني إلى جانب العسكري، ففي الشأن العسكري -وفي بداية العام المذكور- اتخذت القوات الألمانية دوراً هجومياً فضلاً عن التدريب والدعم، إذ أصبحت تستهدف داعش بنحو مباشر عبر الضربات الجوية والعمليات الخاصة؛ وقد وافق البرلمان الألماني على هذا التصعيد بعد الهجوم الإرهابي الذي استهدف باريس في نهاية العام 2015.

أما ما يخصّ الشأن المدني فقد بدأت الحكومة الألمانية تطوّر علاقاتها مع بغداد، فقدمت دعماً مالياً واقتصادياً لحكومة رئيس الوزراء -آنذاك- حيدر العبادي، وخاضت في النقاش بشأن دعم القوات الاتحادية إلى جانب البيشمركة؛ وقد أنتجت هذه النقاشات دورات تدريبية للمخابرات العراقية، وتدريب ضباط في دورات متعددة في ألمانيا، وتسليح الجيش العراقي والشرطة الاتحادية بأسلحة متنوعة، وزيارات عالية المستوى بين الطرفين أدّت إلى توقيع اتفاقات وأطر للتعاون.

وفي العام 2016 أيضاً ترأست ألمانيا الجانب المدني في التحالف الدولي المعني بتقديم الدعم لعملية الاستقرار، وإعادة البناء. وتوجهت إلى دعم المناطق المحررة عبر إعادة تفعيل الخدمات الأساسية، وقد عيّنت المستشارة (إنجيلا ميركل) مندوباً خاصّاً عنها للعراق وهو السفير السابق (اكهارد بروزه) ليكون رئيساً للقسم المدني في التحالف، ومكلفاً بمتابعة مشاريع ألمانيا في دعم الاستقرار. وقد لوحظ في هذه المرحلة توجه برلين إلى بغداد بمحاولة لإعادة توازن العلاقة بين المركز والإقليم العراقي، ولوحظ أيضاً أن نشاط ألمانيا في الشرق الأوسط ازداد حينما تبيّن أن حكومة الرئيس الأمريكي -آنذاك- (باراك أوباما) لا تتدخل عسكرياً في سوريا، ولا تنوي التدخل أكثر في الشرق الأوسط ولاسيما بعد الاتفاق النووي مع إيران؛ وهنا ظهرت مساحة وحاجة للألمان للبقاء في العراق وسوريا.

المرحلة الثالثة:

بدأت في نهاية العام 2017 ومطلع العام 2018 حينما تيقّنت ألمانيا أن الرئيس الأمريكي الحالي (دونالد ترامب) عازم على تقليص النشاط الأمريكي في العراق وسوريا. إذ كان ترامب يوبّخ الدول الأوروبية لقلة الاهتمام بأمنهم وتخفيض مستويات الإنفاق على الأمن والدفاع في موازناتهم العامة، وجعل العبء على الولايات المتحدة للحفاظ على أمن أوروبا من طريق حلف الناتو، أو مكافحة الإرهاب عبر التحالف الدولي في الشرق الأوسط. فقد أدركت ألمانيا خطورة الموقف ولاسيما بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، وتصعيد الخلافات في الشرق الأوسط بعد شروع حكومة ترامب بتطبيق تعهداتها بجعل دول الشرق الأوسط هي المسؤول الوحيد عن أمنها؛ لذا فإن زيادة عدم الاستقرار في المنطقة نتيجة التوجه الأمريكي شجّع ألمانيا على أخذ دور قيادي في العراق، وسوريا، ولبنان، وإيران، وبقية الدول.

