للباحثة: مريم طهماسبي[1]، مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية في طهران.

تشهد المناطق الجافة والقاحلة بالشرق الأوسط في الآونة الأخيرة انتقالة لعوامل السيطرة من المناطق النفطية إلى مناطق المياه العذبة؛ وذلك بسبب تزايد أعداد السكان وارتفاع نسبة الطلب والمتغيّرات الإقليمية وسوء الإدارة والسيطرة على مصادر المياه؛ مما فرض على كثيرٍ من الدول أن تتجه نحو مزيد من استثمار الممرات المائية الحدودية المشتركة؛ وبناءً على ذلك تتخذ تركيا سياسة مائيّة (على الصعيدَين الداخلي والخارجي) تؤمّن لها بسط مثلّثٍ يتضمّن مساحة مائية آمِنة وتستثمر في ذلك الانتشار السكّاني للأكراد في جنوب شرق الأناضول تحقيقاً لمصالحها المائية.

إنّ أثر سياسة المياه على طبيعة العلاقات الإقليمية تكشف عن دور مصادر المياه في بلورة السياسة الخارجية، وتبيّن آلية رسم المواقف الخارجية لدى دولةٍ ما ضماناً لهذه المصادر، إنّ العامل الأهم الذي يحدد طبيعة الخلافات المائية بين الدول المتجاورة هو آلية توزيع المياه، وطريقة إدارة الأحواض المائية؛ فالإدارة السيئة ينتج عنها الإسراف لمياه الأنهار في المصبّ، ووصول أقلّ قدرٍ من المياه في المنحدرات وأسفل النهر.

إنّ تركيا -التي تقع في مصبّ الأنهار وفي منبع مصادر المياه- تعدّ لنفسها سلطة مطلقة على المياه النابعة من أراضيها، وترفض مطالبات جيرانها في رعاية حقّ الماء (Water right)، وتُعلِن بأن مصادر المياه هي كمصادر البترول، فمثلما تكون مصادر البترول من حقّ تلك الدولة التي تقع فيها هذه المصادر فإنّ مصادر المياه التي تنبع من تركيا هي ملك لتركيا، في حين أن كلّاً من العراق وسوريا تعتقدان بأنّ نظام توزيع المياه في النهرَين الدوليَين (دجلة والفرات) هو نظام عضوي حَيوَي.

وثمّة مشاريع عملاقة لإنشاء السدود تنفّذها تركيا تحت عنوان مشروع (GAP)[2]، إذ يتضمن بناء سدود عملاقة على نهرَي دجلة والفرات اللذين يُعَدّان الشريانين الأساسيين لمنطقة غرب آسيا، وإنّ هذه السدود تركت أثراً وتسببت بخللٍ كبير في تدفق المياه نحو الدول المجاورة. وتشمل هذه المشاريع بناء 22 سدّاً يكون أهمّها سد آتاتورك على نهر الفرات، وسد إيليسو على نهر دجلة. وقد أدّى انخفاض نِسب المياه في الجزء الأسفل من أحواض دجلة والفرات إلى هجر أجزاء كبيرة من الأراضي الزراعية في سوريا والعراق، وقد أثّر هذا الانخفاض إلى حدّ كبير في تكوين “هور العظيم” في الأجزاء الأخيرة من النهر.

إنّ اتساع العوامل الريحية[3] بسبب عدم وجود الغطاء النباتي من جانب، وكذلك تراجع دور “هور العظيم” في التصدّي للعواصف الرملية القادمة من صحراء ربع الخالي نحو إيران بسبب جفاف الأهوار من جانب آخر، كلّ ذلك أدّى إلى أنْ تكون هذه المناطق المركز الرئيس لتجمّع الرمال والكثبان؛ وبعد افتتاح سد “إيليسو” التركي ستشهد المحافظات الإيرانية الغربية والمركزية وكذلك المحافظات العراقية تسونامي من الكثبان والعواصف الترابية.

إنّ الشرارة الأولى في أزمة السياسة المائية كانت بسبب حدوث الجفاف وعدم انتظام المنظومة البيئية (Ecosystem) في أسفل النهرَين، وقد ترك ذلك أثراً سلبياً على طبيعة المناخ والعيش في المناطق المجاورة؛ مما أدّى إلى اتساع دائرة الفقر الذي أنتج سخطاً شعبياً عاماً وانتهى بالحرب السورية والجفاف وغيرها من ردود الأفعال السلبية المتتالية.

