فاطمة نجفي، طالبة دكتوراه في قسم الاقتصاد، جامعة “تربيت مدرس” بطهران

[عنوان المقال يحاكي عنوان كتابٍ أمريكي شهير اسمه: (الرجال من المريخ والنساء من الزهرة / Men Are from Mars, Women Are from Venus)، تأليف الطبيب النفسي الأمريكي جون غراي صدر في مايو 1992 وفيه يتناول المشكلات التي قد تحدث بين الرجل والمرأة نتيجة الاختلافات بينهم].

يبحث السؤال المعروض في هذا المقال عن طبيعة التعامل بين السياسيين والاقتصاديين في عملية اتخاذ القرار السياسي؛ فمنظومة القوّة (Power system) -إجمالاً- تشير إلى المجال الذي تُتخَذ فيه القرارات الاجتماعية وفعاليات القطّاع العام. وتتأثّر هذه المنظومة بعوامل عدّة كالانتخابات وجماعات الضغط والحملات الدعائية والجمعيات، أمّا اللاعبون الأساسيون في منظومات القوّة فهم الأناس الاعتياديون في جانبٍ، والسياسيون وأصحاب القرار السياسي وقادة المجتمع والنشطاء في القطّاع الاقتصادي المتنفذون من جانب آخر.

يمتلك خبراء الاقتصاد على الصعيد العملي ومن خلال نفوذهم في منظومة القوّة -ليس من خلال معرفتهم بالحلول الصحيحة أو من خلال رؤيتهم الدقيقة- القدرةَ على إيجاد التغيير؛ ولتأسيس أرضيةٍ خصبة من أجل إحداث تغييرٍ اقتصادي يجب سوق الإرادات الكامنة في مختلف أجزاء هرم القوّة[1] صوب هذه التغييرات؛ ولذلك أصبحت إشكالية (وضع السياسات العامة) في القرن الواحد والعشرين إشكالية معقّدة تُعدّ ضمن التخصصات العلمية المتداخلة (Interdisciplinarity)[2]، فليس بمقدور صاحب القرار السياسي أن ينتظر وقوع حادثة معيّنة، بل يجب ألّا يكون كذلك، فلا يسعه التصدّي لمعالجة الأحداث والوقائع من خلال تجاربه وإمكانياته الذاتية، ولم يعد “اللاعبون” و”القادة” في الوقت الراهن كالشخصيات المؤثرة السابقة من ذوي القابليات الشخصية من أمثال “تشرشل”، و”روزفلت”، و”تاتشر”؛ وفضلاً عن ذلك فإن سعة تأثير أجهزة الإعلام الحديثة لم تترك مجالاً لواضع السياسات العامّة بأنْ ينفرد بالتنظير واتخاذ القرارات الارتجالية؛ لأنّ القرار الارتجالي فور تبلوره يُجابَه من قبل الرأي العام، ويستعمل أصحاب المصالح إمكانياتهم وطاقاتهم كافّة من أجل تنفيذه أو إيقافه.

على واضع القرار السياسي أن ينظر لأيّ تطوّرٍ أو قرارٍ أو تغيير سياسي في أي حقلٍ كالاقتصاد أو التشريع أو العلاقات الدولية، وعليه أن ينظر لأيّ من هذه الأمور في إطار ثنائية (القبول-والكفاءة في الأداء)؛ ففي الوهلة الأولى يُنظَر لمدى تزايد مقبولية صاحب القرار السياسي أو تراجعه بعد اتخاذه هذا القرار، وفي مرحلةٍ ثانية يُنظَر لمدى تفاعل النظام الاجتماعي مع كلٍّ من المجالات الحاضنة لتلك الأهداف. والمثال الذي يمكن ذكره بهذا الصدد هو ما حصل بعد زلزال محافظة كرمانشاه، إذ اتُخذ قرار لإصلاح النظام المصرفي والقطّاعات المختلفة العاملة على إصلاح المساعدات الحكومية، ففي حينها كان أصحاب القرار يسعون لتلميع صورتهم والحصول على مزيد من القبول الجماهيري، فيما سعى الاقتصاديون لتحقيق الكفاءة المرجوّة. فثبات حُزمة القرارات السياسية ونجاح تنفيذها منوط بتحقيق البُعدَين آنفَي الذكر، [القبول والكفاءة]، فإذا لم تُحقق كفاءة الخطوات المطروحة من قبل الاقتصاديين تزايداً في مستوى مقبولية النخبة الحاكمة، وإنْ لم تحقق تأييداً من قبل الأوساط الاقتصادية، فحينها سيفقد صاحب القرار السياسيّ فوراً قدرته التنفيذية. ويجب الالتفات إلى أنّ السياسيّ -بغضّ النظر عن كونه يسعى لتحقيق الخير أو أنّه يعمل لتحقيق مصالحه- قبل كلّ ذلك منهمك بالعمل للبقاء في السلطة، إذ إنّ العامل المشترك في نشاط السياسيين كافّة هو السعي إلى البقاء.

