علي سرزعیم، دكتوراه في العلوم الاقتصادية من إيطاليا

قبل مدةٍ وجيزة أخطأ برنامج تلفزيوني في إثارته موضوع القوميات وفي طبيعة التعاطي مع هذا الموضوع، وسلّط الضوء عليه بصورةٍ سلبية. إن من الطبيعي أنْ ينظر كلّ شخص لهذه المسألة من وجهة النظر الخاصّة به، إذ يرى بعضهم بأنّ المطالب الحقّة وغير المنفّذة هي السبب الرئيس للمطالبة بالانفصال، ويؤكّد آخرون على العوامل الخارجية وعلى مؤامرات القوى الأجنبية، وثمّة طرف ثالث يرى أنّ سلوك الحكومات يؤدي إلى ارتفاع بعض الأصوات التي كانت غير مسموعة، أمّا في المقابل فإنّ أنصار الحكومة يرون أنّ هذه المحاولات هي مؤامرات لتشويه سُمعة الحكومة.

في خضمّ هذه المعترك القائم بين الآراء لا بأس في أن يقدّم الاقتصاديون رؤيتهم الاقتصادية في هذا الموضوع. ولا غرابة في مطالبة أقليّة ما بالانفصال، وما لم تحظَ هذه الأقليّة باهتمام الأكثرية فلا تُسبب أيّة مخاوف، ولكن حينما ترفع أقليّةٌ ما بعض المطالب الـمُـبعَدة والمنبوذة وتحصل على الدعم من بعض الأطراف، فحينها يجب فوراً أن نطرح السؤال القائل: ما الأسباب التي جعلت هذه المجموعة تحصل على الدعم لترويج مطالبها؟ وللإجابة على مثل هذا السؤال قد يسعفنا المنهج الاقتصادي لنتمكن من تناول الموضوع وتحليله في إطارٍ مناسب.

إنّ الأفراد -بحسب الرؤية الاقتصادية- إذا أرادوا البقاء ضمن بلدٍ ما، أو إذا أرادوا الانفصال عنه أو حتّى الانضمام لبلدٍ آخر فإنّهم يقومون بتحليل التكلفة والفائدة. وإذا كانت فوائد البقاء ضمن دولةٍ ما أكثر من التكاليف المتوقّعة إزاء هذا البقاء فسيُهمَل كلّ صوتٍ يدعو للانفصال، ولا أحد يكترث به، ولكن إذا كانت فوائد الانفصال أو الانضمام لدولةٍ أخرى أكثر من تكاليف البقاء عندها سيهتم أفراد المنطقة الـمَعنيّة بهذا المطلب ويتحوّل تدريجياً إلى مطلبٍ جاد.

ثلاثة خيارات أمام الأقليّات:

فلنفكّر في فوائد هذه الخيارات وفي تكاليفها، ليتبلور لدينا حلّ جذريّ لمثل هذه المشكلات:

– خيار البقاء ضمن الدولة الأولى: تتحقق فوائد البقاء ضمن دولةٍ ما حينما يتمتّع كلّ الأفراد بالخدمات كافة التي توفرها الحكومة المركزية؛ وفي الوقت نفسه فإنّ البقاء ضمن دولةٍ ما يؤدّي إلى أن يكون بيع منتوجات تلك المدينة أو المحافظة في سائر المناطق بالعُملة الرسمية عينها وعلى وفق القوانين السائدة في البلد نفسه، وفي المجموع يجب احتساب حجم التبادل التجاري بين المنطقة المعنية وسائر المناطق. فإذا كانت المنطقة المعنيّة مُصدّرة أكثر من كونها مستوردة فسيتبلور حافزٌ أوليّ للانفصال؛ على سبيل المثال: إن الكثير من أهالي شمال إيطاليا يرون أنّ الثقل الصناعي للبلد يقع في شماله وتحديداً في منطقة ميلان، ولذلك يعتقدون بأنّهم يدفعون الضرائب للحكومة المركزية في روما (جنوب إيطاليا) أكثر من تمتعهم بخدماتها؛ بعبارةٍ أخرى يكون الشمال الإيطالي مصدّراً أو معطياً أكثر من كونه مستورداً أو مستفيداً. إنّ مثل هذه القضية أدّت إلى ظهور بعض الأصوات الداعية للاستقلال ولإيجاد دولةٍ جديدة في شمال إيطاليا.

وفي بلجيكا أيضاً نجد الوضع الاقتصادي في المناطق ذات الثقافة واللغة الهولندية أفضل بكثير من المناطق ذات الثقافة واللغة الفرنسية، وهذا ما جعل المنطقة الأولى تشهد مطالبات بالانفصال. إذ إنّ تكلفة البقاء ضمن دولةٍ ما تتبلور غالباً في تضييع بعض المطالب القومية والعرقية والمناطقية.

