لؤي الخطيب

يعد انخفاض أسعار النفط، واتساع العجز المالي، وارتفاع عدد السكان، والاضطراب السياسي، والإرهاب، والتعصب الديني، وارتفاع بطالة الشباب، وصفة لكارثة اقتصادية للمنطقة التي كانت تسيطر على إمدادات الطاقة الرئيسية في العالم وظهرت كقوة ستحقق النجاح الاقتصادي على المدى الطويل . هل اجبرت لعنة النفط ان تحدق المنطقة على هاوية اقتصادية مع ارتفاع العجز المالي؟ وقد كان للدورة الحالية لاسعار النفط العالمية وتناقصها وما يترتب على ذلك من سياسة دعم الاستهلاك المحلي للطاقة تأثير كبير على حيازات صندوق الثروة السيادية لدول الشرق الأوسط “الريعية”.

 حتى اكثر اقتصادي محنك في صندوق النقد الدولي لا يمكن له ان يتوقع مدى الآثار الاقتصادية للانكماش الاقتصادي العالمي منذ عام 2008. في حين أنه لا يزال من السابق لاوانه التنبؤ بدرجة معقولة من اليقين نتائج تلك السياسات في ضوء الكارثة الاخيرة في اليونان، تستمر سياسات التقشف في الاقتصادات الغربية، في حين أن بعض الاقتصادات الآسيوية قد عادت إما إلى الاقتصاد الكينزي، أو مثل الصين التي استخدمت تدخل الدولة المباشر للتخفيف من الصدمات الهائلة لسوق الأسهم.

ازدياد العجز  في الميزانيات

ومع ذلك في الشرق الأوسط، على الدول الغنية بالنفط الآن للتعامل مع بعضهم للمرة الأولى، مع ارتفاع العجز في الميزانية الذي يستلزم تغيير اقتصاد الدول الريعية الكلاسيكية الذي ينطوي على خفض اعتمادها على عائدات النفط. هذا التحول التاريخي الكبير، الذي سوف يؤثر على الأجيال القادمة ، يتزايد الشعور به من قبل الجيل الحالي من الشباب، حيث تعاني العديد من الدول الإقليمية البطالة الجماعية، مع عدم قدرة الخريجون على العثور على عمل في القطاع العام أو الخاص.

ان مسألة إدارة الديون هي الآن على رأس الأولويات في بعض اقتصادات منطقة الشرق الأوسط، كما يتضح من الوضع الخطير الذي واجهته دبي في عام 2008، عندما أجبرت الكيانات البارزة المملوكة للدولة والتي قادت قطاعات العقارات والإنشاءات على إعادة هيكلة ديونها مع وجود تأثير سلبي على بقية اقتصاد الإمارة.

هل يعني هذا الاتجاه الناشئ أن الاقتصاد العالمي يتأرجح مرة أخرى؟ على مدى العقود الثلاثة الماضية، قدمت صناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط سيولة كبيرة التي ساعدت على تعزيز قوة الدولار الأمريكي كعملة عالمية بارزة، والحفاظ على هيمنة النظام المصرفي الأمريكي. ان النمو المذهل في الائتمان وحجم تداول المشتقات، إلى جانب ارتفاع العجز في الميزانية المالية في الغرب اثر سلبياً على أسواق الأصول المختلفة ، والتي لم تعد مستدامة كان ينظر الى صناديق الثروة السيادية كالفرسان المنقذة.

أدى الركود العالمي في عام 2008 إلى انهيار سريع في أسعار السلع الأساسية، وحتى عام 2010 ، لم يتحدث أي شخص عن الانتعاش. تعافى جزء من الاقتصاد الأمريكي بفضل الطفرة الداخلية لنفط وغاز شيل، ولكن على عكس فترات الركود السابقة فشلت الولايات المتحدة في إحياء معدلات النمو الى 3٪ لسحب بلدان أخرى واخراجها من الركود. ظلت أوروبا مريضة وراكدة تقريبا، مع نمو الصين وآسيا نمواً بطيئاً إلى حد كبير، وانتهت بعض البلدان مثل إندونيسيا في حالة ركود.

ان أسعار النفط اليوم اقل ب 50٪  من العام الماضي، وظلت أسعار الفائدة منخفضة لفترة طويلة، وانخفضت تكاليف العمالة وأسعار السلع الأساسية ايضاً، لذلك ينبغي للمرء أن يتوقع احتمالات معقولة من النمو الاقتصادي المستدام، ولكن بعض النقاد يبقون متشائمين في الوقت الذي لاتظهر فيه الاقتصادات الأخرى ما عدا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اي علامات تذكر على انتعاش سريع.

