سارت المفاوضات الاخيرة بين مجموعة ( 5+1 ) وايران بخطى متسارعة ومتفائلة، حيث دخل الطرفان في ظل توقعات بالتوصل الى حل وسط بعد سنوات من الركود في المفاوضات، التي اختتمت باتفاق لوزان الذي سينتهي الى اتفاق شامل في 30/ حزيران 2015.

وقد عدّه بعض الخبراء والمراقبين والمحللين بانه اتفاق ” تاريخي ” و ” انتصار مزدوج “، للدبلوماسية الامريكية والاوربية من جانب والدبلوماسية الايرانية من جانب اخر.

ولهذا السبب ولاسباب اخرى متعلقة بالاكتشافات الامريكية في موارد الطاقة الصخرية، ستكون منطقة الشرق الاوسط على بدايات مرحلة جديدة من العلاقات وتوازنات القوى التي ستؤدي الى تغيير شكل المنطقة ومعادلاتها.

لاشك ان اسرائيل والدول العربية والخليجية تحديدا تمثل اطرافا رئيسة معنية بالسياسة الامريكية تجاه ايران وبرنامجها النووي، فإن اي حوار امريكي – ايراني يجب الاهتمام به لانه يمس صميم معادلة توازن القوى، وقضية الامن الاسرائيلي والخليجي.

لذا فان اي نوع من هذه الحوارات التي تقرب وجهات النظر، تثير مخاوف حقيقية ومشروعة لدى هذه الاطراف، ولهذه المخاوف لدى دول الخليج العربي مسوغاتها من خطورة السيناريوهات المحتملة من الحوار بين االولايات المتحدة الامريكية وايران على امنها، فان انتهى اتفاق لوزان كما هو متفق عليه في 30/ حزيران 2015 الى اتفاق تسوية شاملة، تتخلى بموجبه ايران عن برنامجها النووي مع ضمان تعاون دولي – ايراني لانتاج الوقود النووي للاغراض السلمية فقط مقابل تثبيت طموحاتها ومكانتها في مناطق النفوذ القريبة منها، فان هذا السيناريو يعني: الاقرار بنفوذ ايران على حساب الاطراف الخليجية.

ولايخفى على متابع العلاقة المتداخلة بين امن الطاقة العالمي والصراعات الاقليمية في منطقة الشرق الاوسط، إذ كانت هذه البديهة التحليلية موضع ارتكاز منذ عقود لتحليل السياسة الامريكية وانخراطها بشكل مباشر او غير مباشر في صراعات المنطقة.

لكن الصورة لم تعد كالسابق وخصوصا بعد الاكتشافات الامريكية لموارد الطاقة الصخرية، اذ لم تعد ندرة الموارد في الطاقة مقلقة لصانع القرار الامريكي ، بل ان هذه الاكتشافات غيرت صورة المنطقة واهميتها في المدرك الاستراتيجي الامريكي، اذ تحولت من منطقة عالية الاهمية في اولويات استراتيجية الامن القومي الامريكي الى منطقة مهمة من مناطق العالم.

 وقد استتبع هذا التحول لصورة المنطقة في الادراك الاستراتيجي الامريكي تحولا آخر هو تغيير نمط الادارة الامريكية لصراعات المنطقة، الذي بدا واضحا بانخفاض مستوى الحماس لديها بالانخراط العسكري المباشر في تلك الصراعات، مقارنة كما يحدث في السابق لتامين امدادات الطاقة .

وتاسيسا على هذه الرؤية فان نظاما جديدا من توازن القوى قيد النشوء لسد الفراغ الذي يحدثه التراجع الامريكي النسبي من ادواره في المنطقة، وهذا يعني ان الولايات المتحدة الامريكية ستبقى لاعبا في الشرق الاوسط لضمان مصالحها، مع حرصها على عدم الانخراط العسكري المفرط، وكان لهذا التراجع عن الادوار في المنطقة شواهد بدت جلية في انسحاب قواتها من العراق ، وربما قريبا الانسحاب من افغانستان، واحجامها عن التدخل العسكري المباشر في سوريا، فضلا عن التفاوض مع ايران بشأن برنامجها النووي الذي انتهى اخيرا باتفاق لوزان. هذه الشواهد مغايرة تماما عما كان في تسعينيات القرن الماضي وتواجدها في مياه الخليج العربي، او كما حدث في العراق عام 2003 وقبلها افغانستان عام 2001.

