إبراهام لوينثال ، سيرجيو بيطار 

أطاحت منذ ما يقرب من خمس سنوات، موجة احتجاجات واسعة بالدكتاتور المصري حسني مبارك عن السلطة. واعتقد معظم المراقبين المحليين والأجانب أن مصر في طريقها نحو مستقبل ديمقراطي، حتى أن البعض اعلن أن الديمقراطية قد وصلت أخيرا. غير أن انتخاب محمد مرسي وحزب الحرية والعدالة الممثل لجماعة الإخوان المسلمين أدى إلى موجة من الاستقطاب والعنف، ثم استولى الجنرال عبد الفتاح السيسي في عام 2013، بعد مزيد من الاحتجاجات الجماهيرية، على السلطة في انقلاب عسكري.  وقتل نظام السيسي منذ ذلك الحين، أكثر من 1000 مدني، وسجن عشرات الألوف، وشن حملة على وسائل الاعلام والمجتمع المدني.

وقد مرت تونس القريبة بوضع أفضل، حيث بدأت موجة الانتفاضات العربية هناك في عام  2010، ونجت الحكومة الديمقراطية التي بشرت بها الثورة التونسية . كما نجحت تونس في واحدة من المهام الحرجة للتحول الديمقراطي، وهي  الموافقة على الدستور الجديد، وهو إنجاز ثمنته لجنة نوبل عندما منحت جائزة نوبل للسلام للرباعي من منظمات المجتمع المدني النشطة خلال المرحلة الانتقالية في تونس. غير أن الديمقراطية في تونس لا تزال هشة، ومهددة بسبب العنف السياسي، والحملة على المعارضين، وانتهاكات حقوق الإنسان. في كوبا أيضا، هناك أمل لمستقبل ديمقراطي، بعد أن بدأ الدكتاتوريين الشيوخ فيها بإدخال إصلاحات في نهاية المطاف.  وفي ميانمار (المعروفة أيضا باسم بورما)، لا يزال التحول البطيء وغير المتكافئ  جاريا من الحكم العسكري إلى الحكم الجامع، وإن كان لا يزال محفوفا بالصعوبات.

ملصق للرئيس المصري المخلوع محمد مرسي وسط حطام مخيم احتجاج مسح في القاهرة، أغسطس 2013. رويترز
ملصق للرئيس المصري المخلوع محمد مرسي وسط حطام مخيم احتجاج مسح في القاهرة، أغسطس 2013. رويترز

ما الذي سيحدد ما إذا كانت محاولات التحول الديمقراطي ستكون ناجحة؟

 تقدم لنا التجارب السابقة بعض الأفكار. وقد أجرينا مقابلات موسعة مع 12 من الرؤساء السابقين ورئيس وزراء سابق واحد، من الذين لعبوا أدوارا حيوية في التحولات الديمقراطية الناجحة في البرازيل وشيلي وغانا وإندونيسيا والمكسيك والفلبين وبولندا وجنوب أفريقيا وإسبانيا.  بعض من هؤلاء القادة في الأنظمة الاستبدادية قد ساعدوا  في توجيه بلدانهم نحو الديمقراطية الحقة. فيردنيناند دي كليرك، رئيس جنوب أفريقيا، الذي تفاوض مع نيلسون مانديلا والمؤتمر الوطني الأفريقي لوضع حد لنظام الفصل العنصري، و بي جي حبيبي، نائب الرئيس في عهد دكتاتور اندونيسيا الحاكم منذ فترة طويلة، سوهارتو، الذي أصبح رئيسا بعد استقالة سوهارتو بسبب الاحتجاجات واسعة النطاق ضده. وقد قام حبيبي بإطلاق سراح السجناء السياسيين وشرّع عمل النقابات التجارية، وانهى الرقابة على الصحافة، وسمح بتشكيل أحزاب سياسية جديدة، وغيّر قواعد السياسة الإندونيسية، مما مهد الطريق نحو التحول الى الديمقراطية الدستورية.

