د. زهير جمعة المالكي

عرفت الولايات المتحدة المناظرات الانتخابية الرئاسية منذ نحو 155 عاماً كوسيلة لمعرفة التوجّهات الحقيقة للمرشحين حول بعض الموضوعات التي كان يتعمد مرشحو الرئاسة إخفاءها عن الناخبين، ومنذ ذلك الوقت لم تنقطع سوى خلال المدة بين 1960 وحتى 1976 بعد أول مناظرة تم نقلها بالتلفاز التي جرت بين المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون -الذي كان يعتقد أن الفوز محسومٌ له نتيجة للمدة التي قضاها كنائب للرئيس دوايت أيزنهاور، فضلاً عن الثقافة القانونية والسياسية التي يتمتع بها- في مواجهة الشاب الديمقراطي جون كنيدي، بعد تلك المناظرة الشهيرة توقفت المناظرات لمدة ست عشرة سنة، ليتم استئنافها عام 1976 بمناظرة المرشح الديمقراطي جيمي كارتر -القادم من مزارع الفول السوداني في ولاية جورجيا- مع رئيس الصدفة المرشح الجمهوري جيرالد فورد التي تركزت على مواجهة الاتحاد السوفيتي في ذلك الحين، ولتستمر بعد ذلك المناظرات الانتخابية كإحدى أهم وسائل التواصل بين المرشح الرئاسي وناخبيه.

تُعدُّ المناظرة التي جرت في 26 أيلول عام 2016 بين المرشحينِ الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطي هيلاري كلينتون في جامعة هوفسترا في لونج آيلاند بنيويورك هي المناظرة التي حظيت بأوسع متابعة منذ تأريخ أول مناظرة انتخابية جرت في الولايات المتحدة الأمريكية عبر تأريخها، باعتبارها البوابة التي سيأتي عبرها الساكن الجديد للبيت الأبيض، وقد اقتصرت هذه المناظرة على المرشحين الديمقراطي والجمهوري بعد تعذر حصول بقية المرشحين على عتبة العشرة بالمئة التي تؤهلهم للمشاركة في المناظرات.

من المعتاد في جميع المناظرات الانتخابية السابقة أن يكون هناك موضوع أساسٌ يبرز من بين بقية الموضوعات التي يركز عليها المتنافسون مثل المناظرة الشهيرة التي جرت في انتخابات 1860 بين عضو الكونغرس إبراهام لينكولن الجمهوري والسيناتور ستيفن دوغلاس الديموقراطي، التي تركزت على موضوع تجارة الرقيق وامتلاكهم، إلّا أن هذه المناظرة الأخيرة قد تركزت على شخصية المتنافسين أكثر من أفكارهم.

على الرغم من أن المناظرات الانتخابية لا يمكن بأي حال من الأحوال عدّها مؤشراً قاطعاً في تحديد الفائز بالانتخابات القادمة، ولكنها تبقى ذات أهمية كبيرة في دراسة توجهات الناخب الأمريكي؛ لذلك يكون استعداد المرشحين فيها محسوباً بدقة كبيرة ابتداءً من الملابس، وحتى طريقة الحديث، والنظرات، ومستوى الصوت فالجميع يتذكر كيف أن العرق الغزير الذي ظهر على وجه نيكسون في مناظرة عام 1960 ضد المرشح الديمقراطي جون كنيدي كان له الدور الكبير في هزيمة نيكسون، حيث بدا متعباً، وغير واثق من نفسه، على الرغم من ثقافته القانونية العالية، حيث نراه خسر في الولايات التي كان البث التلفزيوني منتشراً فيها في حين أنه عُدَّ فائزاً في تلك المناظرة في الولايات التي كانت تستمع للمناظرة من طريق المذياع مثل ولاية أركنسو.

