ليس من السهل معرفة ما يجري على الأرض الليبية بسبب تعقيدات القوى المتصارعة عليها، إلّا أنه من المؤكد وجود ثلاث حكومات وأربعة جيوش تتقاتل فيما بينها في حرب بالوكالة بين محورين أساسيين هما محور مصر – الإمارات، ومحور تركيا – قطر، وتقف الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي لمراقبة الصراع الذي بدأ منذ العام ٢٠١٤، إلّا أن الكفة بدأت تميل لصالح المحور المصري منذ الشهر الماضي بعد تطورات ميدانية تقدمت فيها القوات الليبية بقيادة الجنرال حفتر وحققت انتصارات كبيرة.

أعقب سقوط الدكتاتور معمر القذافي حالة من الفوضى عمت البلاد؛ بسبب طول فترة حكمه التي امتدت إلى ٤٢ عاماً، هدم خلالها البناء المؤسسي للدولة بممارسة أسوأ أنظمة الحكم من طريق إقامة توازنات داخلية اعتمدت على تقريب قبائل واستبعاد أخرى، وتقوية أطراف على حساب أخرى، وتهميش مناطق على حساب مناطق، وإغداق الأموال على قيادات قبلية وحرمان آخرين، وكل ذلك حصل من دون إنشاء قوات مسلحة متماسكة وقوية على الرغم من تخمة السلاح الذي كان يستورده لأسباب سياسية فقط في سياسة مشابهة حالياً لسياسة المملكة العربية السعودية.

 وبعد أن أنهت بعض دول حلف الناتو حرباً قصيرة لمساعدة القوى الرافضة لنظام القذافي على التخلص منه، تركت دول الناتو ليبيا تواجه قدرها دون بذل أدنى جهد لترتيب أوضاع مستقرة فيها، أو على الأقل المساعدة في مواجهة واقع دولة أفرغت من المؤسسات في سنوات حكم القذافي، وتعددت فيها المليشيات المسلحة وقواتها العسكرية المنقسمة والضعيفة، والأخطر كان في استغلال الجهاديين الفرصة فى محاولة الاستيلاء على الدولة، ولعل الخطأ الثاني الذي ارتكبته دول حلف الناتو أنها على الرغم من رعايتها المباشرة للانتخابات البرلمانية الليبية عبر الأمم المتحدة في العام ٢٠١٤ إلّا أنها لم تساند الحكومة التي جاءت عبر الانتخابات، وتساهلت في التعامل مع حكومة ثانية موازية.

 تبدأ القصة حينما جرت الانتخابات الليبية العامة الأولى في العام ٢٠١٢ بعد مصرع القذافي بتسعة أشهر تقريباً، وتمكنت فيها الأحزاب الإسلامية من تشكيل الحكومة بقيادة الإخوان المسلمين الليبين، في وقت فاز فيه الإخوان في مصر وتونس أيضاً بالانتخابات، وشكلا الحكومة في بلديهما، لكن الحكومة الإسلامية الليبية لم تنجح في معالجة مشكلات البلاد؛ فخسرت مقاعدها النيابية في انتخابات ٢٠١٤ لتحصل على ٢٣ مقعداً فقط من أصل ٢٠٠، ولم تتقبل الأحزاب الإسلامية الحاكمة نتائج الانتخابات، وعرقلت عمل مجلس النواب المنتخب، ثم أعلنت أنها لن تعترف بشرعية مجلس النواب الجديد أو قراراته.

 في الجانب الآخر قرر بقية الأعضاء في المجلس الجديد الاستمرار في عملهم وتشكيل حكومة جديدة ومنحها ما تحتاجه من صالحيات، ولكنهم لم يستطيعوا العمل في العاصمة طرابلس فتوجهوا إلى بنغازي شرق البلاد، وأسسوا هناك حكومة جديدة ذات طابع علماني، فيما شكلت الأحزاب الإسلامية حكومة جديدة أيضاً في طرابلس، والجدير بالذكر أن سياسة الولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلنتون كانت تتوجه بنحوٍ صريح لدعم الإخوان المسلمين لتحقيق توافق يرضي جميع الأطراف الليبية، ومن هنا بدأت الأزمة.

