لا توجد في النظام الدولي الأنراكي أو اللاسلطوي[1] دولة ذات سلطة عليا تسيطر على الدول الأخرى؛ إذ ليس هناك حكومة عالمية تتبعها بقية الدول كما يتبع المواطنون دولتهم، ويحدد إطار النظام الدولي القطاعات التي تمكن الأنظمة السياسية الحاكمة من التفاعل مع بعضها، وكان صعود الصين واضحاً في كل من هذه القطاعات، إذ أدت دوراً متزايد الأهمية في السياسة -على سبيل المثال في التعامل مع إيران وكوريا الشمالية-، والجيش -على سبيل المثال الوجود البحري في منطقة بحر الصين الجنوبي والجزر المتنازع عليها والحدود-، والاقتصادي، والتكنولوجيا -على سبيل المثال تعد الصين الآن ثاني أكبر اقتصاد منتج للكثير من السلع-، والقطاعات الاجتماعية والثقافية -مثل بروز الصين على الصعيد العالمي، وزيادة انتشار الثقافة الصينية من خلال وسائل عدة مثل الأفلام-، وفي هذا الصدد فإن صعود الصين قد اعتمد إلى حد كبير على الصين نفسها: فقد انتقلت البلاد إلى اقتصاد سوق أكثر انفتاحاً، وعملت على زيادة الإنتاجية والإنتاج، وزيادة علاقاتها مع الدول الأخرى والهيئات الدولية التي سهلت التجارة، وأدت إلى حدوث تحسن في التعليم والتكنولوجيا الصينية، وفي معظم الحالات يعد صعود الصين مكسباً، إذ استفادت البلاد وغيرها من الدول الأخرى من هذا الصعود -مثال على ذلك التجارة مع الولايات المتحدة-، وربما يعزى الوصول إلى هذه النتيجة التعاونية إلى تطبيق النظام الدولي المتعدد الأقطاب (أي الذي لا يخضع رسمياً إلى حكومة سلطة عليا)، ولكن بما أن نمو الصين أدّى إلى أن تنظر البلاد إلى الخارج، فإن هذا سيتغير حتماً، وحتى الآن كان صعود الصين سلمياً ولم يتسبب بأي صراع كبير مع الصين -بنحوٍ مباشر أو غير مباشر- منذ نهاية الحرب الباردة، لكن التنافس على الموارد والسعي للتفوق عسكرياً وضع الصين في مسار تصادمي مع الولايات المتحدة، التي ترغب في تشجيع علاقة إيجابية -كما يتضح ذلك من سياسية إدارة أوباما نحو آسيا-، ولكنها تدرك أن صعود الصين من هنا قد يؤدي إلى الوصول لوضع لا يتم فيه الحصول على أي شيء؛ لذلك حذر أوباما الصين وأوجب عليها الالتزام بالحكم الصادر عن المحكمة الدولية في لاهاي حول الحقوق البحرية-[2].

إن صعود الصين السلمي يعني عدم تدخلها -بنحوٍ مباشر أو غير مباشر- في صراع عسكري مع الدول الأخرى من أجل أن تدافع على قدرتها السياسية والأمنية أو تحافظ عليها، وكذلك على وضعها الاقتصادي، والتكنولوجي، والاجتماعي، والثقافي في العالم، وفي الوقت الراهن يبدو أن الصين تعمل انطلاقاً من النهج الدفاعي لأمنها والإبقاء على كيانها -كما يتضح هذا من النزاع في بحر جنوب الصين، إذ تشهد البلاد تواجداً عدوانيا للولايات المتحدة قرب حدودها-، وإذا نظرنا إلى النوايا المرجحة للصين من خلال الواقعية الدفاعية لكينيث والتز، يمكننا أن ننظر آنذاك للصين على أنها تتجنب الصراع إذا شعرت أنها حققت الأمن، ولكن إذا نظرنا إلى نهج الواقعية الهجومية لجون مير شايمر فستتصرف الصين حينئذٍ بقوة من أجل تحقيق الأمن؛ وبالتالي ستشكل خطراً على أمن الدول الأخرى التي ستحتاج إلى إجهاض هذا.

يعني النظام الدولي الأنراكي أو اللاسلطوي أن كل دولة تعادل الدول الأخرى من الناحية الفنية، مع عدم وجود سلطة عليا تهيمن أو تحكم الدول الأخرى، وينظر لهذا المفهوم عملياً بنحوٍ مختلف حسب السلطة التي تمتلكها كل دولة، ويؤخذ صعود الصين على أنه زيادة في قوتها في كل قطاع من قطاعات النظام الدولي بالمقارنة مع الدول الأخرى، وستستمر الصين بالصعود وهذا ما يبدو مؤكداً؛ ولهذا سنرى الصين تلحق بالركب لتصبح قوى عظمى مع الولايات المتحدة، وفي بعض الحالات كصانعة للقرار، وفي حالات أخرى كمؤثر رئيس في السياسة الإقليمية والدولية.

