وصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى واشنطن قادماً من بكين للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد أن التقى الرئيسين الصيني والروسي خلال مشاركته في منتدى “الحزام والطريق” للتعاون الدولي يومي ١٤-١٥ من آيار، وقد عد المراقبون زيارة الصين إشارة من السيد أردوغان إلى خيارات أخرى قد يتبعها في العلاقات الدولية في حال فشلت زيارته لواشنطن، ورافق الرئيس التركي في زيارته إلى الصين ثم الولايات المتحدة وزراء الخارجية والدفاع والعدل والاقتصاد والطاقة والموارد الطبيعية، وانتهت الزيارة دون تحقيق هدف تركيا الأساس بإقناع الأمريكيين في عدم اتخاذ الفصائل الكردية المسلحة حليفاً للولايات المتحدة، ومن ثمَّ تأسيس إقليم كردي في شمال شرق سوريا أسوة بالإقليم الكردي في شمال العراق؛ مما سيشكل تهديداً حقيقياً لوحدة تركيا التي يتواجد على أراضيها أكبر نسبة من السكان الأكراد في الشرق الأوسط.

قضية تسليح الفصائل الكردية:

سيطرت القضية الكردية على جدول أعمال محادثات ترامب وأردوغان؛ بسبب النشاط العسكري الأمريكي الكردي على الحدود السورية-التركية، وبعد أن وافق الرئيس الأمريكي على تسليح الفصائل الكردية على الرغم من مطالبة السيد أردوغان -عدة مرات- بأن تتوقف الولايات المتحدة عن دعم وحدات حماية الشعب الكردية السورية المتواجدة على الحدود التركية، ووجه بتنفيذ ضربات جوية على قواعد تابعة للوحدات الكردية في سوريا، ومدينة سنجار العراقية. لقد كانت الضربة الجوية التركية تتويجاً للتوتر الأمريكي التركي حول مشاركة الأكراد السوريين في الحرب ضد داعش، ولم تكن قضية تسليم رئيس حركة الخدمة فتح الله غولن ذات أهمية للرئيس التركي مع أنها كانت في جدول الأعمال أيضاً، إذ تمكن السيد أردوغان من تفكيك شبكات ما يعرف في تركيا بـ(الكيان الموازي) الذي تم اتهامه بمحاولة قلب نظام الحكم، وكان أردوغان قد كلف وزير العدل التركي بمناقشة مسألة تسليم السيد غولن للجانب التركي، وطلب الوزير التركي حبس غولن مؤقتاً -بحسب اتفاقية إعادة المجرمين الموقعة بين الولايات المتحدة وتركيا-.

الجدير بالذكر هو أن السيد أردوغان لبى دعوة الرئيس الصيني لحضور منتدى بكين في مرحلة تمرُّ فيها العلاقات الأمريكية التركية بمرحلة صعبة وحرجة بعد قرار ترامب تسليح وحدات حماية الشعب الكردية -الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري-، في وقت تعدُّها تركيا منظمة إرهابية تشكّلُ خطراً على الأمن القومي التركي وعلى وحدة الأراضي التركية؛ ويبدو أن ما أثار غضب السيد أردوغان هو إعلان الرئيس ترامب عن قرار تسليح وحدات حماية الشعب الكردية قبل أيام من الزيارة.

لا يقتصر ما تمر به تركيا من غضبٍ على أمريكا فحسب بعد قرار تسليح وحدات حماية الشعب الكردية، بل إن علاقاتها مع اوروبا تمر هي بأسوأ مراحلها أيضاً، ولاسيما مع ألمانيا، وسط دعوات من الجانبين للتخلي عن مشروع انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، حيث هدد الرئيس أردوغان في وقت سابق بإجراء استفتاء للتخلي عن هذا المسعى التركي.