تأريخياً يمكن أنْ نعدَّ الخلافات المصرية-الإثيوبية من أهم الخلافات المائية في المنطقة؛ فقد قامت الحكومة الإثيوبية بإنشاء سدّ “النهضة” على نهر النيل لغرض إنتاج الكهرباء، وقد واجهت اعتراضاً مصرياً شديداً. أما الأنموذج الآخر الدال على طبيعة الخلافات المائية فيعود للمبادرة التركية في عام 1990، إذ أغلقت نهر الفرات لمدّة تسعين يوماً لتملئ مخزن سدّ آتاتورك، وفي حينها نقل العراق قطّاعاته العسكرية إلى خلف الحدود التركية.

وثمّة أنموذج مشابه آخر للإشارة إلى سوء إدارة مصادر المياه في المجال الداخلي، إذ يتمثّل بإنشاء سد “كتوند” على نهر كارون الإيراني، وعلى مقربة من منجمٍ للملح؛ مما أدّى إلى ملوحة المياه العذبة وانتقال الملح إلى التربة الخصبة ومن ثمّ جفاف بساتين النخيل.

إنّ السياسة المائية التركية الرامية للسيطرة على منابع دجلة والفرات وإدارتها واستثمارها تأتي متوائمة مع سياسة دولة أخرى كأفغانستان وإثيوبيا؛ ومن شأنها أن تنتج ظروفاً مشابهة.

إن مشروع “گاپ” التركي الذي يهدف على الصعيد الداخلي إلى إحداث تغيير في الطبيعة السكّانية للأكراد، وتقويض أواصرهم الاجتماعية وإبعادهم عن المناطق الكردية للدول الجوار؛ فهذا الأمر ما هو إلا عبثٌ وتخريب  للتراث الثقافي والتأريخي. أمّا على الصعيد الخارجي فإنّ إنشاء السدود والسيطرة على دجلة والفرات وخلق أزمات في ملفّ حقوق المياه في منطقة الرافدين وإثارة حفيظة العراق وسوريا من خلال تخفيض حصص المياه وحبسها هي طريقة في السياسة الخارجية التركية التي تستهدف كعب آشيل بالنسبة للعراق وسوريا؛ وليتحقق هدفها الآخر في تفوّق عامل “المياه” في السياسة الخارجية التركية على عامل “النفط” في السياسة الخارجية لدى دول الجوار؛ فبعبارةٍ أخرى تعمل تركيا على سحب ملفّ المياه لتفعيله خدمةً لمصالحها القومية.

لم تعتمد السياسة التركية مبدأ التعاون المشترك لاستفادةٍ منصفة من مصادر المياه، بل تتبع نزعة برغماتية ونهج الواقعية السياسية[4] في خلق تناقضٍ بيئي بين المناطق الواقعة في أعلى النهرَين، وتلك الواقعة في أسفلها. لقد خلقت مخرجات هذه السياسة تدهوراً في طبيعة دورة الماء (Water cycle)[5] مما تنجت عنه أزمات تهدد الأمن الغذائي[6]، وتزايد وتيرة الهجرات البيئية، وتفاقم مشكلات المنظومة البيئية (Ecosystem).

تشير التقييمات الخاصة بالبيئة الإقليمية إلى أنّ مشروع (گاپ) لا يندرج ضمن السيادة الداخلية للدول، وتنتج عنه تأثيرات عابرة للدول؛ ولذلك تكون عملية ربط الأمن المائي بمصادر المياه الكائنة في خارج البلد هي خطّة ينتج عنها ربط جزء من الأمن القومي بظروف المنطقة، وإنّ عدم وجود أنظمة إدارية مناسبة للاستثمار المشترك من مصادر المياه والسيطرة على المياه الجارية فوق سطح الأرض والمياه الجوفية سيؤدّي إلى خلق عواملٍ تتسبب بحدوث النزاع بين الدول.

بناءً على ما تقدّم، ومن أجل ديمومية مصادر المياه الدولية والحدودية، وللحصول على حصّةٍ منصفة وعادلة يجب القيام ببعض المبادرات المحليّة والوطنية والإقليمية لفرض السيطرة على مصادر المياه.