في مناظرة (كلنتون وترامب) كان واضحاً أن كلّاً من المرشحين قد استوعبا كثيراً من الدروس التي أفرزتها المناظرات الانتخابية عبر التأريخ، فقد دخل كلاهما بكامل الأناقة وبمكياج كامل أضفى عليهما شكلاً شبابياً وحيوياً، وكان من الملاحظ وجود العلم الأمريكي على صدر ترامب، مما يذكر بالعلم الذي كان على صدر جورج بوش الابن في المناظرة التي تمت مع كيري، مع اختفاء الانتفاخ الذي ظهر على الجاكيت الذي كان يرتديه جورج بوش الابن الذي انتشرت على إثره إشاعة بأن جورج بوش الابن كان يتلقى توجيهات عبر مايكروفونات سرية في حين كان المكياج على وجه السيدة كلنتون -فضلاً عن الفستان الاحمر الذي ارتدته- يعطيها حيوية وشباباً أكثر؛ في محاولة لجعل الناس تنسى الوعكة الصحية التي أصابتها قبل مدة، وقد نجحت في ذلك بصورة كبيرة حرمت ترامب من التعكُّز على العامل الصحي الذي سبق وأن أفاد منه بيل كلنتون في مناظرته مع بطل حرب فيتنام ماكين.

أدركت السيدة كلينتون أن ترامب سوف يحاول توجيه الأنظار إلى العامل الصحي في بداية المحاورة؛ لذلك قررت أن تحرمه من هذا السلاح، فبدأت بالهجوم بتوجيه الأنظار إلى أن ترامب يعيش في عالمه الخاص في إشارة إلى أن تعليقاته وآراءه غير واقعيين، سالبةً منه في هذا سلاح السن والصحة، وهو الأسلوب نفسه الذي اتبعه الرئيس الجمهوري رونالد ريغان في مواجهة الديمقراطي ولتر مونديل الأصغر سناً حينما حول عامل صغر السن إلى نقطه سلبية ضد منافسه.

كان الجزء الأول من المناظرة مخصّصاً للتوجهات الأمريكية، وقد نجح ترامب في إدارة المناظرة، ليحمل كلنتون كلَّ التململ الذي أصاب المواطن الأمريكي من أخطاء سياسات إدارة أوباما، وكان واضحاً أن ترامب كان مستعداً بنحوٍ كبيرٍ لمناقشة هذا الموضوع ولاسيما فيما يتعلق بموضوع الضرائب. بدأت المناظرة بملاحظات تبادلها كلا المرشحين تتعلق بموضوع قضية البريد الإلكتروني لهيلاري كلنتون، وهو السلاح الذي كان يعتمد عليه ترامب في تدمير صورة السيدة كلينتون، ولكن كانت تقارير مكتب التحقيقات الفيدرالية قد سبقته في سحب هذا الملف منه حينما أعلنت أن التحقيقات لم تثبت أي عمل جنائي ممكن أن يدين كلينتون، وقد ردت السيدة كلينتون بإدارة موضوع التقرير الضريبي لترامب، وردُّ الأخير كان واضحاً بأنّه قد أعدَّ نفسه للهجوم بنحوٍ جيّد، ولكنَّه لم يستعد للدفاع، وقد سجلت عليه في رده على موضوع الضرائب أول محاولة لعدم قول الحقيقة حينما قال إنه سيعلن إقراره الضريبي بعد أن تنتهي دائرة الضرائب من مراجعتها، في حين أنه لا يوجد ما يمنع الشخص من كشف بياناته الضريبية حتى أثناء المراجعة، إلَّا أنه بدلاً من التوقف عند هذه النقطة انتقل إلى التذكير بموضوع قيام كلنتون بمسح 33 ألف رسالة إلكترونية، وكان ردُّها هو التذكير بأن نجاح ترامب في بناء ثروته ما كان ليحصل لولا أن والده قد منحه أربعة عشر مليون دولار، وهو ما حاول ترامب أن ينكره بالتقليل من مستوى الدعم الذي حصل عليه من والده، ولكن رده لم يصمد أمام السجلات التي أظهرتها صحيفة وول ستريت جورنال.

 وتم تسجيل أول محاولة من كلينتون بإخفاء الحقيقة، حينما ذكرها ترامب بتأييدها لاتفاقية النافتا (اتفاق التبادل الحرّ بين دول أمريكا الشمالية)، لتقول إنها لم تؤيدها، بل قالت إنها كانت (تأمل)، ولكن بالرجوع إلى تصريحاتها نجد أنها أطلقت على تلك الاتفاقية بأنها اتفاقية (القواعد الذهبية)، واتضح من وقائع هذا الجزء أن ترامب كان مستعداً بنحوٍ كبيرٍ، ونجح في بداية المناظرة، ولكن انشغاله في معارك جانبية قد شغله عن استخدام أقوى أسلحته الذي ساعده في هزيمة بقية المرشحين الجمهوريين، وهو (سلاح التوازن بين المصاريف الاتحادية في الموازنة العامة)، استطاعت كلينتون تحويل مسار المناظرة في هذا الجزء في النهاية، حينما أثارت موضوع إعلان ترامب للإفلاس ستَّ مرات، وحين جاءت هذه اللحظة طغى الارتباك على ترامب ليلجأ إلى النكران بالقول: إنها كانت أربع مرات، وليس ستّاً، وإنه استخدم القانون كما هو، وهذا الردُّ لم يصمد أمام السجلات العلنية التي تثبت أنه أعلن الإفلاس ستّ مرات.