وينظر الأتراك بقلق عميق إلى نشاط المنسق الأمريكي للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش بريت ماكغورك الذي تمكن من إقناع الرئيس ترامب في تسليح الوحدات الكردية السورية؛ وهذا القلق التركي ترجمه وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، واتهم علناً ماكغورك بدعم المنظمات التي وصفها بـ”الإرهابية” الكردية، ودعا القيادة الأمريكية إلى استبداله بشخص آخر، ومع أن الولايات المتحدة تصنف حزب العمال الكردستاني كمنظمة ارهابية أسوة بتركيا، إلا أنَّ القيادة التركية تعدُّ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري تنظيماً تابعاً لحزب العمال الكردستاني، وترى أن العمال الكردستاني التركي يستخدم الاتحاد الديمقراطي السوري واجهة لتحسين صورتها والحصول على الدعم الغربي السياسي والعسكري، وأن الحزبين يقاتلان جنباً إلى جنب وبدعم أمريكي وأوروبي ويسعيان لإنشاء إقليم كردي يمهّد لقيام دولة؛ وهذا ما دعا الرئيس التركي أن يبلغ الرئيس الأمريكي خلال زيارته لواشنطن بأن “الجيش التركي سيتحرك دون الرجوع لأحد” إذا اقتضت الحاجة ضد وحدات حماية الشعب الكردية السورية.

من جانبها، يبدو أن القيادة الأمريكية ماضية في تقديم الدعم السياسي والعسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الذراع السياسي لوحدات حماية الشعب، والتوجه لإخراج تنظيم داعش من مدينة الرقة السورية دون الاستعانة بالجيش التركي، وهو ما يعني ضم تلك المنطقة لإقليم “روجوفا” الكردي الذي أعلنه حزب الاتحاد الديمقراطي في عام ٢٠١٢؛ وذلك يعني أيضاً أن الولايات المتحدة اتخذت قرارها بشأن عملية الرقة، ولن تتمكن تركيا من المشاركة بسبب الأكراد؛ وترى القيادة التركية أن المشاركة الكردية لا تنحسر على أكراد سوريا فحسب بل إن هناك الكثير من عناصر حزب العمال الكردستاني سينضمون للقتال إلى جانب القوات الأمريكية، وإن الولايات المتحدة تتعامل بمكيالين مع تركيا فهي تعدُّ العمال الكردستاني منظمة إرهابية، ولكنها تتغاضى عن انضمام عناصرها الذين يشنون هجمات ضد العسكريين والمدنيين في تركيا لصفوف حماية الشعب السورية.

وللتعبير عن امتعاضها، منعت القيادة التركية مسؤولين ألمان من دخول قاعدة إنجرليك التي تستضيف مئات العناصر من القوات الألمانية، وطالب وزير خارجية ألمانيا مساعدة الولايات المتحدة للسماح بدخول القاعدة العسكرية، مع الأخذ بالحسبان أن ألمانيا وتركيا عضوان في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تقوده الولايات المتحدة، وبدأت العلاقات التركية-الألمانية بالتدهور حينما صوت البرلمان الألماني على وصف أعمال القتل الجماعي ضد الأرمن على يد العثمانيين في عام 1915 بالإبادة الجماعية. وخلال السنة الماضية منحت ألمانيا حق اللجوء لأتراك متهمين بالمشاركة في محاولة الانقلاب الفاشلة، منهم ٤٠٠ شخص يحملون جوازات سفر دبلوماسية وحكومية؛ وأخير حينما ألغت ألمانيا تجمعات جماهيرية لدعم الرئيس التركي قبل الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية.