هناك ايضا قادة آخرين كانوا بارزين في حركات المعارضة التي وضعت نهاية للحكم الاستبدادي، وساعدوا بالتالي، في بناء ديمقراطيات مستقرة. وقد أصبح باتريسيو آيلوين، القيادي في حركة المعارضة ضد الجنرال أوغستو بينوشيه الذي بقي فى الحكم طويلا في تشيلي، الرئيس الاول المنتخب لبلاده بعد استعادة الديمقراطية في عام 1990. كما أصبح تاديوس مازوفيتسكي، وهو مفكر كاثوليكي وزعيم نقابة التضامن، أول رئيس وزراء لبولندا ما بعد الحقبة الشيوعية.
كان لنا أيضا مقابلات مع شخصيات أخرى، منهم القادة الذين حاربوا الاستبداد، مثل الكسندر كفاشنيفسكي، وهو وزير في الحكومة الشيوعية في بولندا،  وشارك في مناقشات المائدة المستديرة التي أدت إلى الانفتاح الديمقراطي في بولندا، وساعد، عندما اصبح رئيسا لبولندا، في وقت لاحق، في بناء المؤسسات الديمقراطية. هناك ايضا فيدل راموس، وهو مسؤول عسكري رفيع المستوى في الفلبين في ظل النظام الاستبدادي لفرديناند ماركوس، والذي انضم إلى المعارضة بعد تظاهرات شعبية عارمة في عام 1986، وعمل بعد ذلك وزيرا للدفاع، ثم الرئيس الثاني في فترة ما بعد ماركوس الديمقراطية.

وعلى الرغم من أن القوى الاجتماعية والمدنية، والسياسية الأوسع قد لعبت أدوارا هامة، إلا أن هؤلاء القادة كان لهم دور أساسي في التحولات الناجحة في بلدانهم.  كما أنهم ساعدوا على زوال الأنظمة الاستبدادية، وبناء الديمقراطيات الدستورية، التي أسسوا لها من خلال انتخابات دورية ونزيهة إلى حد معقول، بالاضافة الى وضع قيود معينة على السلطة التنفيذية، وضمانات عملية للحقوق السياسية الضرورية، ولم ينعكس أي من تلك التحولات. ولا تزال الديمقراطية تتقدم في بعض تلك البلدان، لكن التحولات قادت إلى تغيير جذري في توزيع السلطة والممارسة السياسية.
ومعَ أنه ليس هناك، بطبيعة الحال، مقياس واحد يناسب كل نموذج من أجل التغيير الديمقراطي، إلا أن التحولات الأخيرة تقدم لنا بعض الدروس القابلة للتطبيق على نطاق واسع. على الإصلاحيين الديمقراطيين أن يكونوا على استعداد لتقديم تنازلات لأن ذلك من أولويات التقدم التدريجي للوصول الى حلول شاملة. كما  يجب عليهم بناء التحالفات، والوصول إلى داخل الأنظمة التي يسعون للإطاحة بها، وتناول مسائل العدالة والقصاص.  كما يجب عليهم إخضاع الجيش لسيطرة المدنيين. وعلى اولئك المهتمين في بناء ديمقراطيات من تحت أنقاض الديكتاتوريات، تحسين فرصهم باتباع أفضل الممارسات.

إعداد الأرضية المناسبة

يبدأ الانتقال الديمقراطي الناجح  قبل تولي السياسيين المنتخبين مهام مناصبهم بفترة طويلة. ويجب أن تكسب المعارضة أولا الدعم الشعبي الكافي للطعن في قدرة النظام الحالي على الحكم، وأن تؤسس نفسها كمنافس معقول على السلطة.  كما يجب أن يكون زعماء المعارضة  قادرين على حشد الاحتجاجات، وإدانة السجن والتعذيب، وطرد المنشقين، وتجريد النظام الحاكم من الشرعية الوطنية والدولية.

وغالبا ما يتطلب هذا الأمر رأب صدع الخلافات العميقة بين المعارضة حول الأهداف، والقيادة، والاستراتيجيات، والتكتيكات. لقد عمل معظم قادة التحول الذين قابلناهم،  بشكل دؤوب مع مرور الوقت للتغلب على هذه الانقسامات، وبناء تحالفات واسعة من قوى المعارضة وتوحيد الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والعمال والطلاب والمؤسسات الدينية والمصالح التجارية الرئيسة حول جدول أعمال مشترك. ففي بولندا، عمل تضامن النقابات التجارية بشكل وثيق مع المنظمات الطلابية والمثقفين والعناصر التابعة للكنيسة الكاثوليكية. أما حركة المعارضة في البرازيل، فقد قامت بإقناع الصناعيين في ساو باولو لدعم قضيتهم. أما في إسبانيا، فقد قررت جماعات المعارضة تسوية العديد من خلافاتها من خلال مفاوضات  أدت إلى التوصل الى مواثيق مونكلوا عام 1977، حيث اتفق الجميع على آلية إدارة الاقتصاد خلال الفترة الانتقالية.

