ليزا ليستر، كاتبة متخصصة بالعلوم لجمعية البيئة الأمريكية

منذ آلاف السنين، كانت الاهوار ملتقى نهري دجلة والفرات في العراق في العصر الحديث واحة خضراء من المناظر الطبيعية وأرض مستضيفة لمجموعة كبيرة من الحيوانات البرية. إن ثقافة عرب الأهوار، أو المعدان وهم الناس الذين يعيشون هناك، متشابكة بشكل وثيق مع النظام البيئي للاهوار. عمل القصب الكثيف (Phragmites australis) كمادة خام لبناء المنازل، والحرف اليدوية، والأدوات، والعلف الحيواني لآلاف السنين، وتظهر المضايف، وهي مساكن شعبية بنيت بالكامل من القصب، في النقوش السومرية قبل 5000 عام، أما الآن فإن الثقافة السائدة تتلاشى مع جفاف الأهوار.

لقد حدثت تغيرات كبيرة في العقود الاخيرة على الأراضي الخصبة الشهيرة بأنها مهد الزراعة والتي ظهر فيها بعض من أقدم المدن في العالم، فقد تقلصت فعاليات الحياة اليومية للمرأة العربية في الوقت الذي تلاشت فيه الموارد الطبيعية التي كانت تزرع تقليديا، كما يقول تقرير لفريق دولي من الباحثين في “آثار جفاف أهوار العراق على المعرفة الثقافية والمعيشية لنساء الأهوار” والذي نشر في عدد أذار لعام 2016 في مجلة صحة النظام الإيكولوجي والاستدامة، وهي مجلة مشتركة تصدر من جمعية البيئة الأمريكية وجمعية البيئة الصينية. وتعد هذه الدراسة أول جهد لتوثيق العلاقة الثقافية للمرأة في الاهوار مع الخدمات البيئية.

كتبت مؤلفة الدراسة نادية مظفر فوزي، عالمة البيئة البحرية العراقية التي عادت من نيوزيلندا الى مسقط رأسها البصرة في عام 2009 للتدريس وإجراء البحوث في جامعة البصرة: “تخيل ايفرجليدز، كان سكان الاهوار يعيشون وسط المياه ومحاطين بكل شيء أخضر، الحقول، والقصب، وقطعان الجواميس من حولهم، أما الآن فعليهم المشي 15 كيلومتر للوصول إلى الموارد التي يحتاجونها، لقد اصبحت الارض جافة وقاحلة”.

1
لم تكن اهوار بلاد ما بين النهرين في عام 2000 الا مجرد بقايا من مجدها السابق، بعد عشر سنوات من التجفيف المتعمد. تظهر المنطقة البيضاء مساحة الأهوار السابقة، والتي كانت الأكبر في منطقة الشرق الأوسط ومقصدا هاما للطيور المهاجرة. المصدر: برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

تدرس نادية مظفر فوزي تأثير تغير المناخ على التنوع البيولوجي في الأهوار، والخليج العربي، ونهر شط العرب الذي يربط بينها، إن ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض مستوى المياه في نهري دجلة والفرات، واستخدام المياه الجوفية تسبب في عودة المياه المالحة من الخليج الى شط العرب الذي يتكون من التقاء نهري دجلة والفرات، وتقع البصرة (التي تعد حاليا ثاني أكبر مدينة في العراق) على شط العرب وتبعد نحو 70 كيلومترا عن مصب الالتقاء. وتابعت نادية مظفر فوزي: “عندما عدت في عام 2009، كنت أعرف أن هناك الكثير من المشاكل التي نتجت عن تجفيف النظام السابق للاهوار، ونعرف أن هناك تأثير كبير على إنتاج الأسماك ونوعية المياه في شط العرب وفي شمال الخليج”.

أثناء تحقيقها حول شبكات المياه، زاد إهتمامها ايضا بالأثار الاجتماعية للتغير البيئي وآثار البيئة على حياة الناس. لم يكن لدى العراق قوانين بيئية حتى تغيير الحكومة في عام 2003، ومثل هذا النوع من القوانين لا يزال ذو أولوية منخفضة في حال الفوضى الحالية في البلاد. واضافت إن “الوضع برمته في الاهوار مختلف تماما عن ما رأيته من قبل في السبعينيات وبداية الثمانينيات، فقد كانت المرأة تلعب دوراً في النظام البيئي، إذ كنَ يعملن مع الرجال في جمع القصب وصيد الأسماك، وكنا نراهم في السوق عندما يأتون ويبيعون منتجاتهم مثل السمك، وحليب الجاموس، والجبن، واللبن الذي يصنعونه”.