إنّ النظام السياسي المهيمن على إنماء شخصية أصحاب القرار هو العامل الأهم في تكوين طبيعة العلاقة بين السياسيين والاقتصاديين، فكلّما كان الفرد في المجال السياسي أعمق تجربةً وأكثر خوضاً لمراحل النموّ السياسي الممنهجة كانت القرارات المتّخذة أكثر نضجاً وكفاءة، وبعبارةٍ أخرى: إذا كان السياسيّ يعدُّ انتخابه -سواء من خلال الانتخاب المباشر أو في داخل الحزب- لُعبةً قابلة للتكرار، فحينئذٍ سيأخذ أثَرَ قراراته على مدى البعيد بالحسبان؛ لأنّه بحاجة لكسب المقبولية والاعتماد الشعبي بصورةٍ مستمرّة، وحينها سيكون للتعاون مع المتخصصين وبنحو خاصّ مع خبراء الاقتصاد أهميّة قصوى.

إنّ تقديم تعريفٍ دقيق لواقع الحال، والإحاطة بالفترات الزمنية وعمق المشكلات والأزمات وحلولها، وكذلك تقديم حُزمٍ من القرارات السياسية وخارطة طريقٍ لمعالجة المشكلات، من مهام خبراء الاقتصاد، وإنّ صاحب القرار السياسي الذي يحتفظ بخبراء الاقتصاد إلى جانبه سيحصل على سلّة متكاملة وملأى بالخيارات العملية والسيناروهات المحتملة؛ وبالتالي ستطول صلاحية تلك السياسات التي تفضي إلى إطالة صلاحية الفرد، ومن ثمّ صلاحية الحزب الذي ينتمي إليه.

إنّ الأحزاب التي تقدّم آليات التنمية، تواكب الأفراد طوال مسيرتها السياسية، وتؤدّي إلى تناسقٍ بين التطبيع الاجتماعي -مزيد من الكفاءة- ومصالح صاحب القرار السياسي -مزيد من القبول-. وإنّ حاجة الحزب لتحسين مستوى مقبوليته في جزءٍ كبيرٍ من المجتمع يتطلّب في الوهلة الأولى أنْ يبحث عن حلولٍ قويمة لمشكلات الأفراد في المعيشة؛ ففي مثل هذه البُنية السياسية يستوجب البحث عن النماذج والحلول الاقتصادية (Economic model) استقطابَ خبراء الاقتصاد للوقوف إلى جانب السياسيين.

وفي الدول النامية -ولاسيما في الدول التي تعتمد الانتخابات المباشرة والمتعددة- التي تقلل من فرصةِ بقاء “صاحب القرار” في رأس السلطة وتخفّض عمره السياسي، يضطرّ الخبير الاقتصادي أن يحمّل نفسه على صاحب القرار السياسي، إذ يجب عليه اعتماد الفجوات الناتجة عن الاضطرابات والأزمات في النظام الاقتصادي لإيجاد مزيد من التقارب مع صاحب القرار السياسي.

في جانبٍ آخَر من إشكالية “عدم تبلور تعاملٍ إيجابيّ ومؤثّر بين الاقتصاديين والسياسيين”، يجب الالفتات إلى حُزَم القرارات السياسية التي يقترحها الاقتصاديون؛ فإنّ للأكاديميين وللاقتصاديين قراءةً دقيقةً عن الوضع القائم، وعمّا يجب أن يكون، وفي كثيرٍ من الحالات تكون حلولهم -بسبب دقّتها ووحدتها- بمنزلة كلّ شيء أو لا شيء (All or none)[3]، ففي العالم الذي يُدار بطرقٍ ديمقراطية يكون تعارض مصالح الفئات والأطراف الاجتماعية ومشكلة الشعبوية ومحدودية السلطة -سواء على المستوى التنظيمي أو على مستوى القبول الاجتماعي- سبباً في منع تحقق أفضل أنماط التطبيع الاجتماعي.