تعددت الميلشيات المتناحرة فى ليبيا -التي تستخدم السلاح لفرض الرأى حتى ولو كان مخالفاً للإجماع الشعبي-، وكما هي العادة يؤدي الجهاديون الدور الأبرز والرئيس في تأجيج الخلاف السياسي والجنوح به نحو العنف المسلح، وقد استغلت الميليشيات المسلحة غياب سلطة الدولة وبدأت بفرض سيطرة على الأرض على وفق توجهات كل ميليشيا التي تكون غالبيتها العظمى غير معنية بالمصالح الوطنية للدولة جرياً وراء تنفيذ أجندتها الخاصة.

 اليوم يوجد في ليبيا ثلاث حكومات تتنازع على السلطة هي:

الطرف الأول: حكومة طرابلس ولديها برلمان يسيطر عليه أعضاء حزب العدالة والبناء التابع لجماعة الإخوان المسلمين، وتدعم هذه الحكومة عدداً من الفصائل الليبية المسلحة ذات الطابع الجهادي مثل جماعة (فجر ليبيا) أبرز الفصائل الليبية المسلحة التي تسيطر على العاصمة الليبية طرابلس.

 الطرف الثاني: حكومة بنغازي التي شكلها برلمان انتخابات ٢٠١٤ ولديه أيضاً برلمان، ويدعم هذا الطرف عسكرياً الجيش الليبي الجديد بقيادة الجنرال خليفة حفتر الذي يتخذ من بنغازي مقراً له، وهذه هي القوة النظامية الوحيدة في البلاد التي يمكن أن يطلق عليها وصف (قوات مسلحة) بما يتوافر فيها من هيكل تنظيمي تتعدد فيه المؤسسات العسكرية.

 الطرف الثالث: حكومة الوفاق الوطني التي تم الاتفاق عليها برعاية الأمم المتحدة في موتمر الصخيرات بالمغرب في كانون الأول من العام ٢٠١٥ التي تدعمها الولايات المتحدة وأوروبا دعماً كاملاً، ونالت حكومة الوفاق دعماً من كتائب (مصراتة) التي تعدُّ من أقوى الميليشيات الليبية وبدأت في قتال تنظيم داعش، وفيما بعد أعلن تشكيل عسكري يدعى (حراس المنشآت النفطية) دعمه لحكومة الوفاق، وهذا التشكيل العسكري غير الرسمي يعدُّ القوة العسكرية الأكبر بعد الجيش الليبي، وله هيكل تنظيمي بدائي لكنه ذو تسليح جيد كقوة برية كان منوطاً به حماية المنشآت النفطية وهو مكون من عدة آلاف من العناصر.

وفضلاً عن هذه الأطراف الثلاثة -التي يقاتل بعضها بعضاً- هناك تنظيم داعش الذي دخل إلى ليبيا مستغلاً حالة التشرذم السياسي وتدهور الأوضاع الأمنية، وأخطر ما تواجهه ليبيا أن عدد المنضمين إلى هذا التنظيم يتزايد من العناصر الليبية المتطرفة والأجانب على اختلاف جنسياتهم، وجميع عناصره مسلحة ومدربة تدريباً عسكرياً متقدماً ويجيدون مهارات القتال