أجرت فوزي وزملاؤها دراسة استقصائية لسؤال نساء الاهوار عن حياتهن وأنشطتهن، وبإستثناء النساء اللاتي يعشن على أطراف محمية الاهوار الوطنية التي أنشئت في عام 2013 حيث شهدت جهود استعادة الاهوار بعض النجاح، ذكرت نساء الاهوار بأن حياتهن اليومية قد تقلصت إلى المهام المنزلية فقط، وهناك عدد قليل جدا من النساء اللواتي يخرجن لجمع القصب أو لرعاية الجواميس اليوم. قالت المؤلفة كيلي جودوين التي تعمل في خدمات الإغاثة لمنظمات الألفية والتنمية الدولية غير الحكومية: “أما النساء الأكبر سنا من اللواتي بلغن قبل الحرب فقد قلن لنا، ‘في ذلك الوقت كنا نستغل ونجمع الروث، ونحصد القصب، ونرعى الجواميس’”، وتابعن “الآن نحن في المنزل فقط”.

قابلت جودوين 34 امرأة تتراوح أعمارهن بين المراهقة وأكثر من 70 عاما في هور الحمار شمال مدينة البصرة في كانون الاول 2013 وشباط 2014، وكان أكثر من نصف النساء اللواتي تم سؤالهن أكبر من 50 عاما، وقد ولدت هذه النساء المسنات ووصلن مرحلة البلوغ قبل الحرب في الثمانينيات والدمار في التسعينيات، ووصف (ما يقرب من 60 في المئة من النساء اللواتي تبلغ أعمارهن أقل من 40 سنة) يومهن “بالمنزلي.”

حصير وقصب ومنزل حمامة في أحد الاسواق بالقرب من منزل مصنوع من القصب. إن إنتاج وبيع المشغولات والاعمال اليدوية يعد تقليدا لنساء الاهوار. إن القصب هو أحد الدلائل الثقافية والبيئية الرئيسة لاهوار بلاد ما بين النهرين، وأدى الافتقار إلى المياه الى أن تصبح هذه المواد الخام أكثر ندرة. المصدر: كيلي جودوين.
حصير وقصب ومنزل حمامة في أحد الاسواق بالقرب من منزل مصنوع من القصب. إن إنتاج وبيع المشغولات والاعمال اليدوية يعد تقليدا لنساء الاهوار. إن القصب هو أحد الدلائل الثقافية والبيئية الرئيسة لاهوار بلاد ما بين النهرين، وأدى الافتقار إلى المياه الى أن تصبح هذه المواد الخام أكثر ندرة. المصدر: كيلي جودوين.

قالت النساء المسنات للباحثين، نحن لا نعلم بناتنا، لأن الماء قد جف، والأرض قد يبست، وليس هناك أي قصب ليتم جمعه، والمياه مالحة جدا لجواميسنا. على الرغم من أن لرجال ونساء الاهوار أدوارا ثقافية منفصلة، إلا أن العمل التقليدي للمرأة أخرجها من المنزل لجلب دخل إضافي للأسرة من خلال مبيعات السوق، وتهتم النساء بالجواميس وجمع القصب لنسج الحصير والسلال وأقفاص الحمام وغيرها من الأدوات، كما وتحول النساء حليب الجاموس الدسم إلى منتجات الألبان، والروث إلى وقود، وتربي الدجاج والأبقار والأغنام، ويساعدن في زراعة الأرز والقمح والتمور، وفي العادة تأخذ النساء (وليس الرجال) الأسماك ومنتجات الألبان والحرف اليدوية لبيعها في أسواق المدينة.

قال المؤلف ميشيل ستيفنز، أستاذ جامعة ولاية كاليفورنيا في سكرامنتو: “كانت الاهوار أرض ذات مناظر طبيعية مزروعة ومميزة بالحصاد الانتقائي، والصيد، وصيد الأسماك، وتمتلك الكثير من الموارد الطبيعية التي تستخدم من قبل سكان الأهوار، مثلها مثل الاماكن الطبيعية التي كانت تستخدم للزراعة من قبل السكان الأصليين هنا في ولاية كاليفورنيا”، وأيضا مثل كاليفورنيا، قال ستيفنز بأن تغير المناخ  ينبئ بصيف أكثر حرارة وجفاف في المستقبل مع تقلص كميات الثلوج في جبال طوروس في تركيا، حيث ينبع نهري دجلة والفرات.

في العراق، أدت الحرب وعدم الاستقرار السياسي المستمر الى زيادة المشاكل المحدقة بالأهوار، ولا سيما مع زيادة المساحات القاحلة، والتلوث، والمطالب الكثيرة جدا بالمحافظة على المياه. تمتعت الاهوار بموجة من الانتعاش في منتصف العقد الاول من الالفية الجديدية بعد تجفيفها تماما في التسعينيات، إن تدفق المياه وما ينتج عنها من تخضير يمكن أن ينظر اليه في صور القمر الصناعي تيرا التابع لناسا والتي التقطت ما بين عامي 2000 و 2010، وسرعان ما عاد القصب الى النمو في الوقت الذي رجعت فيه المياه.