– خيار الاستقلال: إنّ الاستقلال في حد ذاته أمر محفّز وجذّاب، وتسعى إليه المجتمعات عموماً، لأنّ حقّ التشريع والاستقلالية في اتخاذ القرار أمر محفّز للجميع. إنّ ثمن الاستقلال غالباً هو الصراع العسكري وتردّي وضع الخدمات التي كانت توفّرها الحكومة المركزية. فضلاً عن ذلك فإنّ المنطقة المستقلة حالاً ستعجز عن الاستمرار بالتواصل مع سائر الوسطاء التجاريين في البلد، إلّا بعد دفع الرسوم، وبعبارةٍ أخرى يتمّ التعامل معها كدولةٍ أجنبية يجب عليها دفع الرسوم والحصول على سمة الدخول للتواصل مع الدولة التي كانت تنتمي لها.

– خيار الانضمام إلى دولةٍ أخرى [دولة بديلة]: من فوائد الانضمام إلى دولةٍ أخرى هي أن القطّاع الصناعي في المنطقة المطالِبة بالانضمام يظنّ أنّ باستطاعته التمتّع بموارد الحكومة المركزية في الدولة البديلة، ويستطيع تجاوز الرسوم وسمات الدخول في تعامله التجاري مع هذه الدولة. أمّا تكاليف هذا الخيار فهي عدم التأكّد من أنّ الدولة البديلة ستراعي كلّ الحقوق التي تطالب بها المنطقة المنضمّة قريباً.

السمات الاقتصادية للنزعات الانفصالية

يمكن سرد ملاحظات مهمّة من السمات الاقتصادية للنزعات الانفصالية تتمثل بالآتي:

1- كلّما كان القطّاع الصناعي في منطقةٍ ما أكثر ارتباطاً وتواصلاً مع القطّاع الصناعي الرئيس في بلدٍ معيّن -سواء كان هذا التواصل على صعيد الانتاج أو البيع- ستقلّ الحوافز الداعية للانفصال؛ لأنّ الانفصال سيربك القطّاع الصناعي ويمنعه من تأمين احتياجاته ويحرمه من سوقه وزبائنه؛ إذن كلّما كان النموّ الاقتصادي أكثر فاعلية ازدادت حاجة الناس للسلع المنتَجة؛ فلذلك نجد النموّ الاقتصادي في إيران قد أوجد سوقاً أكبر لتطوير الصناعات في المناطق التي رفعت شعار الانفصال سابقاً؛ لذا فإن تطوير الصناعة يقلل كثيراً من الحوافز الداعية للانفصال.

2- إنّ النشاط الصناعي الواقع في المنطقة الداعية للانفصال قد يفقد سوقه الرئيس في الدولة المركزية، ولكنّه سيحصل على سوق الدولة المنافسة، وبعبارةٍ أخرى كلّما كان النموّ الاقتصادي في الدولة المنافسة أفضل من الدولة الأولى كانت سوق الدولة المنافسة أكثر فائدة بالمقارنة مع سوق الدولة الأولى؛ وهذا من شأنه أن يعطي حافزاً أكثر للمُضي في النزعة الانفصالية.

3- كلّما كان التهديد بارتفاع تكاليف الصراع العسكري الناتج عن الانفصال أكثر تأثيراً كانت الحوافز للانفصال أقلّ وأضعف في الأفراد.

4- إذا تحققت مزيد من المطالب القومية في أطُرها الدستورية كانت تكاليف البقاء في ضمن الدولة الأولى أقل؛ وبالتالي ستنخفض الحوافز الرامية للانفصال.

5_ كلّما كانت الموارد المالية المستخرجة من المنطقة الرامية للانفصال أقلّ، كانت حوافز الانفصال أقل؛ ففي المثال المذكور آنفاً عن شمال إيطاليا اقتُرحَ بأن تُصرَف ضرائب أهالي الشمال في نفس المناطق كي يقلّ الحافز للانفصال.

نظرة في النزعات الانفصالية في إيران

بناءً على ما تقدّم يمكن الوقوف على مدى جديّة الأصوات المطالبة بالانفصال ومعرفة مدى خطورتها، ولكن قبل كلّ شيء يجب الالتفات إلى أنّ النزعة الانفصالية تحصل في المناطق الحدودية أكثر من أيّ مكانٍ آخَر، إذ لا تنمو حوافز للانفصال في المناطق المركزية والداخلية، فمثلاً:

أ- محافظة خراسان: نظراً للحدود المشتركة بين خراسان وأفغانستان فلن تبرز فيها دعوات للانفصال؛ لأنّ من البعيد جدّاً أن تنمو أفغانستان خلال العقود القادمة، لذلك لن توجد حوافز للانضمام إلى أفغانستان، فضلاً عن أن الاستقلال لأسباب عسكرية وأمنية ليس خياراً لافتاً ومهمّاً.