أن انخفاض أسعار النفط عادةٍ ما يعزز النمو الاقتصادي. لماذا لم يحدث هذا؟ ان نزول الاسعار بمعدل 50٪ سيؤثر وبشكل سيء على المستهلكين في دول العالم النامية، مع انخفاض أسعار البنزين بمعدل 10-15٪ فقط بالنظر إلى أن غالبية اسعار البيع بالتجزئة في كثير من البلدان تعتمد على الضرائب التي لم يتم قطعها بعد ولم يستعد المستهلك ثقته بعد، كما لم تتعافى أسعار العقارات خارج العواصم بسرعة، ولاتزال نسب البطالة للكثير من الدول الأوروبية مرتفعة تاريخياً وخاصة بين جيل الشباب.

ان انخفاض أسعار النفط قد أضعف الموازين الخارجية والمالية للدول المصدرة للنفط، مع توقع انخفاض إيرادات عام 2015 بحوالي 300 مليار دولار مقارنة مع عام 2014. ومن المرجح  ان تختفي فوائض الحساب الجاري ، وستواجه بعض البلدان المصدرة للنفط من دول مجلس التعاون الخليجي العجز المالي للمرة الأولى خلال عقدين من الزمن. سوف يقدر الكثيرعلى تجنب إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق الحكومي على المدى القصير، حيث يمتلكون مخزون مالي كبير من كل صناديق الثروة السيادية والاحتياطيات الأجنبية المتراكمة من ارباح السنوات الماضية، وحتى مع سعر 50 دولار للبرميل، لازالت هذه البلدان تحقق بعض الربح. ومع ذلك، فقد خفضت دول أخرى مثل مصر، والمغرب، وتونس، والجزائر الدعم للوقود والغذاء، وأدخلت تخفيضات على الإنفاقات الأخرى في الاستثمار العام.

 يواجه العراق عجزاً متزايداً مع نقص عائدات تصدير النفط عن توقعات الميزانية الرسمية وسط حرب طويلة ومكلفة مع داعش (انظر للصفحة 24). ومن الجدير بالذكر أن احتياطي العملات الأجنبية في العراق قد انخفض بالفعل من 77 مليار دولار (كانون الاول 2013) الى 67 مليار دولار (ايار 2015). ان المعضلة الحالية لدول مثل العراق هي كيفية سد العجز، وعلى النقيض منه تمتلك دول مثل الإمارات العربية المتحدة، والكويت، وقطر، والمملكة العربية السعودسية خيارت، إما تصفية الأصول أو تخفيض الاحتياطيات الأجنبية.

شهدت المملكة العربية السعودية، التي لا تمتلك صندوق ثروة سيادي لكن لديها سلطة نقدية، أصولها الأجنبية وهي تنخفض بنسبة 60 مليار دولار، أو 8.3٪ منذ نهاية كانون الاول 2014 لتصبح 664 مليار دولار بحلول نهاية حزيران 2015 وفقاً للارقام الرسمية. وقد وافقت الكويت على عجز الميزانية لعام 2015 والمقدر 27 مليار دولار، وتدرس الدولة إصدار سندات، في وقت انخفض ​ صندوق ثروتها السيادي بما يقدر بـ 548 مليار دولار. ووافقت سلطنة عمان، والمتوقع أن تزيد في الإنفاق العام، على العجز في ميزانيتها والمقدر6.47 مليار دولار لعام 2015. وتتوقع البحرين عجزا قدره  3.9 مليار دولار، أي ما يعادل 11٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وسترفع الدولة الدعم عن الوقود، والغذاء، والكهرباء، والمياه، واللحوم لمجتمعات المغتربين فيها. حتى دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تجنبت العجز، وذلك بفضل سياستها في التنويع الاقتصادي التي تهدف إلى الحد من الاعتماد على عائدات النفط، قامت بتحرير أسعار الوقود، البنزين والديزل، وذلك اعتبارا من 1 اب (MEES ، 31 تموز). كما تقوم أيضا وبحكمة بصياغة قوانين الضريبة على الشركات والضريبة على القيمة المضافة، فقط لانها قد تحتاج لتنفيذها في المستقبل القريب. وعلاوة على ذلك فقد زادت الضرائب غير المباشرة على تأشيرات المغتربين، والإدارة الحكومية المحلية، والمخالفات المرورية، الخ.