إنّ الحلول التي تنفَّذ بمنهجية التماثل (Isomorphic)، والتي لا تأخذ هذه الحدود بالحسبان لا تكون إلا أذرعاً يخلقها الاحتياج لقروض المنظمات الدولية، أو هي من أجل إيجاد صورةٍ مقبولة ودعائم تنفيذية للخوض في مجازفات اقتصادية. إنّ مثل هذه الأذرع في بعض الدول غير ملزمة لإجراء الإصلاحات الاقتصادية العامّة، كالدول النامية ذات الدخل القومي المرتفع التي تكون فيها التكاليف، والأرباح، والدخل الفردي، وميزانيات الحكومية أكثر من القروض الدولية، وثانياً في الدول التي يكون احتياجها للاقتصاد الدولي ضئيلاً، سواء أكان هذا المستوى من الاحتياج عن قصد أم من دون قصد. وعند غياب الأذرع الملزمة الخارجية سيكون الاقتصاديون بحاجّة ماسّة لرفع مستوى فهمهم للجزئيات التنفيذية، ولخلق انسجامٍ ناجع في عملية الارتقاء برؤيةٍ اقتصاديةٍ ما إلى حُزمةٍ من القرارات السياسية، والارتقاء بتلك الحزمة إلى سياسة منفّذة على أرض الواقع؛ ولأجل ذلك يحتاج متخذو القرار إلى الانهماك بتفاصيل المراحل التنفيذية وبمستوياتها كافة، وتشتمل هذه التفاصيل على مراحلٍ شتّى في عملية التشريع، وطريقة توفير التكاليف المالية وغير المالية، وكذلك طريقة توظيف الأدوات المؤسساتية والاجتماعية؛ وفي نهاية المطاف يتحقق الهدف السياسي. فعلى سبيل المثال: إنّ البرنامج الاقتصادي العام يرى مصادر التمويل ومصاريف الحكومة في سلَّتَين منسجمتَين لدى السلطة التنفيذية، ومع هذه الفرضية ليس من المهم أن يكون برنامج تحسين أداء الحكومة الذي يقدّمة الخبير الاقتصادي من أجل مواجهة مشكلة الديون، وليس من المهم أنْ ينتقي هذا البرنامج مؤسسات معينة دون أخرى لفرض سياسة التقشف، فضلاً عن أنّ أدوات تحسين العائدات تكون محدودة في رفع مستوى الضرائب. ولكن في نظرةٍ جزئية وضيّقة يكون القرار الناجع لأيّ وزير هو عدم خفض مستوى المصاريف في الوزارة التي يديرها، وليُلقي بذلك العبء على عاتق الآخرين، وليحافظ على مستوى مقبوليته مع عدم خفض مستوى تقديم السلع العامّة (public good). ولكن فيما لو زُودت المؤسسات بخارطة الطريق المقترحة لآلية تطبيق التقشّف، ستجد تلك المؤسسات بأنّها قد مُنعَت من التمتّع بوجبة الغداء المجانية (مثلاً)؛ وبهذا ستضطر للعمل من أجل عدم فقدان سائر الامتيازات، وتسعى إلى استعادة مكانتها واسترداد مخصصاتها من خلال تحسين أدائها الوظيفي.

وبنظرةٍ واحدة فاحصة سنرى أن طبيعة العلاقة بين الاقتصاديين والسياسيين قريبة جدّاً من علاقة الرجال المريخيين والنساء الزهريّة؛ إذ إنّ لكلّ من الاقتصاديين والسياسيين دوالّ وأهدافاً ولغة متباينة، ولكن كلّما كان نظام السلطة الذي يعملون فيه يُزيد من نطاقهم الزمني ومن عمق احتياجهم لبعضهم الآخر، سعى الطرفان إلى تعميق هذه العلاقة الثنائية؛ وبالتالي يُقوّى دور الاقتصاديين في اتخاذ القرارات، ويرتفع مستوى الطلب لفهم حُزَم القرارات السياسية المبنية على أساس تحليلات دقيقة؛ فمثل هذا التطوّر يتطلّب أساساً اجتياز طريق متعرّج مع التحلّي بمزيد من الصبر، إذ إنّ الأمر هو بمنزلة دائرة تشمل تحسين الأداء الاقتصادي، وزيادة في مقبولية صاحب القرار السياسية، وسعةٍ في مساحة قوّة كلّ من السياسي والاقتصادي، ومن ثمّ خطوة أكبر نحو تحسين كفاءة الأداء الحكومي وغير ذلك من المسائل. 


مصدر المقال:

مجلّة “تجارت فردا”، (http://www.tejaratefarda.com) وهي مجلّة اقتصادية إيرانية، تصدر أسبوعياً باللغة الفارسية، مقرّها في العاصمة الإيرانية طهران، تأسست سنة 2008م على يد علي رضا بختياري.

رابط المصدر

[1]– ثمّة فوارق بين (القوّة – power) و(السلطة – Authority). فكما أشارت الباحثة في مقدمة مقالها فإنّها تتحدث هنا عن (القوّة/power)، (المترجم).

[2]– حقول متداخلة (Interdisciplinarity) هي حقل الدراسة الذي يعبر الحدود التقليدية بين التخصصات الأكاديمية أو مذاهب المدارس، وقد حدث ذلك بسبب ظهور احتياجات جديدة ومهن جديدة أيضاً. في الأصل ظهر كتطبيق مصطلح متعدد التخصصات داخل المجالات التربوية والتعليمة والتدريبية؛ لوصف الدراسات التي تستخدم أساليب ورؤى هذه التخصصات الناشئة أو عدة ميادين من الدراسة التقليدية. وتشمل الحقول المتداخلة أو تعددية التخصصات الجميع من الباحثين والطلاب والمعلمين من أجل تحقيق أهداف ربط ودمج العديد من المدارس الأكاديمية والفكرية والمهن، أو تقنيات الاختصاصات المتعددة، جنباً إلى جنب مع وجهات نظرهم الخاصة في السعي إلى تحقيق المهمة المشتركة.

[3]– مصطلح يعتمد غالباً في علم الطب وعلم النفس، وهو يشير إلى نمط في التفكير وكذلك إلى موضوع في عضلات الجسم.