من الصعب أن نرى السيناريو الذي يستمر فيه صعود الصين بنحوٍ مستقل تماماً عن الدول الأخرى، فلزيادة قوتها السياسية على الصين العمل مع الدول الأخرى، ولينمو اقتصادها تحتاج إلى التجارة مع الدول الأخرى، وينطبق الشيء نفسه على تلك الدول الأخرى أيضاً، فإذا أرادت هذه الدول رؤية السلام يتحقق فإنها ستحتاج إلى دولة صينية أكثر نشاطاً من الناحية السياسية، ولكي يشهدوا نمواً اقتصادياً مستمراً فإنهم يحتاجون إلى صين مزدهرة.

إن هذا الترابط أدى إلى صعود الصين ومنع نشوب صراع ما، لكن في الطريق نفسه يسمح هذا الترابط للنظام الأنراكي أو اللاسلطوي بالصعود، وهو يسمح أيضاً بحدوث النزاعات لغياب السلطة العليا لمنع ذلك، وإذا أسفر صعود الصين عن فوائد كافية لدول معينة فسيكون من المنطقي أن نتوقع تجنباً للصراعات، ولكن إذا صعدت الصين بتكاليف عالية أو منافع لا تكفي لإفادة الدول الأخرى، فمن البديهي ألَّا يوجد دليل على فشل النظام الأنراكي أو اللاسلطوي في تجنب حدوث الصراعات.

في التفسير الواقعي للنظام الأنراكي أو اللاسلطوي، يعمل صعود الصين على تغيير قطبية النظام، وإن الطبيعة المتأصلة للدول في هذا النظام مبنية على الانخراط في السعي التنافسي للأمن والسلطة لضمان بقائها، لهذا يعني البحث المستمر عن الأمن أن هناك آفاقاً للتعاون تقتصر بطبيعتها على السياسة الدولية، ويقتصر التعاون على التهديد المحتمل المستمر من الدول الأخرى، وحقيقة أن الدول عليها الاعتماد على قدراتها الخاصة لضمان البقاء على قيد الحياة، وسيؤدي ذلك إلى أن تصبح الصين أكثر حزماً مع الدول الأخرى مع التغيير في القطبية، وهذا سيقود دولاً أخرى للرد -مثل الولايات المتحدة- من أجل الدفاع عن سلطتها، وعدم التعرض لخسارة نسبية، وينظر إلى فوائد التعاون الاقتصادي الذي يراه الليبراليون عنصراً هيكلياً في النظام الأنراكي على أنها تابعة للأهداف السياسية والعسكرية للأمن من قبل الواقعيين، وهذا ما سيحدد ما إذا كان صعود الصين سلمياً أو لا، إذا كانت ترى أن بقاء أمنها يعتمد على سياسات وتوجهات عسكرية عدوانية التي تُعَدُّ سبباً لتحقيق النمو الاقتصادي والسلام والرخاء، أو أن التعاون الاقتصادي والاعتماد المتبادل يجلب الأمن والاستقرار، ويعني النظام الأنراكي أو اللاسلطوي الكيفية التي تفهم الدول الأخرى فيها نوايا الصين الذي يكاد يكون بقدر أهمية رؤية الصين لنفسها كعنصر في هذه المعادلة.

على الرغم من أن التأريخ لا يمكن أن يفسر كيف سيكون المستقبل، إلَّا أنه قد يساعدك على اختبار نظريات العلاقات الدولية بنحوٍ محدود، إن صعود الاتحاد السوفيتي ربما يكون مماثلاً لصعود الصين، ركز السوفييت في البداية داخلياً ومن ثم أصبحوا قوة اقتصادية قوية، ومن ثم برزوا كقوة عظمى سياسياً وعسكرياً تنافس الولايات المتحدة، وهذا الذي قاد إلى الحرب الباردة، بالنسبة لأصحاب النظرية الواقعية، ساهم النظام الأنراكي أو اللاسلطوي بصعود الاتحاد السوفيتي، وكان التنافس محموماً مع الولايات المتحدة نتيجة لرغبة كل دولة لتحقيق والمحافظة على أمنها -وسيضيف الليبراليون أهمية التنافس الأيديولوجي إلى هذه النقطة-، وتماماً كما كان صعود الاتحاد السوفيتي غير سلمي فمن المرجح أن صعود الصين أيضاً لن يكون سلمياً -وعلى الرغم من أن الصراعات يمكن أن تتم بطريقة غير مباشرة وليس بالضرورة من خلال حرب مفتوحة بين الولايات المتحدة والصين-.

إن عدم وجود سلطة عليا في النظام الأنراكي أو اللاسلطوي يعني أن الصراع سيكون محتملاً، إذ تصبح المنافسة بين الدول شديدة، وسيرى الليبراليون الترابط الاقتصادي كعنصر أساس يروض الشهية للصراع العسكري.