توحيد المعارضة ليس كافيا يجب على القوى الديمقراطية أيضا استغلال الانقسامات داخل النظام.

 على النقيض من ذلك، أينما تفشل المعارضة في توحيد الرؤى والآفاق، فإن الديمقراطية تعاني.  ففي فنزويلا، لا تزال الانقسامات الخطيرة حول كيفية مواجهة الحكومة، تفشل حتى الآن المعارضة في الاستفادة الكاملة من سوء الإدارة الاقتصادية للنظام. أما في صربيا، فقد كان سلوبودان ميلوسيفيتش قادرا على الحكم بطريقة استبدادية وعلى نحو متزايد منذ توليه زمام السلطة في عام 1989،  ويرجع الفضل في ذلك جزئيا إلى عدم قدرة المعارضة الصربية على تقديم جبهة موحدة . أما في أوكرانيا، فمع أن الثورة البرتقالية في 2004-2005 قد قلبت نتيجة الانتخابات التي اعتبرها الكثيرون مزورة، لكن الانقسامات بين الإصلاحيين أعاقت المزيد من تطوير المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون، مما أدى إلى عقد آخر من حكم القلة والفساد السياسي.

تحتاج حركات المعارضة الديمقراطية أيضا الى بناء الجسور مع أولئك الذين تعاونوا في الماضي مع النظام، والذين هم على استعداد الآن لدعم التحول الديمقراطي. أما التركيز على مظالم الماضي، فإنه سيؤدي إلى نتائج عكسية، ولهذا فإن على الإصلاحيين الديمقراطيين بدلا من ذلك أن يكون لديهم باستمرار رؤية إيجابية واستشرافية للانتقال لمواجهة الخوف السائد الذي غرسته الأنظمة السلطوية. كما ينبغي في الوقت نفسه، تهميش أولئك الذين يرفضون نبذ العنف، أو الذين يصرون على مطالب لا هوادة فيها من أجل الحكم الذاتي الإقليمي أو العرقي أو الطائفي.

 ولن يكون توحيد المعارضة كافيا، بل يجب على القوى الديمقراطية أيضا فهم واستغلال الانقسامات داخل النظام الحاكم. ومن أجل إقناع العناصر داخل النظام أن يكونوا منفتحين للتغيير، ويجب على الإصلاحيين توفير ضمانات موثوقة بأنهم لن يسعوا للانتقام منهم أو مصادرة أصولهم.  كما  يجب أن تعمل حركات المعارضة بجد لتصبح قابلة للتطبيق بالنسبة لأولئك المحاورين داخل النظام السلطوي، من الذين ينتظرون استراتيجية للخروج، وعزل أولئك الذين لا يزالون متعنتين. فعلى سبيل المثال، كانت الاستراتيجية الأساسية للمصلح البرازيلي فرناندو هنريك كاردوسو هي حث عناصر الجيش على البحث عن مخرج.

ويجب على المسؤولين الحاليين الذين يدركون الحاجة إلى الابتعاد عن الحكم الاستبدادي، في المقابل، أن يجدوا الوسائل المناسبة للحفاظ على دعم الدوائر الأساسية عند التفاوض مع جماعات المعارضة. كمثال على هذا نأخذ الاجتماع الذي عقده فرديناند دي كليرك مع أعضاء حكومته في عام 1989 وعام 1990. ويقال أنه، في هذه المحادثات، حدث إجماع سري داخل مجلس الوزراء على تلك الخطوات الدراماتيكية التي سيعلن عنها، وهي إضفاء الشرعية على حزب المؤتمر الوطني الافريقي، وتحرير مانديلا وغيره من السجناء السياسيين، وفتح مفاوضات رسمية.

نيلسون مانديلا ودي كليرك في بريتوريا، مايو 1994. رويترز
نيلسون مانديلا ودي كليرك في بريتوريا، مايو 1994. رويترز