في التسعينيات، قام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بتجفيف الأهوار عن عمد لتسهيل اكتشاف النفط وللانتقام من العشائر التي شاركت في الانتفاضات ضد حكومته، أما عرب الأهوار الذين لم يفروا بالفعل من القتال في الخطوط الأمامية خلال الحرب بين إيران والعراق فقد أجبروا على المغادرة عندما أصبحت الاهوار أرض قاحلة وجافة.

بعد إزالة صدام حسين من السلطة بعد حرب الخليج الثانية، دمر العراقيون مواقع تحويل مجاري المياه وعادت المياه الى الاهوار، ومن ثم عاد الكثير من عرب الأهوار إلى وطنهم، ولكن المرونة الواضحة للنظام البيئي وعودة ثقافة الاهوار لاتزال هشة، ويخشى الباحثون من أن تقترب الأهوار من عتبة اللاعودة في الوقت الذي تنتقل فيه عائدات الاهوار من الجيل الأكبر سنا من الذين يمتلكون ثروة من المهارات اللازمة لإزدهار الأهوار إلى جيل شاب لم يتح له الفرصة للتعلم.

انخفض مستولى المياه في نهري دجلة والفرات الى 20 في المئة من حجمها ما قبل الحرب، وازدادت نسبه ملوحة المياه والذي يجعلها غير صالحة للشرب، وضرب الجفاف المنطقة بقوة في عام 2007، وهذا أثر على المكاسب  والنجاحات التي تم تحقيقها للنظام البيئي، اما الجيل الذي نشأ خارج الاهوار فإنه لا يمتلك أي خبرة عملية حول العيش في الاهوار وناضلوا من أجل التكيف مع أسلوب حياة أبائهم.

تصف جودوين المياه في البصرة بالمالحة بحيث ان بلورات تتشكل على سطح الأطباق التي تجف بعد غسلها، وقد عملت زيادة الاعتماد على المياه الجوفية من تسرب المياه المالحة من الخليج.

على الرغم من أن نهري دجلة والفرات يجريان على طول العراق والماء يأتي من خارج حدود البلد، إلا ان العراق تحت رحمة سياسات مياه بلدان المنبع، تركيا وسوريا وإيران، والذين كثفوا من مشاريع تنمية الموارد المائية في السنوات الأخيرة، وإن عدم الاستقرار السياسي الحالي يجعل إيجاد حلول دبلوماسية فعالة لقضايا المياه صعبا.

إن استعادة النظام البيئي وثقافة الاهوار من المرجح أن يعتمد على الجهود الدبلوماسية لتأمين كميات كافية من المياه كما تقول نادية مظفر فوزي، في محمية الأهوار الوطنية، أول حديقة وطنية في العراق، يمكن ملاحظة عودة الممارسات الثقافية للاهوار وإستعادة النظام الاجتماعي والبيئي بنجاح، ويمكن استخدامها كنماذج لاعادة الحياة الى مناطق أخرى من أهوار بلاد ما بين النهرين، ولكن هذا لا يمكن أن يتم من دون مياه.

يوصي المؤلفون بأن يتم تنفيذ برامج للحفاظ على المهارات التقليدية، وتطوير سوق للحرف اليدوية لدعم النساء وأسرهن، ودعم المعرفة الثقافية، وخلاف ذلك، مع اختفاء الجيل الأكبر سنا سيتم قريبا فقدان ما بقى من نظم المعرفة السومرية القديمة وأساليب الحياة التقليدية.

وأضافت غودوين: “لقد كان واقعيا للغاية رؤية ظروف بعض الناس الذين يعيشون في الاهوار، هناك الكثير من الأراضي المتصحرة بالقرب من مدينة البصرة”، ولكن زيارة الاهوار يمكن أن تكون مثيرة أيضا، كما قالت، وزيارة الاهوار التي تم اعادتها للحياة هي سحرية تقريبا.

وتابعت: “إنه لمن حسن حظي أن أجلس مع هؤلاء النسوة، وأشرب الشاي، وأسمع قصصهن، وأحب أن تكون هناك حلولاً ملموسة لاستعادة الاهوار وهذا يمكن أن يشجع على الإبقاء على التقاليد الثقافية وضمان استعادة النظم الإيكولوجي. أعتقد بأنهم يشعرون بأنهم نسوا وتم تجاهلهم، أنا أتمنى أن أقول لهم بأن العالم لم ينساهم”.


ملاحظة :
هذه الترجمة طبقاً للمقال الأصلي الموجود في المصدر ادناه ، والمركز غير مسؤول عن المحتوى ، بما فيها المسميات والمصطلحات المذكوره في المتن .

 

المصدر:

http://phys.org/news/2016-03-ecological-collapse-circumscribes-traditional-women.html