وشهدت هذه المرحلة اندلاع الأزمة السعودية-القطرية، واحتجاز رئيس وزراء لبنان (سعد الحريري) في الرياض، والتدخل العسكري التركي في سوريا، والتحالف مع إيران وروسيا، والتصويت البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، وأزمة تشكيل حكومة ائتلافية في ألمانيا بعد الانتخابات، وتراجع المصوتين لحزب المستشارة ميركل. ولعلّ أهمّ ما جرى في هذه المرحلة للعراق هي أزمة استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان التي أدّت إلى تزايد التوتّر في العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وأجبرت الحكومة الألمانية على اتخاذ موقف ضد الاستفتاء وزيادة تنسيقها مع الحكومة الاتحادية للتوازن بالعلاقات مع الطرفين، إذ إن القوات الألمانية بدأت بتدريب القوات الاتحادية ودعمها لأشهر بعد الاستفتاء، ووُجِدَت في معسكرات خارج أربيل لأول مرة.

وفي هذه المرحلة أيضاً وجهت وزارة الخارجية الألمانية وكالة التنمية (GIZ) بالدخول للعراق، ودعم المشاريع الاقتصادية الصغرى منها والكبرى. وقد زاد مركز الدراسات التابع لحزب المستشارة ميركل من نشاطاته في هذه المرحلة، وبادر بعدة برامج للتقريب بين النخب السياسية العراقية والألمانية. ويبدو أن هدف ألمانيا في هذه المرحلة تثبيت وضعها القيادي بين بقية الدول في العراق، وعزمها لرسم سياسة خارجية مستقلة عن الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة؛ فهنا لوحظ زيادة المنافسة بين الدول الأوروبية في العراق، وبوادر اتفاقية ثنائية لإبقاء التعاون الأمني والعسكري بعد رحيل قوات التحالف أو انسحاب الولايات المتحدة من العراق. وترى ألمانيا أن الولايات المتحدة لم تعد تكترث بوضع الشرق الأوسط، ويمكن أن تعزل وضعها الأمني والداخلي والاقتصادي عن المنطقة، لكن ألمانيا لم تتمكن من ذلك فهي ترى أوضاع أمنها واستقرارها وجزءاً من نموها الاقتصادي مرتبطةً كلها بنحو مباشر مع الشرق الأوسط وأهم الأسباب هو القرب الجيوغرافي.

أما ما يخصّ العراق فترى ألمانيا فسحة لتطبيق سياستها الجديدة مع دولة مهمة لها نوع من الاستقرار، وإمكانية للتبادل التجاري والاقتصادي، ودوراً لقواتها العسكرية ولاسيما بعد فشل التجربة في أفغانستان؛ومن أولويات السلطات الألمانية الداخلية هي إرجاع عشرات الآلاف من اللاجئين العراقيين الذي رُفض لجوؤهم، ولكن لم تصل الحكومة الألمانية إلى اتفاق مع الحكومة العراقية لإعادتهم للعراق حتى الآن، وهذه قضية مهمة للجمهور الداخلي في ألمانيا الذي يعدّ مسألة الهجرة وزخم اللاجئين من القضايا الحساسة، وقد أثرت سياسة المستشارة ميركل التي ترحّب باللاجئين سلباً على أدائها في الانتخابات؛ فلذلك سيعيد التقدم في هذا الملف لحزبها جزءاً من الثقة للجمهور: (المحافظ، واليميني، والسياسي)، وتسعى الحكومة الألمانية إلى تأسيس مراكز استشارية وتنسيقية في بغداد وأربيل للبتّ في عملية إرجاع أولى الوجبات من (10) آلاف لاجئ، فهكذا ملف تعاملت معه ألمانيا بمعزل عن بقية الدول ونظرت لمصلحتها حصراً؛ وهذا ما قد يركّز التوجّه الألماني في أن الانطواء تحت تحالفات دولية غير مجدية، وأن الدور الأمريكي تغيّر بنحو دائم لا عودة فيه؛ لذا ستضطرّ ألمانيا لزيادة نشاطاتها في الشرق الأوسط؛ لأنه لم يعد لدولة أخرى الرغبة أو الإمكانية بأخذ هكذا دور؛ وهذا التوجه بخلاف السياسة الألمانية وتوجه شعبها بعد الحرب العالمية الثانية، فالألمان ما يزالون يبحثون عن الطريق الأمثل للتأثير والنفوذ دون إرباك وضع علاقاتهم مع الآخرين، أو إرباك وضعهم الداخلي.