ويمكن عقد اتصال مباشر بين المعارضة والنظام سراً في البداية، إذا لزم الأمر، كما كان الحال مع الاتصالات الأولية بين المسؤولين الحكوميين وممثلي حزب المؤتمر الوطني الافريقي، والتي عقدت خارج جنوب أفريقيا في منتصف الثمانينات . هناك ايضا الحوارات غير الرسمية، مثل مناقشات المائدة المستديرة في بولندا، والتي ساعدت أعضاء النظام والمعارضة الديمقراطية على فهم بعضهم البعض، والتغلب على الصور النمطية، وبناء علاقات عمل. وقد تحدث دي كليرك عن هذا بالقول: “لا يمكن حل الصراع من دون أن تتحدث الأحزاب مع بعضها البعض. . . لكي تنجح المفاوضات،عليك أن تضع نفسك في موقع الطرف الآخر. لابد من التفكير في قضيتهم وتحديد. . .متطلبات الحد الأدنى [للطرف الآخر] من أجل ضمان التعاون والمشاركة البناءة في عملية التفاوض “. يجب على الإصلاحيين، خلال هذه العملية، ممارسة الضغط على النظام وتحمل المخاطر لتحقيق التقدم المستمر، حتى لو كان تقدما تدريجيا وتراكميا فقط. كما يجب أن يكونوا على استعداد لتقديم تنازلات، حتى لو كانت تلك التنازلات تتضمن ترك بعض الأهداف الحيوية من دون أن تتحقق بشكل كلي جزئيا، ويؤدي ذلك الى احباط في صفوف بعض أنصارهم. وغالبا ما يتطلب رفض المواقف المتطرفة المزيد من الشجاعة السياسية أكثر من المبادئ البراقة غير العملية. تحقيق الانتقال ليست مهمة للدوغمائيين متحجري الأفكار.

في غانا، على سبيل المثال، رفض جون كوفور، زعيم الحزب الوطني الجديد، مقاطعة حزبه للانتخابات عام 1992، بحجة أن الحزب يجب أن يشارك في انتخابات عام 1996، على الرغم من أنه قد يخسر. ثم أدى فوز كوفور لاحقا في انتخابات عام 2000 إلى انتقال سلمي للسلطة من خلال صناديق الاقتراع، وهو النمط الذي استمر لمدة 15 عاما.  وفي المكسيك، قام ارنستو زيديلو، على الرغم من كونه عضوا بارزا في الحزب الثوري الدستوري الحاكم منذ فترة طويلة،  بتأييد إصلاحات تدريجية في الإجراءات الانتخابية التي كان يتفاوض عليها مع المعارضة، في وقت بدا فيه أنه من غير المحتمل، بعد سبعة عقود في السلطة، أن يتخلى الحزب عن السلطة.  وعندما أصبح لاحقا، رئيسا للبلاد، وافق على إجراء مزيد من التغييرات فيما يتعلق بتمويل الحملات الانتخابية، ودعم الإصلاحات لتعزيز السلطات الانتخابية، مما ساعد على فتح الطريق، في عام 2000، لإنتقال غير مسبوق للسلطة من الحزب الثوري الدستوري الى المعارضة.

الأوكرانيين في مركز اقتراع في كييف، مارس 2006. رويترز
الأوكرانيين في مركز اقتراع في كييف، مارس 2006. رويترز

كانت المخاطر وراء رفض تقديم تنازلات واضحة جدا في حالة مصر. خلال فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين القصيرة، أصرت الجماعة على أجندة إسلامية، بينما قامت بصياغة دستور جديد، وتسبب هذا في نفور قطاعات واسعة من السكان. أما في شيلي، فقد تبنى أعضاء اليسار المتطرف من المعارضة “كل أشكال النضال”، بما في ذلك العنف، ضد نظام بينوشيه. وبحلول عام 1986، أدرك غالبية اعضاء حركة المعارضة أنهم لا يستطيعون الإطاحة بالنظام الديكتاتوري بالقوة، وأن التعاون مع اليسار المتطرف قد شوه حركة المعارضة.  ثم تحولوا  بدلا من ذلك إلى العمل السلمي وتعهدوا ببناء “وطن للجميع”. وقد ساعد هذا النهج المعارضة على الانتصار على أوغستو بينوشيه في استفتاء 1988، وهي الانتخابات التي كان كثيرون في المعارضة يريدون مقاطعتها في البداية.

المدنيون والأمن

إسقاط نظام استبدادي شيء، والحكم شيء آخر مختلف تماما. وعادة ما يواجه قادة التحول في كثير من الأحيان ضغوطا لتنظيف منزل بالكامل، والبدء من جديد، ولكن ينبغي لهم ان يقاوموا. يتطلب الحكم وجهات نظر وأفراد ومهارات تختلف تماما عن تلك المطلوبة في فترة المعارضة. وبمجرد أن تتولى المعارضة السلطة، فإن الخطوة الأكثر أهمية هي وضع حد للعنف، واستعادة النظام، والتأكد أن جميع قوات الأمن تعمل في إطار القانون. وقد قدمت مقابلاتنا روايات رائعة من التحديات التي تشكلها العلاقات المدنية-العسكرية. وينبغي على المصلحين إخضاع جميع الأجهزة الأمنية تحت السيطرة المدنية الديمقراطية في أقرب وقت ممكن، وفي نفس الوقت، الاعتراف واحترام الأدوار المشروعة لتلك الخدمات الامنية، وتزويدها بالموارد الكافية، وحماية قادتها من أي أعمال انتقامية واسعة بسبب قمع الماضي.