قامت دول مجلس التعاون الخليجي وصناديق الثروة السيادية العربية الأخرى بالاستثمار تاريخيا في سندات الخزانة الأميركية وغيرها من سندات الدين الحكومية الأوروبية، وكذلك الممتلكات في العواصم حول العالم – خاصة في لندن ونيويورك. في السنوات الأخيرة كان هناك زيادة في الاستثمار من خلال صناديق الثروة في القطاع الخاص، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن طريق صناديق الاستثمار الخاصة. على سبيل المثال، وضعت شركة مبادلة للتنمية (شركة حكومية تابعة للإمارات العربية المتحدة) 90٪ من استثماراتها في القطاع الخاص، حيث يتضح هذا من زيادة حصتها في مجموعة كارلايل، التي تعد حالياً أكبر شركة موثوقة للاستثمارات الملكية الخاصة في العالم. ومع ذلك، في الوقت الذي يتوقع فيه انخفاض أسعار النفط، والتي ستستمر خلال السنوات القليلة المقبلة، فان عائدات النفط لم تعد تغطي الزيادة المتوقعة في الإنفاق الحكومي. لذلك، من المرجح أن تجف صناديق الاستثمار.

من المرجح عدم نمو صناديق الثروة السيادية التي يمولها النفط  بشكل كبير على المدى القصير والمتوسط ​​الأجل، ولا يمكن لاحد أن يستبعد بيع النفط في المستقبل من أصول تمويل العجز في الميزانية. من المرجح ان تشهد أسواق سندات الخزانة عدد أقل من المشترين، والتي قد تمارس الضغوط لرفع أسعار الفائدة، حيث من المحتمل أن تنخفض أسعار السندات، وقد يواجه سوق العقارات التجارية الفاخرة تباطؤ أيضا. ان أي انخفاض في الانفاق لدول مجلس التعاون الخليجي في المستقبل، لن يؤدي إلا الى الشك وانعدام الثقة في العديد من الأسواق.

هل تشكل الفترة الحالية من انخفاض أسعار النفط ودخول ايران المحتمل في سوق النفط بعد الاتفاق النووي في فيينا بداية تراجع طويل الأجل في الأهمية الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط ؟ إذا تم التصديق على اتفاق مع إيران من قبل الكونغرس الأميركي، وهذا من شأنه ان يخفض أسعار النفط المنخفضة، بينما تتنافس إيران والدول العربية المنتجة للنفط للحصول على حصة في السوق الإقليمية والعالمية. وعلاوة على ذلك، فإن الزيادة الكبيرة في انتاج الولايات المتحدة لنفط شيل منذ عام 2010 عمل على خفض واردات الولايات المتحدة من النفط الخام، وزيادة صادرات المنتجات النفطية بنسبة خمسة أضعاف. وأضافت الزيادات في الأماكن الأخرى في روسيا، وأفريقيا، وبحر قزوين إلى سوق العرض ايضا، في الفترة التي شهدت ركوداً في الطلب، بسبب التدابير الاقتصادية في استهلاك الوقود وتباطؤ النمو الاقتصادي، ولا سيما في الشرق الأقصى. ان الكثير من الاكتشافات النفطية الأخيرة في أفريقيا ونفط شيل تعتبر جيدة، وبالتالي أكثر قابلية للتسويق من النفط في الشرق الأوسط. تقاتل دول أوبك الآن من أجل الحفاظ على حصتها في السوق، حيث ميزتها الرئيسية الوحيدة هي التكاليف المنخفضة نسبيا للإنتاج.

شرعت معظم الدول المنتجة للنفط على سياسة التنويع الاقتصادي، ولكن “قصة النجاح” الوحيدة والواضحة هي دولة الإمارات العربية المتحدة في مواجهة انخفاض أسعار النفط، وارتفاع المنافسة، وشيئاً آخرغير النفط لتقدم العالم، قد تواجه هذه الاقتصادات المعتمدة على النفط مستقبلاً قاتماً إذا ظل الاقتصاد العالمي متراجعا بهذا الشكل. ان ظهور مصادر بديلة للطاقة، وكثير منها بديل نظيف للوقود الأحفوري، تضيف فقط إلى ويلات العديد من اقتصادات الشرق الاوسط وشمال افريقيا، في الوقت الذي ينمو فيه مزيج الطاقة.