وما زاد الأمور تعقيداً هو قيام الجيش الليبي بقيادة الجنرال حفتر في أيلول ٢٠١٦ بالسيطرة على الموانئ النفطية، أو ما يعرف بالهلال النفطي، وهذه الموانئ كانت تحت حماية حراس المنشآت النفطية الذين مع إعلانهم الانضمام إلى قوات حكومة الوفاق تحرك الجنرال حفتر ليطردهم من المناطق النفطية ويسيطر عليها، ويتساءل المراقبون: هل في مقدور حكومة الوفاق استعادة الموانئ؟! حالياً، لا تستطيع؛ لأنها تعتمد عسكرياً على قوات معظمها كتائب تتبع مدينة مصراتة التي لا تزال غارقة إلى حد كبير في القتال مع تنظيم داعش في سرت، وخسرت ميليشياتها كثيراً من العناصر واستنفدت لوجستياً في المعركة؛ مما جعل الجنرال حفتر يستفيد من تلك الفرصة ويفرض سيطرته العسكرية على الهلال النفطي؛ لذلك إذا قدمت أي مساعدة من مصراتة لحرس المنشآت فلن تكون فعالة لأنهم مشغولون بالقتال في سرت، وسيخشون فقدان المزيد من عناصرهم في الشرق، وأيضاً هناك سبب جوهري هو أن داعش في سرت يمثل تهديداً وجودياً لمصراتة على عكس هجوم الجيش الليبي في الشرق.

تكمن أهمية الهلال النفطي في أنه يُعَدُّ أغنى موقع للنفط في ليبيا، ويضم أكبر مخزون للنفط الليبي، فضلاً عن مصافي النفط ومنشآت التكرير التي يتم نقل النفط منها للتصدير مباشرة عبر موانئ السدرة ورأس النوف والبريقة، وتحتوي هذه المنطقة على 80% من احتياطي النفط الليبي المورد الوحيد لليبيا، ويقع بين بنغازي -مقر قوات الجيش الليبي الذي يقوده حفتر- وسرت -المنطقة التي تقاتل فيها قوات حكومة الوفاق لإخراج تنظيم داعش-.

يعدُّ الهلال النفطي منطقة ذات أهمية استراتيجية بالنسبة إلى دول مثل إيطاليا التي تدعم حكومة الوفاق في طربلس، إذ تعدُّ إيطاليا أهم مستورد لنفط الهلال النفطي في ليبيا؛ وهذا الأمر جعلها تهتم بنحوٍ خاص بالمنطقة، فقد فكرت جدياً في العام 2015 في التدخل العسكري في ليبيا، ولاسيما أن استثمارات عدد كبير من الشركات الإيطالية يتعلق بالمنطقة، إلى جانب شركات أخرى تعمل في ليبيا منذ عام 2008.

إن عوائد تصدير النفط بمنطقة الهلال النفطي سيؤدي إلى تعزيز شرعية حكومة بنغازي وسيسمح بتمويل مزيد من العمليات ضد الجماعات الجهادية في مقابل حكومة الوفاق.

من الواضح أن ما يحدث في ليبيا هو نزاع على مصالح اقتصادية وأيدلوجية بالدرجة الأولى، وما يدلل على ذلك هو دعم القوى الخارجية لطرف دون آخر؛ لأن من يسيطر عسكرياً على ليبيا بالطبع ستكون له السيطرة الكبرى على منابع النفط؛ مما يؤدي إلى الاعتراف الدولي به آجلاً إن لم يكن عاجلاً، ومن يدعم المسيطر المفترض هناك سيكون له النفوذ الأكبر في الداخل الليبي؛ مما يؤدي إلى وجود أوراق لعب بيده يضغط بها على الجارتين المباشرتين مصر والجزائر. هناك توجه من بعض الدول لدعم الجنرال حفتر وتحديداً من الإمارات بشكل أساس، ثم مصر، وفرنسا وهدف هذه الدول هو إجهاض أي دور للتيار الإسلامي في حكم ليبيا عبر حكومة الوفاق الوطني.

 إن سيطرة الجيش الليبي بقيادة الجنرال حفتر على الهلال النفطي من شأنها أن تحرم حكومة الوفاق من أهم مواردها المالية، ومن ثم إضعافها وانهيارها، وفي الطرف الآخر تدعم قطر وتركيا حكومة طرابلس ممثلة حركة الإخوان المسلمين والميليشيات الداعمة لها مثل فجر ليبيا في طرابلس.