يعتبر إخضاع الأجهزة الأمنية للسيطرة المدنية واحدا من أكثر التحديات التي تواجهها الديمقراطيات الجديدة.

ومن أجل تحقيق ذلك، يجب فصل الشرطة وأجهزة الاستخبارات المحلية عن القوات المسلحة. كما يتعين على القادة غرس مواقف جديدة في الشرطة تجاه السكان العام من خلال التأكيد على مسؤولية قوات الأمن في حماية المدنيين بدلا من قمعهم، من دون التقليل من قدرة القوات على “تفكيك الجماعات التي تتبنى العنف”. ويجب على الإصلاحيين عزل كبار الضباط المسؤولين عن التعذيب والقمع الوحشي، ووضع كبار القادة العسكريين تحت السلطة المباشرة لوزير دفاع مدني، وأن يمنع الضباط العسكريين العاملين في الخدمة الفعلية من المشاركة السياسية.

وصف هذه الخطوات أسهل من سنِّها، وتنفيذها يتطلب حكما سياسيا حريصا وشجاعا، ويمكن، في بعض الحالات، معالجتها في وقت مبكر. وقد يستغرق هذا الامر، في بلدان أخرى، وقتا طويلا. غير أنه ينبغي اعطاءها الأولوية العالية منذ البداية، فضلا عن اليقظة المستمرة. وقد أوضح حبيبي، عند مناقشة العلاقات المدنية-العسكرية في إندونيسيا، أن “أولئك الذين يقودون عملية الانتقال. . . يجب أن يبينوا، ليس عن طريق الكلام أو الكتابة، ولكن من خلال العمل، أهمية السيطرة المدنية “.

ويجب أن يكون المسؤولون المدنيون الكبار التي تناط بهم مهام الإشراف على قوات الأمن، على دراية بالمسائل الأمنية والاحترام لزملائهم في الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات.  قد يكون هذا الأمر صعبا، حيث تتصادم الحركات الديمقراطية مع الأجهزة الأمنية، عندما يكون عدم الثقة متبادلا بين الطرفين، وعندما لا يكون هناك احترام كافٍ للخبرات المدنية في الشؤون العسكرية.

الرئيس الغاني جون كوفور يدلي بصوته في أكرا، 2008. رويترز
الرئيس الغاني جون كوفور يدلي بصوته في أكرا، 2008. رويترز

على قادة التحول أيضا السعي إلى تحقيق التوازن بين الرغبة في الاستمرار باعتبار النظام السابق مسؤولا عن الاحداث السابقة، وبين ضرورة الحفاظ على الانضباط والروح المعنوية للقوات الأمنية، وعليهم ايضا تقع مسؤولية  تعزيز القبول المتبادل السلمي بين الأعداء السابقين، وهي بالطبع ليست مسألة سهلة. عندها فقط سيمنح المواطنون الثقة للدولة التي طالما اعتبروها عدائية وغير شرعية، وعندها فقط سوف تتعاون قوات الأمن بشكل كامل مع المواطنين التي كانت تعتبرهم مخربين في السابق.

ويعتبر إخضاع الأجهزة الأمنية لسيطرة المدنيين واحدا من أكثر التحديات القديمة التي تواجه الديمقراطيات الجديدة. إن السيادة الدائمة التي يتمتع بها الجيش المصري أكثر من أي مؤسسة منتخبة، تكمن في صميم التحول الديمقراطي الفاشل في مصر. أما في بلدان متنوعة أخرى مثل غامبيا وميانمار وتايلاند، فإن غياب السلطة المدنية على قوات الأمن لا تزال أهم عقبة في وجه التحول الديمقراطي الناجح.

التحدي الدستوري

يمكن أن يساعد أخضاع الجيش لسيطرة مدنية، قادة التحول على بث الثقة المحلية والشرعية الدولية. وهكذا، أيضا، يمكن تطوير الإجراءات الانتخابية التي تعبر عن إرادة الأغلبية، والتي تُطمئن أولئك الذين يخسرون في الانتخابات أنه سيتم استيعاب المخاوف الأساسية في ظل سيادة القانون. من الضروري في معظم البلدان، صياغة دستور جديد، على الرغم من أن اندونيسيا احتفظت بدستور عام 1945 مع تعديل بعض الأحكام، ولم تتبنى بولندا دستورا جديدا بالكامل حتى عدة سنوات بعد انتهاء الشيوعية.