ان الكابوس الجيوسياسي الذي يشكله داعش لا يجذب الاستثمار الأجنبي. وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة لبعض الوقت. شهدت قطر وحدها زيادة في الاستثمار في العام الماضي وذلك بسبب أعمال البناء المتعلقة باستضافتها لكأس العالم لكرة القدم في عام 2022، حتى دولة الإمارات العربية المتحدة عانت من قله الاستثمار. في أماكن أخرى كان التراجع كبيراً، فقد استقطبت المملكة العربية السعودية 39.5 مليار دولار في 2008 وفي 2014 كان الرقم 8 مليار دولار فقط. في العام الماضي شهد الكويت تراجع بقيمه مليار دولار من اصل 1.5 مليار دولار، كما عانت البحرين انخفاضاً بنسبة 30٪ بسبب فقدان المستثمرين للثقة في المنطقة. تظهر شركة شل، التي تركز (بصرف النظر عن أي رفع للعقوبات عن إيران) الآن على النفط في القطب الشمالي، بدلاً من زيادة استثماراتها في منطقة الشرق الأوسط بتكلفة منخفضة، بشكل متميز. ان تفجيرات المساجد، والهجمات الإرهابية على السياح، ونمو داعش والقاعدة كلها تفرض على المنطقة عامل خطر كبير. كما يتم ايضاً تقييد المستثمرين عن طريق القوانين القائمة، التي هي أكثر بيروقراطية من اللازم ، وغالبا ما تفرض قيوداً على الملكية وفرص العمل ولا تشجع هذه القيود على ما يبدو على التنويع والنمو لاقتصاد القطاع الخاص في العديد من البلدان. يفضل السكان المحليون على ما يبدو السعي للحصول على الأمن الوظيفي في القطاع العام بدلاً من مواجهة الشكوك والضغوط في القطاع الخاص.

ان الإصلاحات الاقتصادية، وتقليص الوظائف الحكومية، والخصخصة، وتشجيع القطاع الخاص تأخرت كثيرا في بعض الدول. في واقع الأمر قد تكون هذه الاصلاحات متأخره جداً بالنسبة للكثيرين لمعالجة مشكلة ثقة المستثمرين، حتى ان أسعار العقارات في الإمارات في الشهور الأخيرة قد انخفضت، حيث تراجعت حتى في بعض المناطق في دبي وأبو ظبي.

اغلاق نافذة الفرص

يبدو واضحاً للعديد من المعلقين خارج إطار العالم العربي الغني بالنفط ان نافذة الفرص تضيق. وان صعود مزيج الطاقة، وزيادة المنافسة على التكلفة وإمدادات النفط والغاز يأكل في هوامش الربح، وان التطور التكنولوجي في المستقبل القريب سيؤدي الى مزيد من التخفيضات في تكلفة إنتاج الطاقة، وزيادة تنوع العرض يمكن أن يقلل إلى حد كبير من حصة السوق في الدول العربية الغنية حالياً في مجال النفط والغاز. وفي الوقت نفسه، سوف يستمر السكان في النمو في مواجهة متزايدة من عدم الاستقرار الإقليمي وارتفاع معدلات البطالة. وتوقع البنك الدولي ان هناك حاجة إلى 100 مليون فرصة عمل ليتم إنشاؤها في منطقة الشرق الأوسط بحلول عام 2020 من أجل استيعاب العاملين من الجيل القادم. ويبدو ان خلق فرص العمل سيتجاوز قدرة معظم السياسيين الذين غالباً ما بددوا ثروات النفط في خلق البيروقراطيات الحكومية المتضخمة التي تعج بالفساد والمحسوبية، أو الذين راكموا الاحتياطيات بدلاً من بناء البنى التحتية التي يمكن أن توفر منصة للتنويع الاقتصادي وازدهار الاعمال لسكان البلاد التي يحكمونها.

هل نشهد لعنة الاعتماد على النفط، التي تؤدي الى الموت البطيء في المنطقة والتي يجري فيها استنزاف صناديق الثروة السيادية تدريجياً لتمويل العجز المالي؟ لقد فشلت العديد من الدول في توفير عمل لجيل الشباب العاطل عن العمل، والآن سيكون لديها القليل لتقدمه للجيل القادم. ان الاقتتال الداخلي والإقليمي، والفساد، والتعصب الديني، والانقسام الطائفي المتزايد يعمل والمغذي عادة عن طريق التدخل الأجنبي والناجم عن دخول الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، سيؤدي الى خلق منطقة تعاني من الفقر للأجيال القادمة، إلا إذا ايقض الوضع الحالي السلالات الحاكمة وارغمها على تحمل المسؤولية ومسائلتهم عن التطور الاقتصادي، والتنمية، والأمن، والرعاية الاجتماعية الخاصة بهم، وقبل كل شيء خسارتهم أمام الإرهاب والإجرام. وقد أثبتت دولة الإمارات العربية المتحدة أن الأمن الاقتصادي ممكن، ولكن عدد قليل من الدول في المنطقة تمتلك سياسيون قادرون على تقييم الامور والنظر للمستقبل مثل بعض الحكام الماضين والحاليين في أبوظبي ودبي.

111-e1440660629675 222


 

لؤي الخطيب|المدير المؤسس لمعهد الطاقة العراقي، وزميل غير مقيم في مركز بروكنجز الدوحة

المصدر :

http://www.brookings.edu/research/opinions/2015/08/14-gulf-oil-economies-alkhatteeb