یونس رشیدي، خبير في القضايا السياسية، المركز الدولي لأبحاث السلام.

أهمية الموقع الجيوبوليتيكي

ولّدت المحادثات الاقتصادية التي بدأت في عام 2014 بين بغداد وإقليم كردستان -حول تقسيم الموارد وعائدات بيع النفط- بعض الخلافات التي تزامنت مع نفوذ تنظيم داعش وانتشاره في الأراضي العراقية. وقد حقق إقليم كردستان طوال العقدَين الماضيَين نوعاً من الاستقلال الاقتصادي، وهو يعمل الآن على استثمار هذه الميزة؛ مع ذلك ما زال موضوع الأرباح الحاصلة عن بيع نفط شمال العراق الذي تجنيه كردستان يمثّل إحدى الاشكاليات الأساسية التي تزيد في الخلافات القائمة بين بغداد وأربيل، فقد حصل خلاف في عام 2014 بين بغداد وأربيل حول آلية تسليم الأرباح الحاصلة عن بيع النفط؛ إذ طالبت كردستان بحصّةٍ أكبر من العائدات النفطية العراقية ويكون قسم منها من بيع نفط كركوك، وطالبت أيضاً بالتزام الحكومة المركزية بدفع هذه الأموال بصورةٍ منتظمة. ومن جانبٍ آخَر رفضت حكومة بغداد دفع هذه الأموال للإقليم؛ مما أثار موجة من الانتقادات والاعتراضات الشديدة من قبل أربيل، وفضلاً عن هذه المشكلات القائمة جاءت هجمة داعش واحتلالها للأراضي العراقية لتزيد من تعقيدات الأمور.

لقد استنتج السياسيون الكرد بأنّ الأزمة المتفشيّة في الساحة السياسية العراقية هي فرصة للانتفاع منها ولرفع سقف مطالبهم والدعوة للاستقلال، وفي الوقت نفسه يعلمون بأنّ الاستقلال لا يمكن تحقيقه من الناحية الجيوبوليتيكية، وأنّ المشكلات الراهنة تزيد من تكاليفه. وبعبارةٍ أخرى هنالك جانبان حيويان لإقليم كردستان: الأول: تحقيق مكانة دولية من خلال الترويج للثقافة الكردية، والتأكيد على قيم الشعب الكردي. والآخر: الحصول على مزيد من الامتيازات من الحكومة المركزية العراقية وفتح المزيد من أبواب التفاوض والحوار مع دول الجوار (إيران وتركيا) حول قضايا حدودية وامتيازات أخرى؛ وهنا يجب أن نتذكّر بأنّ “صالح مسلم” من القياديين لدى المكوّن الكردي في سوريا حذّر قبل مدة بأنّ استقلال كردستان ليس منطقياً؛ لأنّه يؤدي إلى اصطفافات بين الشعوب والحكومات.

نادراً ما نجد في القرن الواحد والعشرين أحداً يؤكّد على قضيّة الدولة القومية؛ إذ إنّ الاقتصاد السياسي هو المفهوم المهمين على السلوك السياسي في الوقت الحاضر؛ بمعنى أنْ في القضية جانب (جيو اقتصادي)[1] أكثر من أن يكون (جيوسياسي). وفيما يتعلّق بالجانب الجيوسياسي فإنّ حكومة إقليم كردستان تعلم بأنّها محاطة بجيرانها، وليس لها منفذ مناسب للتواصل مع العالم، ولذلك تسعى لكسب مزيد من الامتيازات.

أثر الجوانب الاقتصادية على رؤية إقليم كردستان للعراق

مع بدء برنامج (النفط مقابل الغذاء) في العراق إبّان التسعينيات استطاع اقليم كردستان أن يحصل على صلاحيات عامّة وكثيرة، وتمّت بعض المحادثات بين كردستان وبغداد خلال السنوات الفاصلة بين (1991) و(1996)، وحصلت كردستان خلال هذه المحادثات على قدرٍ كبير من الاستقلال المالي والحكم الذاتي. وفي الوقت الذي كان جزء كبير من العراق يعاني من أزمات اقتصادية ومشكلات دولية استطاع إقليم كردستان أن يخلّص نفسه من الأزمة التي فرضها عليه حزب البعث في العراق؛ فلذلك تعلم حكومة إقليم كردستان أن بقاءها ضمن الحكومة الفدرالية العراقية أكثر نفعاً لها، ولكنّها ما تزال تظنّ بأنّ ضمان بقائها واستمرارها مرتبط بمطالبتها بمزيد من الامتيازات لتقلل من تكاليفها الجيواقتصادية؛ ومن هنا يتّضح سبب تأكيدها الدائم على حصّةٍ أكبر من عائدات بيع النفط العراقي فضلاً عن ضمّ مناطق جديدة مثل كركوك إلى إقليم كردستان.

لقد أثبتت الحكومة العراقية عدم كفاءتها طوال الحرب مع داعش، واستغلّ إقليم كردستان هذه الفرصة لممارسة ضغط أكبر على الحكومة المركزية، فالإقليم يعلم جيّداً بإمكانيات الحكومة المركزية العراقية، ولكن هذا ليس بمعنى عدم إدراك الموقع الهَش الذي يتصف به إقليم كردستان؛ الأمر الذي يدعو كردستان إلى بذل مزيد من الجهود لتدارك هذه الهشاشة ومعالجتها، وللحصول على الامتيازات من الحكومة المركزية ودول الجوار، ومن ثمّ العودة إلى الحالة الاعتيادية؛ وإنْ لم يتحقق ذلك فإنّ الإقليم قد دخل في لعبة تكون نتيجتها الخسارة المتبادلة ويصعب التنبؤ بتكاليفها الاقتصادية والأمنية.