كما ينبغي إشراك مجموعة واسعة من المشاركين في صياغة الدستور الذي يعالج المخاوف المركزية للقطاعات الرئيسية، حتى عندما يعني هذا قبولا مؤقتا بالإجراءات التي تقيد الديمقراطية.  انظر الى النظم الانتخابية المتحيزة والمحافظة في تشيلي لمدة 25 عاما بعد نهاية نظام بينوشيه لاسترضاء الجيش والجماعات المحافظة، ومنح منصب نائب الرئيس لزعيم المعارضة في جنوب أفريقيا. كما قد يتطلب بناء تأييد واسع لوضع دستور جديد، ودمج التطلعات السامية التي تحتاج إلى زيادتها لاحقا، أو بصورة تدريجية، مثل الأحكام الاجتماعية والاقتصادية الطموحة في الدستور البرازيلي لعام 1988، التي دعت إلى توسيع مجال حقوق العمال، والإصلاح الزراعي، والرعاية الصحية الشاملة.

يجب على الإصلاحيين تقديم تنازلات، حتى لو كان هذا يعني عدم تحقيق بعض الأهداف الحيوية بشكل كلي.

على الرغم من أن الصياغة الدقيقة للدستور مهمة جدا، إلا ان الأهم من ذلك هو كيف ومتى، وعلى يد من سيتم اعتماد الدستور. ويجب على واضعيه تحقيق قبول واسع به، والتأكد من أنه ليس سهلا جدا ولا مستحيلا من الناحية العملية تعديل الدستور عندما تقتضي الظروف.  وقد انتقد الكثيرون صياغة أيلوين حول أن لجنة الحقائق في تشيلي كان يمكن أن توفر العدالة “قدر الإمكان”- ولكنه لم يكن من الممكن توسيعها على مر السنين. وينبغي أن يكون الهدف الرئيس هو تأسيس قبول واسع في القواعد الأساسية للمشاركة الديمقراطية. وقد عبر ثابو مبيكي، ثاني رئيس لجنوب افريقيا بعد مرحلة الفصل العنصري، عنها بالقول “كان من المهم أن يكون الدستور ملكاً لشعب جنوب أفريقيا كافة، وبالتالي فإن عملية صياغة  الدستور تكون شاملة.”

كما يجب أن تشمل العملية مؤيدي النظام السابق، الذين هم بحاجة إلى الحصول على ضمانات أنه سيتم احترام حقوقهم في ظل سيادة القانون. كما  أن محاكمتهم بالجملة سياسة غير حكيمة. ويجب على القادة الجدد بدلاً من ذلك القيام بالإجراءات القانونية الشفافة للبحث عن الحقيقة حول الانتهاكات السابقة، وتقديم الاعتراف وربما تعويض الضحايا، وإحضار الجناة أمام العدالة إن كان ذلك ممكنا. وعلى الرغم من أن المصالحة الكاملة قد تكون مستحيلة، إلا أن التسامح المتبادل هو هدف أساسي. والتنازلات، مرة أخرى، أمر مهم جدا.

تحقيق التوازن بين الأفعال

بينما تترسخ التحولات الديمقراطية، غالبا ما يلقي الجمهور باللوم على القادة الديمقراطيين، وفي بعض الأحيان الديمقراطية نفسها لفشلها في تلبية التوقعات الاقتصادية أو السياسية. وعادة ما ترث السلطات الجديدة أنماطاً عميقة الجذور من الفساد وعدم الكفاءة. كما قد تفترق الحركات التي توحدت في معارضة النظام الاستبدادي. أما منظمات المجتمع المدني التي ساهمت في حركات المعارضة المناهضة للسلطوية، فقد تضمحل أو تتبنى مواقف تخريبية، خاصة إذا دخل العديد من قادتها الموهوبين في صفوف الحكومة أو الأحزاب السياسية.

يمثل بناء علاقات بناءة بين الحكومة الجديدة والمعارضة الجديدة تحديا مستمرا. وهذه المنافسة بين الحكومة والمعارضة أمر جيد يصب في صالح الديمقراطية، ولكن الإعاقة الكاملة من قبل المعارضة لعمل الحكومة، أو قمع الانتقادات من قبل الحكومة يمكن أن يدمر العملية السياسية بسرعة. ويمكن للقضاء المستقل الذي يحمل على عاتقه مساءلة السلطة التنفيذية من دون عرقلة الكثير من المبادرات الجديدة ووسائل الإعلام الحرة والمسؤولة، أن يساعد في ترسيخ الديمقراطية المستدامة.