ب- محافظة سيستان وبلوشستان: لا ترتبط بالداخل الإيراني كثيراً من الناحية الاقتصادية؛ لذلك لا يكبّدها الانفصال عن إيران أضراراً اقتصادية كبيرة، فضلاً عن أن انضمامها إلى باكستان -الضعيفة اقتصادياً والمنهمكة بالمشكلات الداخلية التي يُستبعَد حلّها على المدى القريب- لا تُعَد خطوة ذات قيمة. إنّ تلبية المطالب المشروعة لأهالي هذه المنطقة، وكذلك تفعيل القطّاع الصناعي المتواصل مع المركز سيقضي بكلّ سهولة على الحوافز الداعية للانفصال؛ وبناءً على ذلك فإنّ خطورة النزعة الانفصالية في هذه المنطقة تقيَّم في مستوى الضعيف أو المتوسط.

ج- إنّ المناطق الجنوبية -ولاسيما الجُزُر الثلاث- تواجه تهديداً جادّاً للانفصال؛ لأنّ الاقتصاد الإيراني لم يحقق نجاحاً لافتاً في تلك المناطق بالمقارنة مع النموّ الاقتصادي الكبير الذي حققته الدول العربية المجاورة لتلك المنطقة، وأن عدم التواصل الاقتصادي بين هذه المناطق والمركز قلل كثيراً من العامل الاقتصادي التي يحثّها على البقاء ضمن الحدود الإيرانية. فضلاً عن ذلك فإنّ وجود النفط والغاز فيها سيضمن لها مسألة الموارد الطبيعية في حالة الانفصال، وهذا ما يشدد من الحوافز الداعية للانفصال في هذه المنطقة.

د- تُقَـيَّـم محافظة خوزستان ضمن مستوى (المتوسط) من حيث مدى خطورة الانفصال. لأنّه على الرغم من وجود مصادر البترول في هذه المنطقة التي جعل سكّان هذه المنطقة يعدّون أنفسهم مصدّرين أكثر من كونهم مستوردين، مما ولّد استياءً شعبياً فيها، ولكن مع ذلك فإنّ الوضع المرتبك في العراق قلل الحوافز الرامية للانفصال إلى حدٍّ كبير.

هـ- تصنَّف محافظَتَي آذربايجان في إيران ضمن مستوى (متوسط عال) من حيث خطورة الانفصال؛ لأنّ النموّ الاقتصادي التركي خلال العقد الأخير كان عالياً، والأمر كذلك إلى حدّ ما في دولة أذربايجان. في حين أن النموّ الاقتصادي الإيراني في العقد الأخير مرّ بمرحلة سيئة؛ وهذا ما يعزز الحوافز الرامية للانفصال في هذه المنطقة. ولكن يجب الالتفات إلى أن أغلب الصناعات الموجودة في منطقة أذربايجان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسوق الداخلية في إيران؛ وبالتالي انفصال هذه المناطق سيكبّد أهاليها خسائر اقتصادية فادحة. فضلاً عن ذلك فإن التبادل التجاري بين أهالي محافظتَي أذربايجان مع سائر المحافظات الإيرانية وكذلك الخدمات التي تقدّمها الحكومة المركزية لهاتين المحافظتَين هي في مستوى عال؛ وبالتالي يجعل فوائد البقاء مع إيران أكثر بكثير من تكاليفها، وهذا ما يجعل أهالي هذه المنطقة يفضّلون فوائد البقاء على فوائد الانفصال. ومع ذلك يبقى خطر الانفصال قائماً فيما لو استمرّت أنقرة وباكو بالنموّ الاقتصادي، وبقي أداء الاقتصاد الإيراني في تراجع، مع عدم تلبية المطالب المشروعة لدى أهالي هذه المنطقة التي تشمل جوانب قومية ومناطقية؛ فإنْ لم تلتفت إيران إلى هذا الأمر فستتغير معادلة الفائدة والتكلفة، وسيرتفع مستوى خطورة الانفصال من (المتوسط) إلى (الشديد).

و- إنّ التهديد بالانفصال في المحافظات الشمالية هو في مستوى متدنّ جدّاً؛ لأن وجود بحر قزوين وأفعال الاتحاد السوفيتي السابقة في هذه المنطقة، وكذلك ضعف الأداء الاقتصادي لدى الدول المجاورة لهذا البحر لا يحفّز أهالي هذه المنطقة على الانفصال، فضلاً عن أنّ أهالي هذه المناطق يتمتعون بخدمات الدولة المركزية، وأنّ اقتصادها قائم على السياحة، وهي منطقة مستوردة أكثر من كونها مصدّرة؛ فلذلك لن تظهر فيها النزعة الانفصالية.

ز- ثمّة رغبة قديمة للانفصال في منطقة كردستان الإيرانية، وإنّ النموّ الاقتصادي في إقليم كردستان العراق يحفّز أهالي هذه المنطقة على الانضمام لذلك الإقليم. ولكن يجب الالتفات إلى أنّ كردستان العراق يمتلك آباراً للنفط، وهذا ترك أثراً كبيراً على طبيعة النموّ الاقتصادي في تلك المنطقة، في حين إنّ كردستان إيران لا تمتلك ذلك؛ إذن إذا كان الأمر مجرد حافز اقتصادي فلن تكون الرغبة في الانفصال جدّية.


 

المصدر:

موقع مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لمكتب رئاسة الجمهورية في إيران

http://www.css.ir/fa/content/112710