مستقبل علاقة إقليم كردستان مع الحكومة المركزية العراقية

على الرغم من أنّ رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني يسعى إلى أن يكون زعيماً كاريزمياً للشعب الكردي، ولكنّه بسبب الخلافات القومية وكذلك تنافسه مع حزب جلال طالباني (الاتحاد الوطني الكردستاني)، والحزب الشيوعي الكردستاني والحزب الاشتراكي الكردستاني، وسائر الأقليات الإثنية لم يتبوّأ موقع الزعيم لدى أهالي شمال العراق؛ لذلك تسعى الأطراف السياسية في إقليم كردستان إلى أنْ لا يرتبط مطلب الاستقلال بقضية زعامة السيد البارزاني. وبعبارة أخرى تسعى النخبة السياسية الكردية إلى أن تدير الموضوع بطريقةٍ ما بعيداً عن زعامة البارزاني، فعلى سبيل المثال بُذِلَت جهود لنقل إدارة مطارات الإقليم للحكومة المركزية؛ لأنّ المطارات الحكومية الدولية في كلّ دول العالم هي تحت إشراف الحكومة المركزية الاتحادية. وفي خضمّ هذا السجال تسعى حكومة الإقليم إلى أن تعطي بعض الامتيازات الواضحة والبيّنة للحكومة المركزية وأنْ تحصل بدلاً عن ذلك على حصّةٍ أكبر من عائدات النفط، والمشاركة في السلطة السياسية ومؤسسات الحكومة المركزية، وكذلك مزيد من الصلاحيات لإيجاد العلاقات الثنائية مع سائر الدول. فضلاً عن ذلك تعمل حكومة الإقليم من خلال مفاوضاتها مع بغداد بأن تحصل على هذه الصلاحيات في إطار السيادة العراقية، إذ إن المسؤولين في كردستان يعلمون جيّداً بأنّه لا توجد دولة في العالم تؤيّد استقلال كردستان سوى إسرائيل، وهذا ما يحثّهم على أنْ يكونوا لاعبين مهمّين على الصعيد الوطني والإقليمي بدلاً من أنْ يكونوا موضوعاً للأزمة في معادلة العلاقات الدولية.

إنّ العراق -بنظرةٍ إجمالية- هو بلدٌ منكوب، وإنّ الانقسام الذي يعيشه شجّع إقليم كردستان على تفعيل خيار الاستفتاء. ولكنّ الأكراد سيصلون في نهاية المطاف إلى توافق مع حكومة بغداد، وسيحصلون على المزيد من الامتيازات؛ وإنْ حصل ذلك سيكون الإقليم مضطرّاً للالتزام بقوانين الحكومة المركزية العراقية.

السيناريوهات المستقبلية في العلاقة بين كردستان والحكومة المركزية

هناك احتمالان في تحديد السيناريوهات المتوقَّعة: الأول: سيصرّ مسعود بارزاني وسائر النخبة السياسية الكردية على قضيّة الاستقلال، ولا شكّ في أنّ نتيجة هذا الإصرار تكون استمرارية الحصار. ولكن ثمّة تساؤلات عديدة عن طبيعة استمرار هذا الحصار؛ لأنّ مثل هذا الأمر يستحضر الحديث عن تعارض بين المصالح الإيرانية والتركية على المدى البعيد، وإنّ كلّاً من هذين الدولتين تسعى لتأمين مصالحها الوطنية؛ إذن سيفيد السيناريو الأول بأن إقليم كردستان سيكون ساحة لسجال دول الجوار، وسيدفع ضريبة ذلك، وهذا ما يُحتّم عليهم أنْ يعرفوا بأنّ هذا الأمر ليس في صالحهم مطلقاً ويجب أن يتخذوا طريقاً لئلا يكونوا ساحة لصراع الآخرين، فضلاً عن أنْ هذه السيناريو سيضرّ بكلّ الأطراف الداخلية والإقليمية.

أمّا السيناريو الآخر الذي هو أقرب للواقع فيفيد بأن إقليم كردستان سيصل إلى توافق مع الحكومة العراقية بعد التفاوض وبعد وساطة دول الجوار، وعلى إيران أنْ تكون الوسيطة الأساسية بين كردستان وبغداد. وعلى الرغم من أنّ التوافق بين كردستان وبغداد هو الخيار الأفضل فيجب الانتباه إلى أنّ إيران إنْ غفلَت عن النوايا السعودية والتركية والإسرائيلية في المحادثات المقبلة فستكون الطرف المتضرر.


 

المصدر:

http://peace-ipsc.org/fa

[1]– الجيواقتصاد: مصطلح جديد ظهر سنة 1990 مع تحليلات الاقتصادي الأمريكي Edward LUTTWAK. ويعني ارتكاز النظام العالمي الجديد إلى السلاح الاقتصادي، عوضاً عن السلاح العسكري، كأداة فعالة تستخدمها الدول والشركات الكبرى لفرض قوتها ومكانتها في العالم.