ووسط هذه التناقضات دخلت روسيا لتأييد المحور المصري ولاسيما أن لديها في ليبيا تأريخاً من العلاقات، وترى أن الغرب قد طعنها من الخلف في هذا البلد؛ لذا وجدت في الجنرال حفتر صورة الرجل القوي الذي يمكن أن يؤمّن لها من جديد موطئ قدم في شمال أفريقيا، فمن هنا حرصت على عدم صدور قرارات إدانة دولية ضده. ومع أن روسيا تقول إنها تدعم حكومة الوفاق فإنها تشترط أن تحصل هذه الحكومة على ثقة برلمان طبرق الداعم للجنرال حفتر الذي زار موسكو والتقى وزير الدفاع الروسي وأمين مجلس الأمن الروسي ونائب وزير الخارجية وناقش معهم مسألة توريد الأسلحة الروسية إلى ليبيا، ولاسيما أن سلاح الجيش الليبي يأتي دوماً من روسيا، وأن الخبرات العسكرية لدى هذا الجيش أتت على أيدى الخبراء الروس أيضاً.

يحظى حفتر بتأييد شعبي في المنطقة الشرقية، حيث يقدم نفسه كقائد لجيش نظامي منضبط بديلٍ عن فوضى الميليشيات وإرهاب المتطرفين الذين رَوَّع كثيرٌ منهم الناسَ، وانخرط بعضهم في أعمال إجرامية، وأن الحراك الشعبي في الشرق الليبي الغاضب من استئثار طرابلس في الغرب بالسلطة السياسية واستحواذه على معظم العوائد النفطية على الرغم من وقوع معظم الحقول في الشرق يدعم حفتر كضابط يعيد إلى الشرق أهميته وقوته في المشهد الليبي.

وفيما رحب حلفاء الجنرال حفتر بفوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية مراهنين على الحصول على مزيد من الدعم لموقفهم المناهض للإخوان المسلمين والجهاديين، يبدو أن توجهات ترامب ستكون لصالح الطرف الذي فيه مصر؛ مما يعني ترجيح كفة الدعم الغربي للجنرال حفتر ضد حكومة الوفاق وحكومة طرابلس، وبدا ذلك واضحاً في حديث القادة المقربين من حفتر الذين يتوقعون من الجمهوريين خطوات حاسمة في مساعدتهم .

من المرجح أن يتمخض فوز ترامب عن تراجع الدعم الأمريكي لقيادة حكومة الوفاق الوطني التي تواجه صعوبات، على الرغم من أن الإدارة الديمقراطية الأمريكية هي من أكبر مؤيديها، وقد يفيد حفتر -الذي سيطر في أيلول على المرافئ النفطية الرئيسة وأخرج حرس المنشآت المتحالف مع حكومة الوفاق الوطني- أن يقدم نفسه كقائد حقيقي أمام ترامب، وأن يستطيع وقف إطلاق النار في عموم الدولة الليبية، ويجمع السلاح من أيدي المليشيات، ويعمل على بناء الدولة الحديثة وحكم القانون، ويسعى إلى إصلاح الوضع الاقتصادي، وإعادة النازحين واللاجئين الليبيين، ويقضي على تنظيم داعش الذي يمثل تهديداً للأمن الغربي.

إن هذا التقدم العسكري في السيطرة على الهلال النفطي تلاه تقدم على الأرض بالسيطرة على مناطق غرب بنغازي وطرد تنظيمات جهادية؛ مما جعل الاتحاد الأوروبي يشيد في بيان له بانتصارات الجيش الليبي بقيادة حفتر، فيما كان الاتحاد الأوروبي يصف الجيش سابقاً بالقوات الموالية لمجلس نواب طبرق، وقد أضاف بيان الاتحاد الأوروبي اعترافاً آخر بوصف الجماعات التي يقاتلها الجيش الليبي في بنغازي بأنها إرهابية.

إن التغيير الأوروبي جاء بعد التغيير في الموقف الأمريكي عبر مبعوث أمريكا الخاص إلى ليبيا الذي أشاد بالجيش الوطني الليبي في مكافحة الإرهاب، ويبدو أن ما تبقى في بنغازي هو جيوب لبقايا الميليشيات، وإذا ما تم القضاء على هذه الجيوب فإن الجيش سيتوجه إلى العاصمة طرابلس.