إن الأنموذج الليبرالي للعلاقات الدولية الذي طرحه أندرو موراسيفج يفترض أن الدول ستتصرف بعقلانية في السعي لتحقيق مصالحها، وسيتم تقاسم هذه المصالح مع الجهات الفاعلة الأخرى، لهذا فإن هذا التقارب يحل الصراعات ويجعل محصلتها صفراً، إن الدول ممثلة لمجتمعاتها، وكذلك في العلاقات الدولية، ولا تعد الحكومات الجهات الفاعلة الوحيدة، ولكن أيضاً مطالب الأفراد والجماعات داخل المجتمع الذين يشكلون وجهات نظرهم من خلال العولمة، وهو ما يعني أن النظام الدولي يمكن أن يتغير مع مرور الوقت؛ وبالتالي يتحرك بعيداً عن رغبة عدم الحصول على أي شيء للدول، إلى تحقيق الأمن كمبدأ توجيهي من العلاقات الدولية.

إن طبيعة النظام الأنراكي أو اللاسلطوي للنظام الدولي مقبولة من قبل الليبراليين، لكن هذا لا يسمح للدول بأن تتصرف بنحوٍ مستقل بطريقة غير محدود، فعلى سبيل المثال يخضع صعود الصين لقيود الدول الأخرى وما الذي تحاول القيام به، في هذه النظرة المترابطة يمكن أن يكون صعود الصين سلمياً إذا كان مفيداً للدول الأخرى (والمجتمعات) التي تفوق فيها فوائد التعاون التكاليف بطريقة واضحة، وهذا يقود الدول لتغيير سلوكياتها على مر الزمن؛ وبالتالي فإن النظام الأنراكي أو اللاسلطوي يمتلك القدرة على السماح للصعود السلمي للصين، في كل من وجهة النظر الواقعية والليبرالية، ولكنهما يختلفان في الطريقة والأسباب والاحتمالات، حتى إذا نظرنا إلى المسألة من منظور نظري فإن الإجابة يجب أن تكون نعم، تستطيع الصين الصعود سلمياً في النظام الدولي الأنراكي أو اللاسلطوي لعدم وجود نظرية في العلاقات الدولية تنص على أن الصراع لازمٌ نتيجة لزيادة القوة، وبعبارة أخرى فإنه من الممكن بالنسبة للصين القيام بذلك، ولكن السؤال هو عمَّا إذا كان هذا محتملاً أم لا، من الناحية العملية، تشارك الصين بالفعل في بعض الخلافات السياسية على مستوى منخفض مع الولايات المتحدة ودول أخرى، لكنها حتى الآن لم تتحول إلى صراعات عسكرية، حتى لو أصبحت الخلافات أكبر وأكثر وضوحاً، فإن غياب الصراع العسكري لا يزال يسمح لنا أن نقول إن الصين تصعد سلمياً.

إن صعود الصين يعني أن عليها تأدية دور أكبر في السياسة الدولية، والأمن، والاقتصاد العالمي، والعلاقات الدولية، وأدَّى هذا الارتفاع إلى فوائد جمة على الصعيد العالمي، والنظام الأنراكي يتطلب حدوث مفاوضات بين الدول، وهذا من شأنه أن يسمح للصين بمواصلة الصعود، وإذا كان هذا سلمياً أم لا فهو أمرٌ يعود إلى الصين نفسها وإلى الكيفية التي تريد فيها تحقيق هذا الصعود والكيفية التي ستتفاعل فيها الدول الأخرى مع هذا الصعود وكيف ستفهم نوايا الصين.

إن إمكانية الصعود السلمي موجودة (سواء أكان ينظر إليها من خلال الواقعية أم الليبرالية) ولكن لا يمكننا أن نكون واضحين حول احتمالية حدوث ذلك.

لقد غير انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة من الوضع الراهن، إذ أزعج المسؤولين الصينيين بعد إجرائه لمكالمة هاتفية مع الرئيس التايواني، وبعد انتقاده للصين بشدة على موقع التواصل الاجتماعي توتير، ومن المرجح أن يرى الصينيون هذا كفرصة ليصبحوا أكثر حزماً، وربما الابتعاد عن النهج الدفاعي للأمن الذي عملت به إلى الآن. وبطريقة ما قد يؤدي التغيير في الإدارة الأمريكية على تشجيع صعود الصين.


[1] هي الفكرة القائمة على أن العالم يفتقر إلى أي سلطة عليا أو سيادية، وفي حالة فوضى، إذ لا يوجد ترتيب هرمي، أو قوة يمكنها حل النزاعات، وتفرض القانون، وتتحكم بنظام السياسة الدولية.

[2] Beatty A., Perry N. (2016) ‘Obama warns China over South China Sea ruling’, AFP, 8 September.

Available at https://www.yahoo.com/news/obama-says-south-china-sea-ruling-binding-045303198.html