تتحدث الصحف الموالية للرئيس أردوغان أن ألمانيا مع الولايات المتحدة تقدم الدعم العسكري واللوجستي لوحدات الشعب الكردية وتسهل لها إنشاء إقليم كردي إلى جانب دعمها للنشاطات الكردية المعارضة في ألمانيا ومن غير المقبول السماح للألمان باستخدام أراضٍ تركية لتهديد الأمن التركي بحجة قتال داعش، وقد ردت الحكومة الألمانية بتقديم مشروع إلى البرلمان يتضمن سحب قواتها التي تشترك في قتال داعش من إنجرليك ونقلها إلى الأردن، وينتظر البرلمان الألماني ما ستثمره الجهود الأمريكية في إقناع الأتراك وإذا ما أصرت تركيا على منع المسؤولين الألمان من زيارة القاعدة فإن البرلمان الألماني سيصوّت على نقل قواته إلى الأردن، وستكون تلك انتكاسة لحلف الناتو لما من تركيا أهمية كبيرة، والمفارقة أن تركيا التي تعدُّ نفسها عضواً فعالاً في حلف الناتو ترى أن بقية أعضاء الحلف يسعون لتهديد وحدة أراضيها، ودعم تنظيمات تشن هجمات على مواطنيها.

وقبل زيارة الرئيس أردوغان للولايات المتحدة، حاولت القيادة التركية جاهدة لإقناع الإدارة الأمريكية لتغيير موقفها في إشراك الأكراد، فأرسلت وفداً عاليَ المستوى إلى واشنطن برئاسة مدير المخابرات التركية ورئيس هيئة الأركان حاملين مشروع خطة تتضمن الاستعاضة عن الفصائل الكردية بفصائل سورية دربتها تركيا؛ لتقاتل مع القوات الأمريكية ضد تنظيم داعش، لكن المسؤولين الأمريكيين رفضوا المشروع، واشترطوا مشاركة الأكراد، وأن تتعاون الفصائل المسلحة التابعة لتركيا مع الفصائل الكردية، وحينما رفض الوفد التركي الشروط الأمريكية أبدوا تخوفهم من مستقبل الأكراد في سوريا وتأثيرها على تركيا، فرد الأمريكيون وأخبروا الأتراك أن لا دور سيؤديه أكراد سوريا بعد إخراج تنظيم داعش من الرقة.

على ما يبدو فإن الوعود الأمريكية غير مقنعة للأتراك الذين يرون أن وحدات حماية الشعب الكردية تستغل المكاسب العسكرية؛ لتحقيق إنجازات سياسية، وتوسيع مناطقها، وطرد العرب والتركمان، وإنشاء إقليم ينضم إلى حزب العمال الكردستاني؛ وبعد لقاء الوفد التركي في واشنطن التقى وزير الدفاع التركي مع وزير الدفاع الأمريكي ليبحث المخاوف نفسها، فتلقى الإجابات عينها بأن الولايات المتحدة لن تسمح بتهديد الأمن القومي التركي، وحينما أيقن الأتراك بمضي الأمريكيين في الاستعانة بالفصائل الكردية بعد تسليحهم كرر السيد أردوغان تهديداته لمنع وصول قوات حماية الشعب للرقة وقال إنه سيقوم بإرسال قواته عميقا في داخل سوريا.

التخلي عن تركيا:

ترى إدارة الرئيس الأمريكي أنها محقة في الاعتماد على الفصائل الكردية السورية؛ لأنها أثبتت في أكثر من معركة قدرتها على القتال، وإلحاق الهزيمة بالتنظيمات المتطرفة بعد فشل برامج المخابرات الأمريكية في إعداد فصائل مسلحة سورية “معتدلة” تقاتل تنظيم داعش، ولكن من جانب آخر تجازف القيادة الأمريكية من الناحية الاستراتيجية بخسارة تركيا كأقوى حليف في الشرق الأوسط لصالح روسيا والصين؛ لذا فإن عدم اهتمام الأمريكيين بالحساسية التركية من المسألة الكردية سيؤدي إلى مواجهة بين تركيا والولايات المتحدة في مسائل متعددة، فالرئيس أردوغان تمكن -بعد الاستفتاء- من إحكام قبضته على مقاليد الحكم في تركيا، وصار القائد العام للجيش، والمهيمن على القضاء والبرلمان والإعلام، ويحظى بتأييد شعبي كبير في المواجهة مع التنظيمات الكردية.