إنّ مفاوضات المياه في الوقت الراهن تبدو إيجابية وبنّاءة؛ لذا يمكن تقديم أربع مقترحات للخروج من التدهور البيئي الراهن:

أولاً: تأليف لجنة دولية لنهرَي (دجلة والفرات) لتفعيل الجانب الدولي ولفرض إدارة موحّدة وشفافية دولية رعاية للمستحقات المائية بحسب نسب المياه المتوافرة في النهرَين، وكذلك تأسيس منظمة متخصصة في العلوم المرتبطة بالمياه لتقديم دراسات تخصصية بالاعتماد على الجوانب الجيوسياسية والبيئية.

ثانياً: إحداث تغيير في التعامل التركي مع مسار النهرَين (من الأعلى للأسفل)؛ لفرض سيطرة دولية مناسبة على النهرَين.

ثالثاً: توخّي أساليب نافعة كزراعة أكثر قدرٍ ممكن من المحاصيل الزراعية بأقلّ قدر ممكن من المياه من خلال الاعتماد على طريقة الزراعة في الماء (Hydroponics)[7]، ورَيّ الأراضي الزراعية بطريقة التقطير والـ(غرواسيس Groasis)، وكذلك زرع المزيد من النباتات الملائمة مع الأجواء الجافة واليابسة كشجر الغرقد (Nitraria) للتصدي للعواصف الترابية.

رابعاً: اعتماد مؤسسات المجتمع المدني لتدريب الأفراد والمجتمعات؛ للتأقلم مع الظروف الجديدة والتعرّف على مدى خطورة شحّة المياه وتبعاتها.


 

المصدر:

https://www.cmess.ir/Page/View/2017-10-16/2233

[1]– “مريم طهماسبي”، باحثة زائرة في مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية بطهران، وهي طالبة في مرحلة الدكتوراه في تخصص العلوم السياسية، ومتخصصة في الشؤون الإيرانية. كتبت طهماسبي عن قضايا سياسية في الشرق الأوسط، والسياسة الخارجية الإيرانية وقضايا حقوق النساء.

[2]– مشروع جنوب شرق الأناضول، يعرف اختصاراً باسم GAP، هو مشروع تنموي اقتصادي لمنطقة جنوب شرق الأناضول في تركيا؛ ويهدف المشروع إلى توسيع الرقعة الزراعية وتوليد الكهرباء عبر بناء 21 سداً ونفقاً على مجريي نهري الفرات ودجلة.

[3]– العوامل الريحية في الجيولوجيا هي معرفة تأثير الرياح وقدرتها على تغيير وجه الأرض. وتعمل حركة الرياح على تعرية سطح الأرض، أي تنقل التراب وحبيبات الرمل من مكان إلى آخر، وتعمل على قشط الأسطح الصخرية والحجرية بواسطة ما يعلق بالريح من حبيبات رملية.

[4]– تعتمد نظرية الواقعية السياسية على مفاهيم خاصة لفهم تعقيدات السياسة الدولية وتفسير السلوك الخارجي للدول، لعل أبرزها (الدولة، والقوة، والمصلحة، والعقلانية، والفوضى الدولية، والتقليل من دور المنظمات الدولية الاعتماد على الذات، وهاجس الأمن والبقاء)، وباتت تلك المفاهيم بمنزلة مفاتيح اعتمدتها كل المقاربات الواقعية.

[5]– دورة الماء تصف وجود وحركة المياه على الأرض وداخلها وفوقها. وقامت دائرة المساحة الجيولوجية الأمريكية بتحديد 15 جزءاً من دورة الماء على النحو الآتي: 1- المياه المخزنة في المحيطات، 2- التبخر، 3- المياه الموجودة في الغلاف الجوي، 4- التكثف، 5- التساقط، 6- المياه المخزنة على هيئة جليد وثلج، 7- ماء الجليد الذائب في مجاري الأنهار، 8- ماء المطر الجاري فوق سطح الأرض، 9- مجاري الأنهار، 10- المياه العذبة المخزنة، 11- التسرب، 12- المياه الجوفية المتدفقة، 13- الينابيع، 14- الارتشاح، 15- المياه الجوفية المخزنة.

[6]– الأمن الغذائي مصطلح يقصد منه مدى قدرة بلد على تلبية احتياجاته من الغذاء الأساسي من منتوجه الخاص أو استطاعته على استيراده تحت أي ظرف ومهما كان ارتفاع أسعار الغذاء العالمية.

[7]– زراعة دون تربة أو زراعة في الماء هي مجموعة نظم لإنتاج المحاصيل بواسطة محاليل معدنية مغذية فقط عوضاً عن التربة التي تحتوي على طمي وطين.