هذا التراجع في الدور الامريكي في المنطقة واصرارها على حسم موضوع البرنامج النووي عن طريق الحوار، يجعل موازين القوى مؤاتية لايران، وهنا لابد من الاشارة الى ان طيلة المسيرة التفاوضية الماراثونية الامريكية-الايرانية بشأن البرنامج النووي الايراني ثبتت نقطة خلاف رئيسة اساسية وهي “الملف النووي الايراني” ولم تتطرق الى نفوذ ايران في المنطقة الذي عدّه البعض اعترافا امريكيا ضمنيا بهذا النفوذ. مما جعل نقطة الخلاف الرئيسة ” البرنامج النووي” في نظر بعض المحللين هي نقطة تلاقي وتعاون وتفاهم اقليمي بين ايران والولايات المتحدة الامريكية.

ويرى المراقبون ان الدور المرتقب الذي ستلعبه ايران في الترتيبات الاقليمية القادمة بحكم نفوذها الذي يمتد من العراق الى جنوب لبنان وكذلك نفوذها في اليمن، سيكون وضعا مناسبا للمصالح الامريكية الجديدة في المنطقة، وهو نشوء نظام اقليمي جديد يخفف عنها الاعباء الامنية والعسكرية.

ان هذه الحقائق واضحة لدى النخبة السياسية الايرانية وتحديدا الدائرة حول الرئيس روحاني التي اتخذت من المفاوضات النووية مرتكزا لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الامريكية، سعيا لرفع العقوبات الاقتصادية عن ايران اولا، وثانيا لملء اقصى مايمكن من الفراغات الاقليمية التي ستتركها الولايات المتحدة الامريكية خلفها في الشرق الاوسط.

مع وضوح الرؤية هذه للتوجه الامريكي الجديد في المنطقة الذي يترتب عليها ان نظاما اقليميا قيد النشوء والتبلور، ربما لايكون لدول الخليج وفي مقدمتها السعودية نفس مكانتها في توازن القوى الحالي، وقد تعززت هذه الرؤية بنجاح مفاوضات لوزان، فضلا عن مفاوضات جنيف2 التي لم تنتج الحل الذي ترغب السعودية تحققه في سوريا ، واستمرار تثبيت النفوذ الايراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن ، كل هذه العوامل دفعت السعودية الى معارضة السياسة الامريكية في اكثر من مناسبة، وهي العوامل ذاتها التي جعلت السعودية تتخلى عن التحفظ في سياستها الاقليمية والانخراط اكثر في ساحات المشرق العربي في محاولة منها لموازنة النفوذ الايراني والدخول الى الترتيبات الاقليمية الجديدة باقل الخسائر، ولعل مايزيد المازق السعودي استحكاما انها لابديل لها عن الولايات المتحدة الامريكية، وان موازين القوى الراهنة في المشرق العربي لايمكن تعديلها بسهولة، فهي نتيجة تراكمية لاكثر من عقد من الزمن ممتدة منذ 2003 والى الان، ظهرت مفاعيلها بانسحاب القوات الامريكية من العراق، فضلا عن التراجع الواضح من قبل الولايات المتحدة الامريكية من ادوارها في منطقة الشرق الاوسط .

وخلاصة القول ان ايران دولة مهمة وتشكل رقما صعبا في المعادلة الامنية الاقليمية لاستقرار المنطقة، لذلك لايمكن اهمالها في الترتيبات والادوار الاقليمية الجديدة، وعلى دول المنطقة التعاطي مع هذا الواقع القديم الجديد انطلاقا من السعي للحفاظ على الامن والاستقرار الاقليمي.