ويرى الرئيس أردوغان أن بإمكانه ترجيح كفة الصراع في سوريا لصالح طرف دون آخر، فيما يعتقد الرئيس ترامب أنه يستطيع التخلي عن الدور التركي ويحقق مكاسب على الأرض السورية ضد روسيا وإيران، ولكن وقوف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مع مشروع الرئيس ترامب في دعم أكراد سوريا سينظر إليه الأتراك على أنه مشاركة في التهديد ضد تركيا؛ وبالتالي فإن التخلي عن الدور التركي والاستعاضة عنه بالدور الكردي ستكون له تبعات مهمة لصالح روسيا وإيران.

هناك رؤية تركية تقول إن تسليح أكراد سوريا نابعة من مخاوف ولادة كيان كردي على الحدود الجنوبية يسمح لحزب العمال بالتواصل مع بقية الأكراد بنحوٍ سيجبر تركيا على التعامل معه بحسم؛ فهذه الرؤية لا تعد الدعم الأمريكي للأكراد مانعاً من بناء علاقات مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد والإيرانيين والروس لمحاصرة تركيا بنحوٍ يعطي الإيرانيين الفرصة للوصول إلى البحر المتوسط، وتوسيع مناطق وحدات حماية الشعب الكردية عبر البادية حتى دمشق.

ينبع الغضب التركي من تجاهل الأمريكيين لوثائق قدمها الأتراك عن وحدات حماية الشعب الكردية، فالأمريكيون يؤكدون باستمرار على أن قوات حماية الشعب السورية تختلف عن حزب العمال الكردستاني “PKK”، ومن هذه الوثائق شهادة وزير الدفاع الأمريكي السابق أشتون كارتر في نيسان الماضي، والتقرير المفصل الصادر عن مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل 5 آيار اللذين تضمنا تفاصيل عن سيطرة حزب العمال الكردستاني على وحدات حماية الشعب، ويشعر القادة الأتراك بالإهانة حينما تتم مماثلة تركيا بفصيل كردي مسلح، فهم يرون في بلدهم الحليف في الناتو البلد الأقوى عسكرياً واقتصادياً في المنطقة.

المشروع الكردي في سوريا:

لم تعد سراً مطالبة الأكراد في سوريا من حليفتهم الولايات المتحدة مساعدتهم على ربط المناطق في شمال شرق سوريا التي يطلقون عليها إقليم “روجوفا” بالبحر الأبيض المتوسط من خلال ممر، في مقابل مساعدة الأمريكيين في إخراج تنظيم داعش من الرقة، ويبدو أن الرقة هي بداية لتوسع كردي في المناطق العربية بعد السيطرة عليها للوصول إلى مدينة دير الزور الخاضعة أيضاً لتنظيم داعش، ففي تقرير صحفي كتبه “مارك تاونسند” مراسل صحيفة الغارديان البريطانية في ٦ آيار ٢٠١٧، ناقلاً عن مسؤولة في وحدات الشعب الكردي قولها “إنه بعد استكمال السيطرة على الرقة فإن التوجه سيكون نحو مدينة إدلب التي تبعد 170 كيلومترا إلى الغرب لاستعادتها من جبهة فتح الشام أو فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وتبعد إدلب ٥٥ كيلومتراً عن البحر المتوسط”، وقالت المسؤولة أيضاً: إن “الوصول إلى البحر المتوسط هو مشروعنا لشمال سوريا ومن حقنا القانوني الوصول إليه بدعم سياسي من الولايات المتحدة مقابل المساعدة في هزيمة تنظيم داعش”، وقد ذكرت كذلك أن الوصول إلى البحر المتوسط سيحل كثيراً من مشكلات شمال سوريا عبر الالتفاف على إغلاق الحدود من الجانب التركي، وتجنب التوتر مع الجانب العراقي.

إن هذا المشروع الكردي يعني توسع الإقليم الكردي ليشمل ثلث سوريا؛ ولأن هناك سكاناً من غير الأكراد فإن القادة الأكراد السوريين سيسعون لإقامة استفتاء حول ضم المناطق ذات الأقليات غير الكردية، وقد نقلت الغارديان عن مشاهدات لتدريب عناصر من الشرطة لتولي مسؤولية الأمن في الرقة، أما بشأن مدينة دير الزور فإن وحدات الحماية الكردية لا تبعد سوى 10 كيلومترات عنها، وفي ما يخصُّ إدلب قالت المسؤولة الكردية: “إنه بعد السيطرة على منطقة شمال سوريا وشرقها فسنتجه إلى إدلب”.