وتلعب الأحزاب السياسية أيضا دورا مهما، طالما أنها لن تصبح مجرد سيارات خاصة لأفراد معينين هم واتباعهم. ويمكن أن تقدم اللأحزاب الديمقراطية المنظمة تنظيما جيدا، أفضل الطرق لإشراك الناس من جميع الطبقات، وحشد الضغط الفاعل، وتنظيم الدعم المستدام للسياسات، وتوجيه المطالب العامة، والتعريف بـ وتشجيع القادة المهرة. ويتطلب تطوير الأحزاب القوية عناية فائقة بالإجراءات والضمانات حول اختيار المرشحين وتمويل الحملات الانتخابية، والوصول إلى وسائل الإعلام. ويرجع استمرار التحديات التي تواجه الحكم الديمقراطي في غانا وإندونيسيا والفلبين جزئيا إلى ضعف الأحزاب السياسية.

وعلى الرغم من أن التحولات عادة ما تكون ناجمة عن أسباب سياسية وليست اقتصادية، فقد أصبحت التحديات الاقتصادية مؤخرا من أولويات الحكومات الجديدة. وقد يتعارض الحد من الفقر والبطالة مع الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتعزيز النمو طويل الأجل، واستقرار الاقتصاد الكلي.  وينبغي على الحكومة، قبل أن يقل الدعم الشعبي القوي لها، أن تقوم بتنفيذ تدابير اجتماعية تخفف من المصاعب التي تعاني منها الفئات الأكثر ضعفا، ولكنها تحتاج أيضا إلى ممارسة مسؤوليتها المالية. كل قادة التحولات الذين درسناهم، قد اعتمدوا نهجاً موجها نحو السوق وسياسات نقدية ومالية حكيمة للاقتصاد ككل، ولكنهم قاموا بذلك بحصافة وحذر لتجنب تأجيج المخاوف الشعبية التي كانت تخشى أن تباع المصالح العامة إلى أصحاب الامتيازات. وحتى أولئك الذين كانوا في البداية معادين للأسواق الحرة، اعترفوا فيما بعد أن الأسواق كانت ضرورية في ظل اقتصاد معولم بشكل متزايد، بالإضافة الى السياسات الاجتماعية القوية التي يمكن أن تنتج تنمية اقتصادية أكثر إنصافاً.

ليست الديمقراطية في الشرق الأوسط سلعة مستوردة كما يشير التاريخ الحديث للتدخلات الغربية في الشرق الأوسط بوضوح. غير أن الجهات الخارجية، الحكومية وغير الحكومية، يمكنها أن تدعم  التحولات الديمقراطية، إذا كانت تحترم القوات المحلية وتشاركها في دعوتهم. ويمكنها في بعض الأحيان، توفير الظروف اللازمة لحوار هادئ بين زعماء المعارضة وممثلي النظام.  كما يمكنها تقديم المشورة حول العديد من القضايا العملية، بدءً من القيام بحملة لكيفية الاستفادة الفاعلة من وسائل الإعلام، وانتهاءً بكيفية مراقبة الانتخابات. كما  يمكن لفرض عقوبات اقتصادية أن يساعد في كبح القمع، كما حدث في بولندا وجنوب أفريقيا.  ويمكن للبلدان الأجنبية تقديم المساعدات والاستثمارات لدعم التحولات الديمقراطية، كما حدث في غانا والفلبين وبولندا.  ومن شأن المساعدة الاقتصادية الدولية خلال المرحلة الانتقالية أن توفر مجالاً للإصلاح السياسي عندما تقدم استجابة لأولويات محلية وبالتعاون مع الجهات المحلية.

ولا يمكن للتدخل الدولي أن يحل محل المبادرات المحلية، ولكنه سيكون فاعلا على الأرجح عندما يستمعون، ويطرحون الأسئلة النابعة من تجربتهم في تحديات مماثلة، ويشجعون المشاركين المحليين على النظر في القضايا من وجهات نظر مختلف الجهات الفاعلة الخارجية.