انتقل النقاش بعد ذلك إلى مجال الأمن، حيث ركز ترامب نقاشه على إثارة الخوف لدى المواطن الأمريكي، حينما أشار إلى الحاجة إلى ضبط الأمن وحماية الشارع من المهاجرين غير الشرعيين الذين يحملون السلاح في الشارع، لتقفز كلينتون إلى تحويل المسار، بقولها إن ترامب قد أقام دعايته على الكذبة التي تقول إن الرئيس أوباما ليس مواطناً أمريكياً، وهو ما لم يستطيع ترامب أن يقدم أي دليل على نفيها، مثيرة بذلك مشاعر الأفارقة الأمريكيين وذوي الأصول المكسيكية ضد منافسها.

كان واضحاً من مجريات المناظرة أن ترامب يعتمد بصورة كبيرة على إثارة المخاوف، وكان ناجحاً في التحكم بأدواته الاستعراضية، واستخدام لغة الجسد في نقل تلك المخاوف إلى المشاهدين والمستمعين، كما فعل حينما تناول موضوع داعش وانتشارها، وإلقاء اللوم على الإدارة الأمريكية وكلينتون جزءٌ منها؛ لذلك فإن استطلاعات الرأي التي تمت أثناء المناظرة كانت لصالح ترامب ولكن ذلك لم يستمر طويلاً بعد انطفاء الأضواء، ولاسيما بعد أن ردت كلينتون بحزم بأنها على الأقل لديها خطة لمحاربة داعش، وكانت هذه اللحظة أقوى تعريض بأسلوب ترامب، وعدم امتلاكه الخبرة في التعامل مع حل المشكلات التي أعادت إلى الأذهان كلمات بوش التي حسمت له الفوز على جون كيري، حينما انتقد كيري احتلال العراق تحت إدارة بوش الأولى، وحينما كان كيري يستخدم أقوى أسلحته، وكانت كل الاستطلاعات تشير إلى فوز كيري ليرد بوش بالقول: “إن عراقاً حُرّاً سيساعد على جعل إسرائيل أكثر أماناً، وهذا الأمر من شأنه أن يعزز وضع الإصلاحيين في إيران”،  وبهذه الكلمات حُسِمَت الانتخابات لصالح بوش.

من ناحية هيلاري كلينتون -المحامية وخريجة جامعة يال- فقد اعتمدت على خبراتها السياسية، وحسِّها القانوني في البحث في سجلات خصمها القديمة، فقد ركزت على حوادث العنصرية والعنف الأخيرة التي انتشرت بين الأمريكيين السود وقوات الشرطة الأمريكية، وذكرت أن ترامب اتُّهم بالعنصرية بسبب رفضه تأجير المنازل التي كان يقوم ببنائها للأميركيين من أصول أفريقية، والحقيقة أنه تعرض للمساءلة من قبل الشرطة الأميركية مرتين لهذا السبب، واتهمت هيلاري أيضاً منافسها بأنه لم يسدد مستحقات العمال الذين يعملون لديه.

لقد تضاربت الصحف في تغطيتها لنتائج المناظرة فبعضها منح السبق لكلينتون في حين أن مراكز استطلاع أخرى منحت السبق لترامب، في حين كانت هناك مجموعة ثالثة عدّت النتيجة متعادلة.

إن هذه المناظرة هي الأولى من ثلاث مناظرات جرت العادة أن تتم قبل الانتخابات، فالأولى والثانية يتم خلالها تقدير قدرة المرشح على الدفاع عن خططه ووجهات نظره، أما المناظرة الثالثة فهدفها إيضاح قدرة هذا المرشح على عرض آرائه بنحوٍ يجعل منه إنساناً مقبولاً من قبل الناخبين.