ومما يجدر ذكره أن إدارة الرئيس دونالد ترامب أبقت على بريت ماكغورك الذي عينه الرئيس السابق باراك أوباما كمبعوث خاص لدول التحالف ضد داعش، الذي يرى في الاعتماد على المقاتلين الأكراد للتقدم نحو مناطق التنظيمات المتطرفة سواءٌ أكان داعش أم غيره؛ وبالتالي تبنت إدارة ترامب السياسة نفسها التي اعتمدتها إدارة الرئيس أوباما.

هناك شعور بين الأكراد -ولاسيما السوريين منهم- بأنهم حصلوا على دعم قوة عظمى قد تساعدهم على بناء دولتهم، فحضور ضباط أمريكيين لجنازة المسلحين الأكراد الذين ماتوا بسبب القصف الجوي التركي كان ذا رمزية كبيرة، ومن ثم خروج دوريات عسكرية مشتركة أمريكية-كردية تم فيها رفع العلم الكردي إلى جانب العلم الأمريكي، وقد وقف السكان الأكراد وهم يحيون المدرعات الأمريكية وهي تمرُّ في شوارع البلدات الكردية في طريقها لحماية الحدود مع تركيا، ويرى السكان الأكراد السوريون أن الولايات المتحدة لن تخذلهم؛ لأنها لم تخذل أكراد العراق، وما زالت تدعم قوات البيشمركة.

ويرفض كثير من الأكراد مشابهة تخلي الأمريكيين عن الأكراد العراقيين في عام ١٩٩١ حينما تغاضت عن جرائم صدام حسين، ويتخوف بعض السوريين منهم من أن تتخلى عنهم الولايات المتحدة بعد القضاء على داعش لتكسب تركيا، فالولايات المتحدة لم تستطع حماية وحدات حماية الشعب الكردية من هجمات الطيران التركي في 25 نيسان وقتل فيها 20 مسلحاً، مع أن الاتراك أبلغوا الأمريكيين بالغارة قبل حدوثها بساعة، وبدلا من نشر القوات الأمريكية الخاصة على عملية الرقة تم نشرها لحماية الأكراد من الهجمات التركية، ولو أن تركيا قامت بعمليات عسكرية جديدة في سوريا ضد الأكراد فإن حزب العمال سيرد بعمليات عسكرية داخل تركيا، وفي نهاية المقام فإن على الولايات المتحدة أن تختار بين تركيا والأكراد، فالولايات المتحدة نقضت بوعودها للأكراد العراقيين في عام 1975 حينما اعتقدوا أنهم ضمنوا دعم إيران الشاه حليف أمريكا، ومرة أخرى في حرب صدام حسين ضد إيران، وحينما شجعهم جورج بوش الأب على الثورة ضد صدام بعد حرب خليج الأولى؛ فتأريخ الأكراد مليء بالوعود الكثيرة، لكن التعاون الأخير غير مسبوق وهو ما يثير قلق تركيا.