عالم متغير

لقد حوّلت الجهات الفاعلة الجديدة والتكنولوجيا والضغوط الاقتصادية، والمحركات الجيوسياسية، السياق الذي تحدث فيه التحولات الديمقراطية اليوم.  ويمكن لأي شخص لديه هاتف محمول الآن أن يثير احتجاجات واسعة عن طريق تسجيل فديو عن عنف رجال الشرطة. كما يمكن لوسائل الإعلام الاجتماعية ان تعيد تشكيل الرأي العام بسرعة، وأن تسمح للمنظمين بتجميع أعداد كبيرة من الأنصار. غير أن هذه التقنيات الجديدة لا يمكن أن تكون بديلا عن العمل الجاد لبناء المؤسسات. إن الأمر يشبه ما قاله كاردوسو، منهدس التحول الديمقراطي في البرازيل، عندما قال أن “المشكلة هي أنه من السهل تشكيل حشد للتدمير،  ولكن اعادة البناء أمر صعب جدا.  وليست التكنولوجيات الجديدة كافية بحد ذاتها لاتخاذ الخطوة التالية إلى الأمام. كما أن هناك حاجة إلى المؤسسات، بالإضافة الى القدرة على فهم واجراء وممارسة القيادة المستدامة، حيث يصفها كوفور بالقول أن ” لا يمكن للجماهير بناء المؤسسات، وهذا هو السبب في أن القيادة مهمة “.

في قادم الأيام ، ستكون الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، بسبب قوة وقابلية الشبكات الرقمية، قادرة على الضغط على الأنظمة الاستبدادية بشكل أكثر فاعلية مما كانت عليه في الماضي. لكن هذه الحركات لا يمكنها أن تحل محل الأحزاب السياسية والقادة السياسيين.  ويجب على هذه الجهات بناء المؤسسات في نهاية المطاف، وبناء التحالفات الانتخابية والحاكمة، وكسب تأييد الرأي العام، وإعداد وتنفيذ السياسات وتقديم التضحيات من أجل الصالح العام، وجعل الناس يميلون إلى الاعتقاد أن الديمقراطية ممكنة.

من الصعب بناء ديمقراطيات عاملة ومستدامة في البلدان التي لا يوجد فيها تجربة حديثة من الحكم الذاتي، حيث أن المنظمات الاجتماعية والمدنية تكون هشة، ومؤسسات الدولة ضعيفة وغير قادرة على توفير الخدمات والأمن الكافي.  كما قد تكون الديمقراطية أيضا من الصعب إقامتها في البلدان ذات الانقسامات العرقية والطائفية، أو الإقليمية القوية.  ويمكن للحكومات المنتخبة ديمقراطيا مع ذلك تبني الحكم الاستبدادي المطلق من خلال تجاهل، وإضعاف، أو عدم اعطاء اهتمام كافي بالقيود التشريعية والقضائية التي يتطلبها الحكم الديمقراطي.  ومع ذلك، فإنه من المسلم به أن كل هذه الدول تحتاج إلى التغيير الديمقراطي بسرعة.  وتوضح لنا الأمثلة من غانا وإندونيسيا والفلبين وجنوب أفريقيا وإسبانيا أن هذه التحديات يمكن أن تتحقق في ظل العديد من الظروف المختلفة، حتى في البلدان المنقسمة بعمق.

ويمكن للشباب المتعلم، أكثر من أي وقت مضى، حشدها اليوم وتحفيزها للتظاهر في الميادين العامة من اجل الديمقراطية، خصوصا عندما تكون فرص العمل نادرة. ويبقى التحدي، مع ذلك، هو إشراكهم بصورة مستمرة في بناء أحزاب سياسية دائمة وغيرها من المؤسسات. لاتظهر الديمقراطية، مباشرة أو بشكل لا مناص منه، من الحشود في الشوارع. إن  بناء الديمقراطيات يتطلب الرؤية والتفاوض والتسوية والعمل الجاد والمثابرة والمهارة والقيادة وبعض الحظ. وعلى الرغم من كل العقبات، إلا أن التحولات الديمقراطية قد نجحت في الماضي. ويمكن للتعلم وتطبيق الدروس المستفادة من هذه التجارب الناجحة أن يساعد في إنهاء الاستبداد، وإقامة ديمقراطيات مستدامة في مكانه…..


إبراهام لوينثال ،زميل غير مقيم في معهد بروكينغز والمدير المؤسس للحوار بين الأميركيين. ورئيس مؤسسة شيلي من أجل الديمقراطية.

سيرجيو بيطار ، زميل غير مقيم في معهد بروكينغز.

المصدر:

https://www.foreignaffairs.com/articles/2015-12-14/getting-democracy