إن خيارات تركيا محدودة، فأي عملية عسكرية ضد مواقع الأكراد شرقي نهر الفرات ستضع قواتها في مواجهة مباشرة مع القوات الأمريكية، فأي عملية تركية في شمال سوريا أو غربها ستضع القوات التركية في مواجهة الطيران الروسي؛ ومن هنا فقد تتجه تركيا -بموافقة امريكية- لضرب حزب العمال في شمال العراق، والغاية من أي عملية عسكرية في الشمال العراقي هو لعزل حزب العمال في شمال العراق عن شرق سوريا، وفي الوقت نفسه ستعقد العملية التركية من مهام القوات العراقية والحشد الشعبي في استعادة تلعفر؛ لأن تركيا تتهم قوات الحشد الشعبي بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني، إذ إن الهم الأوّل -حسب الرؤية التركية- هو عزل المقاطعات الكردية عن بعضها بعضاً؛ لإضعاف الكيان الكردي في شمال شرق سوريا، أما مدينة تلعفر العراقية فهي هي جزء من هذه الاستراتيجية التركية، ومما لا يستبعد أيضاً هو قيام تركيا بعمل عسكري ضد قواعد حزب العمال الكردستاني في جبل سنجار؛ لقطع الطريق بين العراق وسوريا، وأيضاً منع تحول سنجار إلى مقرٍّ ثانٍ لأكراد تركيا، وتلك العملية لن تواجه معارضة أمريكية ولكنها بالتأكيد ستلقى مواجهة عراقية.

خلاصة القول:

لم تكن زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى الولايات المتحدة ناجحة؛ لأنها لم تتمكن من إقناع القيادة الأمريكية بنبذ حزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكردي وفصائله المسلحة، وتعتدُّ تركيا وحداتِ حمايةِ الشعب الكردية السورية جزءاً من حزب العمال الكردستاني هذه المنظمة التي تخوض حرباً مع الدولة التركية منذ 30 عاماً، وتحاول إنشاء دولة لها على معظم جنوب شرق تركيا.

إن ما هو مؤكد عدم مشاركة تركيا في أي عملية عسكرية مع الولايات المتحدة في حال مشاركة كردية فيها، وفي الوقت نفسه إذا قامت بعمليات أحادية الجانب كما حصل في وقت سابق في بلدات الراعي وجرابلس والباب السورية، فإنها هذه المرة ستواجه القوات الأمريكية.

ولأنها لا تريد مواجهة القوات الأمريكية أو الطيران الروسي، فقد تلجأ القيادة التركية إلى استراتيجية عزل المناطق الكردية عبر عمليات عسكرية في بلدة سنجار، فالإعلام التركي يتحدث عن سنجار كمقر أساسٍ لحزب العمال الكردستاني تنطلق منه العناصر المسلحة الكردية لتنفيذ عمليات داخل الأراضي التركية.

ترى تركيا أن الولايات المتحدة أخلفت عن وعدها حينما لم تقمْ بسحب عناصر وحدات الحماية الكردية من بلدة منبج السورية بعد خروج تنظيم داعش ولكن الفصائل الكردية بقت فيها، ووعودها بأن لا مستقبل للاتحاد الديمقراطي الكردي بعد هزيمة داعش يتناقض مع الحقائق على الأرض.

وفي الوقت الذي ترى فيه الدول الحليفة لواشنطن كالمملكة العربية السعودية أن الخطر الآتي هو من إيران، إلا أن تركيا ترى أن الخطر الأوّل نابع من قوات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني، وهذا ما يفسرُّ غياب الرئيس أردوغان عن لقاء الرياض مع الرئيس الأمريكي وقادة الدول الإسلامية.

إن إدارة الرئيس أردوغان يمكنها التعايش مع كيان كردي لحزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سوريا تدعمها الولايات المتحدة على أن تكون مرتبطة بتركيا وتقاتل حزب العمال الكردستاني، لكنها غير مستعدة للتعايش مع هذا الكيان المدعوم أمريكياً، ويرتبط بعلاقات وثيقة مع حزب العمال الكردستاني الذي بدوره يرتبط بعلاقات جيدة مع إيران ونظام الرئيس بشار الأسد.

ويؤمن الرئيس التركي بأن الولايات المتحدة ستطرق باب تركيا لطلب التعاون في الشأن السوري مؤكداً أن الدور التركي سيبقى حاضراً في سوريا وشمال العراق، وأن تركيا تستطيع إفشال الجهود الأمريكية وترجيح كفة حلفاء روسيا كما حصل في معركة حلب أو في توجه الفصائل المسلحة الموالية لتركيا للمفاوضات مع النظام السوري ضد الفصائل الأخرى.